جاءت الاستجابة المتميزة للدول الآسيوية في مواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، في مقابل الأداء المتواضع لمعظم الدول الغربية، لتُثير الحديث حول فرضية القرن الآسيوي. إذ مثلت جائحة كورونا أزمة عالمية ذات تداعيات واسعة النطاق، محلية وعابرة للحدود، تحمل تأثيرات طويلة المدى. ونتيجة للطبيعة العالمية للفيروس، أضحت مواجهته والتعامل معه ذا شقين، الأول: اعتباره بمثابة اختبار عملي وواقعي لقدرة الدول على مواجهة الأزمات، والثاني: هو المقارنة بين الاستجابات المختلفة من أجل تصدر النموذج الأفضل. فقد أشار “باتريك وينتور” -المحرر الدبلوماسي بالجارديان- إلى أن الجائحة تحولت إلى منافسة حول قيادة العالم، مشيرًا إلى أن الدول التي تتصدى للأزمة بفعالية ستصبح هي الأكثر تأثيرًا.
القرن الآسيوي
كان القرن الآسيوي موضوعًا للبحث لسنوات عديدة، وتم استخدام هذا المصطلح في وقت مبكر من عام 1985 خلال جلسات استماع مجلس الشيوخ الأمريكي حول الأمن والمساعدة الإنمائية. ويُشير “القرن الآسيوي” إلى الدور المهيمن الذي من المتوقّع أن تلعبه آسيا في القرن الحادي والعشرين بسبب اقتصادها المزدهر والاتجاهات الديموغرافية. اكتسب مفهوم القرن الآسيوي الزخم بعد النمو الاقتصادي السريع للصين والهند منذ الثمانينيات، مما دفع كلًّا منهما إلى تصدر اقتصادات العالم.
في هذا السياق، اتجهت أغلب التحليلات إلى اعتبار القرن الحادي والعشرين قرنًا آسيويًا بامتياز، مثلما كان القرن العشرون أمريكيًّا، ومثلما كان القرن التاسع عشر أوروبيًّا. استندت هذه التحليلات إلى عددٍ من المؤشرات، أبرزها: أن آسيا تضم ما يقرب من نصف سكان العالم، وتنتج حوالي نصف الناتج المحلي العالمي، ويوجد بها ثلثا النمو الاقتصادي العالمي، كما تملك بلدانها أكبر احتياطيات العالم من العملة الصعبة. وتملك آسيا 4 ضمن أقوى 10 جيوش بالعالم (وفقًا لتصنيف جلوبال فاير باور 2020). إضافة إلى العديد من الاكتشافات العلمية والتكنولوجية، وكذا الجامعات المتميزة. كما أوضح مؤشر الابتكار العالمي الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو)، تصدّر العديد من البلدان الآسيوية مرتبة متقدمة في مؤشر 2019، بما في ذلك كوريا الجنوبية وهونج كونج والصين واليابان وماليزيا وفيتنام وتايلاند والهند. وكذا صنف مؤشر التحول الرقمي الآسيوي 2018، الذي نشرته مجلة “الإيكونوميست”، سنغافورة في المرتبة الأولى في العالم من حيث تقدم التكنولوجيا الرقمية.
وارتباطًا بذلك، نشر معهد ماكينزي العالمي بحثًا جديدًا في أكتوبر 2019، أوضح مدى تحول آسيا لتصبح مركز الجاذبية العالمي. معتبرًا أن التنوع في آسيا يُعد عاملًا محفزًا على تطورها، لافتًا إلى وجود ما يمكن اعتباره “أربع آسيات”، كل منها في مرحلة مختلفة من التنمية الاقتصادية. وأكد البحث أن الاختلافات بين مجموعات آسيا الأربعة يجعلها متكاملة، بطريقة تجعل التكامل قوة أساسية للتقدم. المجموعة الأولى، تضم الصين بوصفها اقتصاد المنطقة الراسخ والقوي، والتي أطلقت مبادرة “الحزام والطريق” في أواخر 2013 لتحقيق التكامل التجاري على مستوى العالم. المجموعة الثانية، تُعرف بــــــــ”آسيا المتقدمة” التي تملك التكنولوجيا ورأس المال مثل اليابان وكوريا الجنوبية. المجموعة الثالثة، تُعرف بـ”آسيا الصاعدة”، التي تضم مجموعة متنوعة نسبيًّا من الاقتصادات الناشئة الصغيرة التي لا تملك العمالة فحسب، بل تملك أيضًا إمكانات النمو. المجموعة الرابعة، تُعرف بـ”حدود آسيا والهند”، التي تملك أقل حصة من التدفقات داخل المنطقة تبلغ 31٪ فقط. بعبارة أخرى، تمتلك هذه المجموعة علاقات أوسع خارج آسيا كأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا.
استجابة متميزة
في هذا السياق، تتجه بعض التحليلات إلى أن الاستجابة المتميزة للقوى الآسيوية في التعامل مع جائحة كورونا جاءت لتمهد الطريق أمام البداية الفعلية للقرن الآسيوي، حيث تضمنت هذه الاستجابة ملامح مميزة نسبيًّا مقارنة بالعديد من الدول، على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا. ويُمكن إجمال هذه الملامح فيما يلي:
1- على المستوى السياسي، ورغم ما فرضته جائحة كورونا من “أزمة شرعية” على بعض الدول، إما بسبب غياب الشفافية فيما يتعلق بحقيقة الأوضاع، أو بسبب تواضع الأداء في مواجهة الأزمة؛ إلا أن الدول الآسيوية استطاعت أن تحقق مكسبًا سياسيًّا نسبيًّا في تعاملها مع الأزمة. على سبيل المثال، ورغم الانتقادات التي طالت الدولة الصينية بشأن طريقة الاستجابة الأولية للأزمة؛ إلا أن الرئيس الصيني اتجه في أعقاب ذلك إلى إعلان “حالة الطوارئ الصحية الأكبر” في تاريخ البلاد. وأقر بأن استجابة الصين للفيروس ربما واجهت “أوجه قصور”، وأن ثمة دروسًا يجب أن تُستفاد من التجربة. أي أنه تبنى خطابًا يُعزز المساءلة وليس خطابًا استبداديًّا يقلب الحقائق ويدعم إجراءات الدولة بشكل مطلق. كما استطاعت كوريا الجنوبية أن تقدم نموذجًا فريدًا تًمثّل في إجراء الانتخابات لاختيار أعضاء الجمعية الوطنية، ضمت ما يقرب من 29 مليون مواطن. في مقابل اتجاه أغلب الدول للتأجيل، مثل فرنسا التي اتجهت إلى تأجيل الجولة الثانية من الانتخابات المحلية (كانت مقررة في 22 مارس 2020).
2- على المستوى الاقتصادي، يمكن القول بشكل عام إن جائحة كورونا فرضت ضغوطًا اقتصادية على أغلب –إن لم يكن كل– دول العالم، وسط تعالي التكهنات بتصاعد حالة الركود على مستوى العالم. لذا، اتجهت أغلب الدول -ومن بينها الدول الآسيوية- إلى تبني حِزم دعم وتحفيز اقتصادية، كما أن اتساع حجم السوق الآسيوي سيحفز على تجاوز حالة الركود. وعلى الرغم من الأضرار الاقتصادية التي ضربت الاقتصادات الآسيوية جراء اضطرابات سلاسل التوريد؛ إلا أن بعض القوى الآسيوية استطاعت أن تتجاوز بعض الخسائر الاقتصادية الناجمة عن حالة الإغلاق عبر عدد من الإجراءات، من بينها الاعتماد الموسع على الفضاء السيبراني. على سبيل المثال، في الصين افتتحت iFlytek منصة “AI plus office”، التي توفر خدمات المكاتب عن بُعد للمؤسسات والأفراد، مما ساعد الشركات على التعاون بكفاءة. بجانب قيام شركة التجارة الإلكترونية JD العملاقة وشركة البريد Shunfeng Express والعديد من تطبيقات الأغذية الطازجة بتبني إجراءات أكثر مرونة. ويتوقف نجاح هذه البلدان في فتح اقتصاداتها بعد أزمة كورونا على تحقق سيناريو متفائل يقضي بالسيطرة على الفيروس بالنصف الثاني من السنة الجارية.
3- على المستوى الثقافي، كان تأثير هذا العامل مزدوجًا، فمن ناحية ساهمت القيم الآسيوية والإرث الثقافي في عدم عرقلة الإجراءات الاستثنائية التي تبنتها الدول لمواجهة الوباء في مقابل الدول التي شهدت حالة من التردد في الاستجابة كإسبانيا وإيطاليا. من ناحية أخرى، ساهمت الأزمة في بلورة وتعزيز صورة الثقافة والمنظومة القيمية الآسيوية. لفت المفكر الكوري الجنوبي “بايونج تشول هان” في مقالة بصحيفة “الباييس” الإسبانية إلى أن “كفاءة الاستجابة للوباء في الدول الآسيوية مثل اليابان أو كوريا الجنوبية أو الصين أو هونج كونج أو تايوان أو سنغافورة تستند إلى عقليتها الاستبدادية المستمدة من الإرث الثقافي للعقيدة الكونفوشيوسية، حيث الناس أقل ممانعة وأكثر طاعة وأكثر ثقة في الدولة من أوروبا”. وبالرغم من الطابع السلبي لتعليق “هان”؛ إلا أنه دلل على تصدر المنظومة القيمية والثقافة الآسيوية.
4- على مستوى الأنظمة الصحية، اتجهت أغلب دول العالم إلى السعي خلف الوصول إلى علاج أو مصل؛ إلا أن القوى الآسيوية بجانب هذا المسعى، عمدت إلى تبني سياسة تقنية في المجال الصحي تُعزز من قدرة الدولة على مواجهة الجائحة. على سبيل المثال: في الصين، تحملت بعض الشركات مثل Tencent Holdings Ltd وBaidu Inc وJD وiFlytek مسئولية الدخول إلى المعركة من خلال الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في التشخيص عن بعد، والفحص، والوقاية، والأمن الطبي. وكذا أطلقت Cloudminds عددًا من حلول الروبوت الذكية للوقاية من الأوبئة ومكافحتها، بما في ذلك روبوتات خدمة العزل، وروبوتات خدمة التوصيل، وروبوتات تطهير وتنظيف المستشفيات، وروبوتات قياس درجة حرارة الدوريات المتنقلة. كما استخدمت سنغافورة روبوتًا تم ابتكاره خصيصًا لمكافحة كورونا، يماثل في حركاته الإنسان لتعقيم المرافق وتطهيرها، كما يتم التحكم به عن بعد، ما يقلل مخاطر انتقال العدوى بين عمال النظافة.
5- على مستوى التعليم، جاء تعليق التعليم وإغلاق المدارس على رأس الإجراءات التي اتخذتها الدول لمواجهة فيروس كورونا. واتجهت بعض الدول، ومن بينها دول آسيوية، نحو التعليم عن بعد واستغلال المنصات الرقمية. على سبيل المثال، في الصين تم إطلاق منصة وطنية للتعلم عبر الإنترنت، بهدف الوصول إلى أكثر من 180 مليون طالب في المرحلة الابتدائية والثانوية. بالإضافة إلى أكثر من 20 منصة للمناهج عبر الإنترنت و24000 دورة لمؤسسات التعليم العالي، وكذا الوصول المجاني لمحتوى المكتبات والجامعات. وفي الهند، ووفقًا للموقع الإلكتروني للمنتدى الاقتصادي العالمي، أضحت منصة BYJU’S التي تأسست منذ 2011، شركة التكنولوجيا التعليمية الأكثر قيمة في العالم. ومنذ الإعلان عن دروس مباشرة live مجانية عبر تطبيق Think and Learn الخاص بها، فقد شهدت BYJU’s زيادة بنسبة 200٪ في عدد الطلاب الجدد، وفقًا لـ”مرينال موهيت”، الرئيس التنفيذي للعمليات في الشركة.
6- على المستوى الرقمي، اتّسم تعامل بعض الدول الآسيوية بالتميز في التعامل مع جائحة كورونا، عبر الإدارة الرقمية للأزمة التي مكّنتها من التعامل مع البيانات الضخمة Big Data، لاحتواء الأزمة والاستجابة السريعة لتداعياتها. على سبيل المثال: في الصين، هناك ما يقرب من 200 مليون كاميرا مراقبة، كثير منها مجهز بتقنية التعرف على الوجه عالية الكفاءة. ويمكن لهذه الكاميرات المزودة بالذكاء الاصطناعي مراقبة وتقييم كل مواطن في الأماكن العامة والمتاجر والشوارع والمحطات والمطارات. لذا، اتجهت بعض التحليلات الغربية إلى تزايد قدرة الصين على بيع ما اعتبره “الدولة البوليسية الرقمية” كنموذج ناجح ضد الوباء. وفي تايوان، ترسل الدولة في وقت واحد إلى المواطنين رسالة قصيرة لتحديد مكان الأشخاص الذين كانوا على اتصال بالأشخاص المصابين أو للإبلاغ عن الأماكن والمباني التي أصيب فيها الناس.
7- على مستوى التعاون الدولي، نلاحظ أنه في حين اتجهت أغلب الدول إلى الانكفاء على الذات، والتفكير في احتياجاتها الداخلية مثلما اتضح في قيام أوروبا بإدارة ظهرها لإيطاليا في بداية الأزمة، وقيام الولايات المتحدة بقطع علاقاتها عبر الأطلسية. قدمت القوى الآسيوية نموذجًا مختلفًا، سواء على صعيد التعاون الإقليمي أو الدولي. على سبيل المثال، قدمت الصين مساعدات عاجلة إلى ما يقرب من 83 دولة ومنظمة دولية لمكافحة فيروس كورونا مثل إندونيسيا وإيطاليا وفرنسا، وكذا منظمة الصحة العالمية والاتحاد الإفريقي. كما نوّه رئيس الوزراء الياباني إلى أن طوكيو ستساعد جنوب شرق آسيا في مكافحة تفشي المرض، بما في ذلك إنشاء مركز الآسيان للأمراض المعدية.
ولم يتوقف الأمر فقط عند دعم الحلفاء فحسب، بل شمل التعاون مع الخصوم أيضًا، حيث قامت اليابان بتجاوز عقود من الخلاف مع الصين، فسارعت الحكومة اليابانية إلى اتخاذ إجراءات رمزية، عبر تصويت أعضاء الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم على التبرع بمبلغ من رواتبهم الشهرية لمساعدة الصين. كما قامت الحكومة اليابانية بإرسال آلاف القطع من الملابس الواقية إلى ووهان. وتبرعت شركة “إيتو يوكادو” اليابانية بأكثر من مليون قناع للصين. كما أرسلت جمعية تنمية الشباب في اليابان صناديق من الأقنعة ومقاييس الحرارة مزينة بأحرف من قصيدة قديمة كتب عليها “أرض متباعدة، سماء مشتركة”.
سيناريوهات مختلفة
يتضح مما سبق، أن حجم التأثير الذي من المتوقع أن تلعبه القارة الآسيوية على الساحة العالمية سيتوقف على مدى قدرتها على تجاوز الجائحة وتداعياتها سريعًا، في مقابل استمرار تواضع الأداء الغربي. وفي هذا السياق، هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية يمكن طرحها بشأن فكرة القرن الآسيوي.
السيناريو الأول- بقاء الأوضاع على ما هي عليه
ينطلق هذا السيناريو من فكرة أساسية مفادها أن ما يمكن أن نُطلق عليه “النجاح الآسيوي” في مواجهة جائحة كورونا لن يُساهم في انحسار دور الغرب لصالح القارة الآسيوية. بعبارة أخرى، لن يجعل من القارة الآسيوية محورًا للتفاعلات العالمية، ولن يجعل القوى الآسيوية في موقع قيادة العالم، وإنما سيبقى الأمر بالقدر القائم فعليًّا، انطلاقًا من كونه مجرد نجاح مرتبط بهذا الموقف فحسب، ولفترة زمنية قصيرة نسبيًا. أي إن هذا النجاح لن يُساهم في التغطية على أو إزالة المشكلات الهيكلية البنيوية المترسخة في القارة الآسيوية (مثل: التباين في القدرات بين دولها، واختلاف الأنظمة الحاكمة والرؤى السياسية والخلافات السياسات حول الموارد والحدود). بعبارة أدق، فإن آسيا ليست كيانًا واحدًا متجانسًا، وليست لديها القدرة على تقديم نفسها كمعسكر متناغم على الساحة الدولية. كما أن نماذج التضامن الإقليمي لمواجهة الوباء كالتعاون بين اليابان والصين، والهند والصين، ذات طابع مؤقت. والمشكلات الهيكلية لدى عددٍ من دولها، كالفقر والفساد، والتفاوتات الاجتماعية، والتلوث، وغيرها؛ ستعرقل مسارها التطوري، وتحد من دورها الخارجي.
ويعتمد هذا السيناريو على تزايد قدرة الغرب على تجاوز الإخفاقات التي وقعت، والتحول نحو الاستجابة السريعة للجائحة وتداعياتها المختلفة. ويرتبط بهذا السيناريو اعتبار الصين المصدر الرئيسي للجائحة، والمتسبب الرئيسي في انتشارها، الأمر الذي يعني استمرار التوتر في علاقة الغرب بالصين، وكذا تصدر الخطاب الأمريكي المناهض للصين. بجانب استمرار العلاقات الإيجابية بين الغرب وبعض القوى الآسيوية كاليابان وكوريا الجنوبية والهند وغيرها.
السيناريو الثاني- تأجيج التنافس الآسيوي-الآسيوي
ينطلق هذا السيناريو من افتراض أن النجاح الآسيوي في مواجهة جائحة كورونا سيجعل للقارة الآسيوية وضعًا أقوى نسبيًّا مما كان عليه قبل الجائحة، ارتباطًا بالإخفاقات الغربية وما قد ينجم عنها من تضاؤل لتأثيرها واهتزاز صورتها على الساحة العالمية. إلا أن الوضع الأقوى نسبيًّا بالنسبة لآسيا لن يًغير المشهد بصورة كبيرة على الساحة الدولية، أي إن التنافس مع الغرب قد يستمر ولكن وفقًا لأدوات وملامح مختلفة. وقد يتجه الغرب إلى تحويل ما يمكن وصفه بالتنافس الغربي-الآسيوي إلى قلب القارة الآسيوية بطريقة ستُعمق من الفجوات الموجودة بالفعل في القارة الآسيوية. أي إن القارة الآسيوية ستقع أسيرة حلقة مفرغة من عدم اليقين، وتراجع الأمن، وعدم الاستقرار، بطريقة تُنذر بتفجر صراعات إقليمية ممتدة في مناطق، مثل: بحر الصين الجنوبي، وعلى الحدود الهندية-الباكستانية، وعلى الحدود بين الكوريتين.
بعبارة أوضح، قد يتجه الغرب بقيادة الولايات المتحدة إلى شحذ الخلافات بين القوى الآسيوية ذات التوجه الغربي كاليابان وكوريا الجنوبية والهند، وبين القوى الآسيوية ذات التوجه المخالف كالصين وكوريا الشمالية. ويترتب على هذا التوجه إنهاك قدرات القارة واستنزافها، وشغلها عن لعب دور أكثر تأثيرًا في الساحة العالمية.
السيناريو الثالث- الصعود وفق صيغة آسيوية
ينطلق هذا السيناريو من افتراض عام مفاده أن التعاطي الفعال لأبرز القوى الآسيوية مع جائحة كورونا سيساهم بلا شك في تعزيز مكانتها على الساحة الدولية، لا سيما أن التعاطي الغربي شهد كثيرًا من التخبط والتذبذب والتراجع. لكن، يجب ألا يتم تحليل الصعود الآسيوي على الساحة العالمية وفقًا للمنظورات الغربية السائدة، وإنما من الأفضل بحث وتحليل الصعود الآسيوي وفقًا لصيغة آسيوية. بعبارة أخرى، سيحدث الصعود الآسيوي وفق مصفوفة آسيوية تُساهم في رسم ملامح متمايزة للصعود والتأثير على الساحة العالمية، وإدارة العلاقات الإقليمية بين دولها.
يستند هذا السيناريو إلى امتلاك القارة الآسيوية قيمًا وثقافة متمايزة ومتنوعة ومتجانسة بقدر كبير. وفي هذا الإطار، يمكن الاستناد إلى مجموعة من الأطروحات الآسيوية، مثل نظرية “ماندالا” أو “مجالات النفوذ” التي قدمها الفيلسوف الهندي “كاوتيليا”، والتي تقدم أفكارًا حول كيفية إدارة التحالفات وعلاقات العداء مع البلدان المجاورة، وتبنت “عدم التدخل” كوسيلة لبناء الثقة بين الملوك وتجنب التشابك الأجنبي غير الضروري. وكذا يمكن النظر إلى السياسة الصينية وفقًا للأفكار المنبثقة عن الفكر الكونفوشيوسي التي تتناول أهمية الانسجام لحماية النظام الدولي، وكذا تحمل مسئولية دولية متناسبة مع سلطة الدولة المحلية. وكذا نظرية “العلاقاتية Relationality” الصينية التي تعتبر الدول فواعل اجتماعية تبني أفعالها على طبيعة العلاقات التي تربطها بالآخرين. تسعى لشرح كيف يمكن أن تتعايش التناقضات وكيف أن تعايشها ضروري لإقامة علاقات فعالة، أي إن تأثيرها سيكون كبيرًا في العلاقات الدولية لما تحمله من عدد ضخم من المصالح المتناقضة بين الفواعل المتعددة. أيضًا أفكار الفيلسوف الياباني “نيشيدا كيتارو” التي تتركز على الأبعاد الثقافية والهوياتية، لا سيما أن اليابان تواجه معضلة الانتماء للشرق أم الغرب. وخلُص إلى أن الهوية اليابانية قائمة على التعايش بين الأضداد. وكذا نظرية “أكاماتسو كانامي” التي تقدم “نموذج الأوزة الطائرة flying geese model” التي تركز على التنمية الاقتصادية، وتعمل أيضًا كأساس للمساعدة الاقتصادية اليابانية للبلدان النامية.
ختامًا، يمكن القول إن جائحة كورونا قد لا تُدشن لبداية القرن الآسيوي، لكنها قد تساعد على تسريع الدخول فيه. كما أن قدرة القوى الآسيوية على الاتساع والتأثير لن تتوقف فقط على نجاحاتها، بل تتطلب أداة إعلامية ودعائية ضخمة لتأهيل العالم لذلك، خاصة في ظل انتشار وهيمنة الثقافة الغربية التي تجذرت على مدار سنوات طويلة من خلال الاستعمار تارة، والأداة الإعلامية والدعائية تارة أخرى. وارتباطًا بذلك، فإن نجاح النموذج الآسيوي وتمايزه، وكذا امتلاكه للأدوات التكنولوجية سريعة التطور، قد يعزز من فرص تأثيره على الساحة العالمية. وفي هذا السياق، يُمكن القول إن حدود السيناريو الأول ستقف عند الحدود الجارية لأزمة كورونا على المدى القصير. بينما قد يظهر السيناريو الثاني في التعامل مع تداعيات أزمة كورونا متوسطة المدى، التي ستشهد حالة من التنافس المحموم بين النموذجين الآسيوي والغربي. أما السيناريو الثالث فهو المرشح للاستمرار انطلاقًا من التكهنات التي كانت قد بدأت مع نهاية القرن العشرين واتجهت للتأكد في ظل جائحة كورونا.
رئيس وحدة الدراسات الأمريكية