احتفى تحالف (الوفاق، تركيا، قطر) بالسيطرة على قاعدة “الوطية” الاستراتيجية في الغرب الليبي في مظاهر عكست العديد من الدلالات، منها مدى إصرار هذا التحالف على تغيير ميزان القوة في ليبيا لصالح ميليشيات حكومة الوفاق بما يُمهد الطريق لتموضع هذه القوى في غرب ليبيا، لا سيما تركيا، وبالتبعية تحكمها في القرار السياسي والعسكري في المرحلة المقبلة. وبالتالي، يمكن القول إن عملية إسقاط “الوطية” تمثل نقطة تحول جديدة في المشهد الليبي ستكون لها انعكاساتها المباشرة والفورية على على مسار الأزمة الليبية باتجاه إنتاج دورة جديدة من الصراع في البلاد تضاف إلى الدورات السابقة التي شهدتها على مدار ما يقرب من عشر سنوات بعد الإطاحة بنظام العقيد “القذافي”. كذلك، رجح أن يكون مستوى تأثير العامل الخارجي أكثر حضورًا في معادلة تلك التفاعلات، في مؤشر على أن تلك الدورة المقبلة قد تكون هي الأكثر تعقيدًا في الصراع الليبي.
قاعدة “الوطية” في حسابات الصراع
تعكس قاعدة الوطية في حسابات الصراع أحد أبعاد الدور التركي في الصراع الليبي وأهدافه ودوافعه وأهدافه الاستراتيجية، ومنها على سبيل المثال:
1- الوزن الاستراتيجي للقاعدة: من المتصور أن الوزن الاستراتيجي للقاعدة يطرح أهمية هذه القاعدة ودورها المستقبلي باعتبارها أحد أثقل الأوزان الاستراتيجية في ملف الأزمة الليبية، فهي أكبر قاعدة جوية في ليبيا، ومن أكبر القواعد الجوية في شمال إفريقيا. وتقع القاعدة على بعد حوالي 140 كلم من طرابلس، في الجنوب الغربي منها، كما تقع على بعد 30 كلم من الحدود التونسية، وهي القاعدة الوحيدة في ليبيا، التي لا يوجد بها مطار مدني، وتمتد في أرض مكشوفة لمساحة 40 كلم مربع، وتعتبر مركز العمليات الجوية لقوات الجيش الوطني الليبي في غرب البلاد.
ويمثل الوزن الاستراتيجي أكثر من بعد في هذا السياق، بالنظر لما يشكله موقعها من أهمية استراتيجية، والاستيلاء على قاعدة “معيتيقة” الجوية في الغرب أيضًا، ومن ثم يمكنها (تركيا) فرض نطاق كامل للسيطرة الجوية في غرب البلاد التي أصبح معظمها تحت سيطرتها تقريبًا بعد أن استولت مؤخرًا على صبراتة وصرمان والعجيلات وراقليدين. إضافة بالطبع إلى المظاهر الرمزية لفقدان قاعدة بهذا الوزن وبهذه الأهمية.
2- المطامع التركية في الاستيلاء على القاعدة: تشير الإجراءات التي اتخذتها تركيا في عملية إسقاط “الوطية” منذ بدء حصارها في مايو الجاري، وما أعقب هذا الحصار من إجراءات أخرى، إلى إصرار تركيا على السيطرة على هذه القاعدة تحديدًا، ما يؤكد مطامعها في الاستيلاء عليها، وتحويلها إلى قاعدة تركية مركزية في غرب ليبيا، وربما ستكون أحد أهم مرتكزاتها في الشمال الإفريقي.
3- إعادة تشكيل أدوات الصراع الليبي استعدادًا للمرحلة التالية: فالزيارة التي قام بها رئيس المخابرات التركية “هاكان فيدان” إلى طرابلس في بداية هذا الشهر، لم تقتصر على عملية الإشراف على تطوير خطة الهجوم؛ وإنما تضمنت أيضًا إعادة تشكيل أدوات المرحلة المقبلة، والتي سيكون لها دور لتنظيم القاعدة، حيث جرى تعيين “خالد الشريف” القيادي في التنظيم رئيسًا لغرفة العمليات العسكرية للوفاق، كما قاد عددًا من القيادات التابعة للقاعدة، منهم “الدباش”، المصنف كإرهابي دولي، العمليات العسكرية في غرب ليبيا، ومنها السيطرة على صبراتة. وقد استفادت تلك القيادات من آلاف الإرهابيين التابعين للقاعدة، الذين تم نقلهم من سوريا. كما أشرف على عملية مخابرات واسعة شارك فيها مجموعة من ضباط المخابرات التركية وشاركهم فيها قيادات إخوانية ليبية استهدفت تغيير ولاءات بعض القبائل التي سبق اتفاقها مع المشير “حفتر”، خاصة بعض بطون الزنتان والقبائل التي كانت تتخذ موقفًا محايدًا.
4- إعادة تأهيل القاعدة عسكريًّا: على النحو الذي أعادت به تركيا تأهيل قاعدة “معيتيقة”، بأنظمة دفاعية ونظم هجومية للتأكيد على القدرة على القيادة والدفاع في المرحلة المقبلة، فقد أرسلت أنقرة أسلحة متطورة إلى قوات الوفاق، سواء عبر أسطولها البحري العسكري والمدني، وقامت باستيراد أسلحة من جنوب إفريقيا، وذلك بتمويل قطري، وعبر المطارات والموانئ التونسية.
5- توظيف العلاقات مع دول الجوار: للاستفادة منها كعامل دعم لوجستي في التحركات التركية تجاه ليبيا في ظل وجود بعض القيود التي ربما تواجهها في المرحلة الحالية والمقبلة، مثل إطلاق الاتحاد الأوروبي للعملية “إيريني” لمراقبة حركة الأسلحة التركية إلى ليبيا. وفي مقدمة هذه العلاقة تأتي تونس في المقدمة بالطبع في ضوء دور تنظيم إخوان تونس حاليًّا في تهيئة الأجواء لتركيا لتثبيت أقدامها في غرب ليبيا. وهناك أنباء متواترة -في هذا السياق- عن العديد من الخدمات اللوجستية التي قدمتها تونس لهذا الغرض، منها فتح أجوائها لوصول الطائرات التركية المحملة بالأسلحة بدعوى أنها تنقل أدوات ومعدات طبية لجائحة كورونا.
دلالات التحول في المشهد الليبي في ضوء الانخراط العسكري التركي
تبلورت -في هذا السياق- بعض الحقائق حول الوضع العسكري في ليبيا، والتي تُشكل بدورها عددًا من الدلالات في سياق تحولات المشهد الراهن، ومنها على سبيل المثال:
1- استغلال أنقرة الانقسام الأوروبي: راهنت تركيا -ولا تزال- على الموقف الدولي والأوروبي الضعيف، فواصلت اختراقه، وواصلت انخراطها العسكري في ليبيا بصورة كبيرة، وسارعت بتحقيق إنجاز عسكري وتكثيف المكاسب المتحققة قبل بدء العملية “إيريني”.
2- قصور خطة “حفتر” للسيطرة على طرابلس: ثبت خطأ المشير “حفتر” في السيطرة على طرابلس، من خلال القصف الجوي، مع عدم توفر الأعداد الكافية من القوات البرية، التي تُحقق له السيطرة الميدانية، وفي ظل الرفض الدولي لذلك. كما أخطأ كذلك عندما أعلن وقفًا لإطلاق النار لمعالجة قراره الذي أعلنه بإلغاء اتفاق الصخيرات، وهو الأمر الذي استثمرته تركيا لتبرير تطوير عملياتها العسكرية من مدن الساحل الغربي لمحاصرة الوطية قبل الاستيلاء عليها.
3- تغيّر التوازن العسكري في غرب ليبيا: أسفرت مجمل العمليات العسكرية التركية عن تغيير التوازن العسكري في الغرب الليبي، خاصة مع انتشار ميليشيات الوفاق، المدعومة من القوات التركية، في مدن متعددة، مع ضمان عدم تعرض القواعد العسكرية التابعة لها لأي استهداف من قوات الجيش الوطني، خاصة مع تراجع سيطرة “حفتر” في غرب ليبيا على جنوب طرابلس وترهونة.
4- تراجع الدور الروسي: تؤكد مصادر ليبية أن الدعم العسكري الروسي لقوات “حفتر” قد توقف في الفترة الأخيرة، وأن شركة فاجنر، التي كان خبراؤها يشرفون على بعض العمليات خاصة الجوية، والدفاع الجوي قد انسحبوا، وأن ذلك تم في إطار تفاهمات روسية–تركية. وقد أثّر الموقف الروسي على قدرات منظومة الدفاع الجوي التي كانت كوادر فاجنر تديرها على قدرة الجيش الوطني في مواجهة الهجوم التركي، وهو ما سيُغري تركيا بتكثيف الهجوم عليه، خاصة في جنوب طرابلس وترهونة.
تداعيات استراتيجية
من المرجّح أن يترتب على سيطرة ميليشيات الوفاق على قاعدة الوطية عدد من التداعيات السلبية، سواء على قوات “حفتر”، أو على دول الجوار، أبرزها:
1- تصاعد النشاط الإرهابي في ليبيا ودول الجوار: تتصدر قيادات إرهابية بمساندة تركية العمليات العسكرية، وتتوافر أنباء عن تسلل مجموعات من المرتزقة القادمين من سوريا إلى الجنوب ومنطقة الحدود مع مالي وتشاد، غير المسيطر عليها، والتي سوف تربطها علاقات بالتنظيمات الإرهابية الموالية للقاعدة وداعش في منطقة الساحل، وقد تلجأ إلى تجنيد عناصر منهم.
2- إمكانية اتجاه أنقرة للسيطرة على الهلال النفطي: يتوقع أن تستهدف المعارك التركية القادمة السيطرة على منطقة الهلال النفطي، وإبعاد قوات الجيش الوطني الليبي عنها، وذلك لتحقيق مكاسب استراتيجية لتركيا، سواء في الاستفادة من البترول الليبي لمواجهة الأزمة الاقتصادية، أو سحب اتفاق الغاز إلى المنطقة الشرقية من ليبيا، والذهاب إلى أية حلول للأزمة الليبية من مركز قوي يُبقي على مكانة وثقل التيار الإخواني الموالي لها في موقع القوة.
3- تحويل أنقرة للوطية إلى قاعدة تركية: من المرجح أن تقوم تركيا بالتمركز في القاعدة المذكورة، وعقد اتفاق مع “السراج” لتكون قاعدة تركية مشروعة، ومن ثم توفير قاعدة جوية آمنة لطائراتها وبعيدة نسبيًّا عن تهديدات طائرات “حفتر”، وتكون نقطة انطلاق للاستراتيجية التركية في الشمال الإفريقي والقرن الإفريقي، وتستهدف من خلالها تهديد الأمن القومي المصري والوجود العسكري الإماراتي في ليبيا.
4- امتلاك أوراق لابتزاز أوروبا: سوف توفر السيطرة التركية على غرب وجنوب ليبيا، وسيلة إضافية لتوظيف ورقة اللاجئين والإرهابيين ضد الدول الأوروبية المناوئة لها، خاصة فرنسا.
في الأخير؛ يمكن القول إن التطورات الليبية في مجملها على النحو السابق تكشف عن عدد من المتغيرات الجديرة بالاهتمام، سواء فيما يتعلق بمسرح العمليات العسكرية أو مسارات الأزمة الليبية بصفة عامة، وكذلك وهو الأهم طبيعة وحجم الانخراط التركي في ليبيا وتداعياته على الأمن القومي المصري بصفة خاصة. ونؤكد هنا على أنه رغم تبريرات المتحدث باسم الجيش الوطني لما جرى في قاعدة الوطية؛ إلا أن الثابت أنها هزيمة عسكرية، وأن الاستناد إلى ولاءات قبلية أمر يحتاج إلى مراجعة وتحصين. كما أن خطة انتشار الجيش الوطني تحتاج إلى خطة عمليات تستند إلى الحجم والقدرات الحقيقية المتوافرة وأولويات الأهداف الاستراتيجية وما يسمح به الموقف الدولي على هذا المستوى، خاصة أن هناك نوعًا من المواقف غير الإيجابية من جانب بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة وروسيا تجاه الدور التركي في ليبيا والتعامل مع حكومة الوفاق، تصل أحيانًا إلى التواطؤ. وتكرار ممارسات تلك القوى في الأزمة السورية والحرب على الإرهاب، وبالنظر إلى ما أكد عليه السيد الرئيس “عبدالفتاح السيسي” حول تأثير التطورات الليبية على الأمن القومي المصري فإن ذلك يتطلب المبادرة بتكثيف الاتصالات مع القوى السياسية والقبلية لاستيعاب بعض التباينات التي تبلورت بينها مؤخرًا، وتحصينها من أية اختراقات إقليمية أو دولية، والنظر في بلورة موقف متماسك للقوى السياسية والعسكرية بخصوص مبادرة السيد رئيس مجلس النواب الليبي التي بدأت تشهد نوعًا من القبول الدولي.
إن الجيش الوطني الليبي لا يزال يسيطر على معظم أجزاء ليبيا، ورغم خسائره الأخيرة في منطقة الغرب إلا أنه يظل رقمًا أساسيًا في مسار الأزمة الليبية.