على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية نشرت العديد من وسائل الإعلام الروسية، على غير ما هو مُعتاد، تقارير ودراسات عن الوضع فى سوريا تضمنت انتقادات شديدة للأداء السورى تجاه المصالحات السياسية المقترحة مع المعارضة والأكراد، وتضمنت إشارات إلى شيوع الفساد فى الحكومة وكثرة القوى النافذة المؤيدة للنظام وصراعاتها من أجل المزيد من نهب الموارد ما يزيد من ارتفاع مستوى الفقر لعموم السوريين. كما حمّلت بعض المقالات القيادة السورية المسئولية فى الجمود الراهن فى مجمل العملية السياسية المعروفة بعملية سوتشى، لاسيما إفشال كتابة دستور جديد يؤسس لإعادة بناء النظام السياسى السورى مراعيا المتغيرات التى حدثت فى السنوات التسع الماضية. وفى الإجمال عكست تلك التقارير واستطلاعات الرأى رغم كونها غير علمية والتى أشارت إلى تدنى نسبة المؤيدين للرئيس بشار الاسد الى 32 فى المائة فقط، نوعا من التململ الروسى بشأن عدم إحراز تقدم جوهرى فى العملية السياسية وغياب المرونة فى التعامل الحكومى مع القوى السياسية السورية الأخرى، فضلا عن الرسائل الضمنية لكل القوى الدولية النافذة فى الشأن السورى لاسيما الولايات المتحدة وتركيا وايران واسرائيل، بأن موسكو على استعداد للنظر فى بدائل أخرى إذا استمرت المعالجة السورية الرسمية قائمة فقط على النهج العسكرى وتجاهل الأثمان السياسية الواجب دفعها.
الواجب ملاحظته فى هذا الأمر أن الصحافة الروسية ليست بعيدة عن التوجهات الرسمية للدولة، وبالتالى فهى تعكس ما يدور فى داخل الكرملين وليست بعيدة عنه. ولذا فمن المهم النظر فى الرسائل التى تضمنتها تلك الحملة الصحفية باعتبارها جرس إنذار بأن نتائج جمود العملية السياسية لن تتحملها موسكو، بل يتحملها النظام السورى أولا وأخيرا. وثانيا أن الإشارات التى دارت حولها التكهنات بتخلى موسكو عن دعم الرئيس بشار الأسد لها أكثر من جانب، فالبحث عن بديل ليس مسألة يسيرة، ولكن أيضا استمرار النهج ذاته المسئول عن تجاهل متطلبات العملية السياسية وفقا للقرار الدولى 2254 لم يعد مقبولا من موسكو، وثالثا فإن اقتراب موعد تطبيق الولايات المتحدة للقانون المعروف باسم “قانون قيصر” فى يونيه المقبل والذى يقر توقيع عقوبات أمريكية متعددة المستويات لكل الأطراف التى تدعم حكومة الرئيس بشار الأسد يمثل مصدر قلق كبير بالنسبة لموسكو باعتبارها القوة الداعمة الأكبر عسكريا واقتصاديا لحكومة الأسد، والتى قد يطولها بعض العقوبات الأمريكية، الى جانب إيران بالطبع. وهو أمر يأتى فى ظل ظروف اقتصادية غاية فى الصعوبة بالنسبة لروسيا التى تعانى من أثار كارثية كبرى من انتشار وباء كوفيد – 19، وبالتالى فهى ليست على استعداد لتحمل المزيد من الضغوط الاقتصادية بسبب دعم الرئيس بشار فى الوقت الذى لا يتجاوب فيه بمرونة سياسية تعتبرها موسكو أساسية لعبور المرحلة الأصعب التى يمر بها البلدان.
تطبيق القانون الأمريكي “قيصر” ومهما كانت الانتقادات التى توجه للقانون عربيا أو دوليا، فهو فى واقع الأمر يمثل ضغطا وقيدا فى الآن نفسه على أية جهود عربية تُبذل من أجل استعادة سوريا لعضويتها فى الجامعة العربية، أو تقديم أى دعم اقتصادى محتمل على خلفية إعادة إعمار سوريا، إذ قد يتعرض الساعون إلى تلك الجهود لعقوبات أمريكية متعددة المستويات، فى وقت لا يحتاج فيه أحد إلى مزيد من العقبات والمشكلات الاقتصادية أو السياسية مع واشنطن سواء فى زمن وباء كوفيد -19 أو ما بعده.
بالعودة إلى الموقف الروسى والقائم على مراعاة المصالح الكبرى لكل من تركيا والولايات المتحدة وإسرائيل فى الشأن السورى ككل، مع الميل الى تخفيف الوجود والنفوذ الإيرانى فى سوريا، وفى الآن نفسه الحفاظ على المكاسب الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية التى حققتها موسكو فى سوريا منذ تدخلها العسكرى المباشر فى سبتمبر 2015، يمكن القول أن السياسة الروسية لن تضحى بالنظام السورى شريطة أن يبدى المزيد من المرونة فى العملية السياسية، وأن يتخلى عن أسلوبه فى إفشال كتابة دستور جديد، وأن يتخلى الرئيس بشار عن فكرة إجراء الانتخابات وإعادة انتخابه رئيسا فى 2021 قبل أن تتم عملية سياسية شاملة، وأن يتخذ خطوات أكثر انفتاحا فى التعامل مع المعارضة السورية ومع الأكراد، وأن يقتنع بأن العمل العسكرى فى إدلب غير مسموح به فى ظل الظروف الراهنة، فضلا عن أن موسكو لن يكون بمقدورها القيام بأى جهد فردى أو بالتعاون مع قوى دولية أخرى فى إعادة إعمار سوريا قبل اتمام العملية السياسية الشاملة، والتى تمثل شرطا دوليا أساسيا قبل النظر فى إعادة إعمار سوريا والتى تتطلب ما يزيد عن 400 مليار دولار كمرحلة أولى تمثل خمسين ضعف إجمالى الناتج القومى السورى.
كافة المعطيات السورية داخليا دوليا تدفع إلى تغيير النهج والاستراتيجيات. فسوريا الآن وإن حققت بعض انتصارات عسكرية ضد الجماعات المسلحة خلال العامين الماضيين، واستطاعت أن تمد نفوذها إلى مساحات واسعة كانت قد خرجت عن سيادتها قبل التدخل العسكرى الروسى، فقد وصل النهج العسكرى إلى أقصاه، فى الوقت ذاته فإن القدرات الذاتية السورية وبدون دعم روسى مؤكد وتنسيق عالى المستوى، وللأسف الشديد لا يمكنها أن تحقق أى تحولات جذرية فى مناطق الشمال السورى التى أمتد فيها النفوذ التركى وترسخ، والمسنود بتفاهمات عميقة بين الرئيسين بوتين وأردوغان، كما أن القدرة على إخراج القوات الأمريكية ليست واردة اللهم إذا كانت جزءا رئيسيا من عملية سياسية كبرى تتم بموافقات واضحة روسية أمريكية تركية وقبول ايرانى لنتائجها التى ستتضمن محاصرة النفوذ الايرانى فى سوريا وتقليصه إلى أدنى حد، وبما لا يزعج إسرائيل. وهو مأ المح إليه المبعوث الأمريكى الخاص بالازمة السورية، والتى يبدو أن موسكو على استعداد لمناقشة تلك الصيغة جنبا إلى جنب مباحثات أخرى تمس العلاقات الأمريكية الروسية تتعلق بتخفيف العقوبات الامريكية والوصول الى اتفاقيات استراتيجية جديدة بشأن الأسلحة النووية والصواريخ متوسطة المدى. وهى قضايا تدخل فى صميم الأمن القومى الروسى ومن غير المتصور أنه سيتم التضحية بها من أجل دعم حكومة لا تبدى مرونة كافية لاعادة بناء نفسها ومراعاة متطلبات الدعم الدولى المشروط.
نقلا عن جريدة الأهرام، الإثنين 11 مايو 2020.