بعد أكثر من ثلاثة أشهر تقريبًا من ظهور أول حالة مصابة بفيروس كورونا (كوفيد-19) في مدينة يوهان الصينية، قام النظام التركي بالإعلان عن الحالة الأولى، وتحديدًا في 11 مارس 2020. ركزوا معي في هذا التاريخ جيدًا، لأننا سوف نقوم معًا بالمرور على مجموعة من حقائق التاريخ والجغرافيا، مع عرض الأرقام السابقة واللاحقة على هذا التاريخ؛ لكي نقف على حقيقة السؤال المطروح في عنوان هذا المقال.
لكن أولًا، دعونا نتعهد بالتجرد من أي انحيازات، ونترك الحكم للمنطق، وليكن سبيله إعمال العقل فقط، اعتمادًا على الأرقام والحقائق المجردة، ولندعها تجيب بموضوعية عن مدى شفافية النظام التركي في التعامل مع أزمة فيروس كورونا؟ وذلك بالرجوع للمصادر الرسمية، وبعضها حكومية تركية، أو مصادر عالمية، مثل منظمة الصحة العالمية.
في الوقت الذي أعلن فيه النظام التركي عن أول حالة، كان كل جيرانه على الحدود البرية (8 دول) أعلنوا قبل ذلك بأسابيع عدة عن وجود آلاف الحالات المؤكدة (باستثناء سوريا، وتعقد موقفها لا يحتاج لذكر). وكان أكبر عدد من الحالات وقتها في إيران، مسجلة 9000 حالة، بعد 23 يومًا فقط من الإعلان عن الحالة الأولى هناك التي تم تسجيلها في 19 فبراير؛ وذلك وفقًا للأرقام الإيرانية الرسمية. ونظرة سريعة على قفزات الأرقام الإيرانية، خاصة في أول شهر (انظر جدول رقم 1) تكفي لكي نتأكد أنها أيضًا غير منطقية.
وللعلم، فإن نظام الملالي يشترك مع النظام التركي في حدود برية تبلغ 499 كلم مربع، ومعروف عنها أنها حدود سهلة الاختراق. وبعد أسبوع كامل من انفجار الوضع في طهران، تم غلق معابر الحدود المشتركة. وبحسب أرقام وزارة السياحة التركية، هناك 2.1 مليون سائح إيراني يزورون تركيا سنويًّا، بمتوسط 175 ألف سائح شهريًّا، أي 5833 سائح يوميًّا.

الدولة المعصومة من الفيروس؟!
في اليوم نفسه، أي 11 مارس 2020، وعلى مسافة ساعة طيران واحدة من إسطنبول، وأقل من 700 كلم تقع دولة إيطاليا، التي وصل فيها عدد الحالات في هذا اليوم إلى 12462، بعد أكثر من 40 يومًا من اكتشاف أول حالة هناك. وفي هذا اليوم أيضًا كانت عدد الحالات في مصر 66 حالة، بعد أن تم تسجيل أول حالة في 14 فبراير، أي قبل تركيا بحوالي 26 يومًا، وأعلنت الإمارات عن تسجيل أول حالة لديها قبل تركيا بأكثر من 40 يومًا.
فهل يُعقل أن تتجنب تركيا الإصابة بهذا الفيروس كل هذه الفترة؟! وكأنها دولة مغلقة أو معزولة عن العالم، وهل منطقي أن نصدق ذلك عن دولة يقع جزء منها بالفعل في قارة أوروبا، ولديها حدود برية مع 6 دولة أوروبية، وفي الوقت الذي كانت القارة الأوروبية لديها 20000 حالة مؤكدة، كانت تركيا تقول: “لدي زيرو حالات”!
وتزداد حالة الانكشاف التركية إذا أخذنا في الاعتبار أيضًا أن مطارات مدينة إسطنبول فقط تستقبل 104 ملايين مسافر دولي سنويًّا، وتستحوذ المدينة وحدها على 6% من كل حركة الطيران في أوروبا. وقد استضاف مطار أتاتورك وحده 140 ألف رحلة خلال عام 2019، وفقًا للبيانات الحديثة لهيئة مطارات تركيا.
في المعتاد تُسيـر الخطوط الجوية التركية وحدها 24 رحلة أسبوعية إلى الصين، تنقل ما لا يقل عن 10 آلاف راكب أسبوعيًا، إلى أربع وجهات رئيسية في الصين، تشمل بكين وشنغهاي القريبة من مدينة وهان، وكونجتشو ومدينة شيان (التي تمت إضافتها في نهاية العام الماضي). وفي شهر يناير الماضي تحديدًا، وعلى الخطوط التركية فقط، كان هناك ما يقرب من 1800 راكب يسافرون يوميًّا بين تركيا وإسطنبول، بحسب موقع flightradar24.com العالمي الشهير.
في المقابل، تستقبل تركيا سنويًّا أكثر من 50 مليون سائح، وخلال الأشهر الثلاثة ما قبل الأزمة استقبلت ما يقرب من 14 مليون سائح. ويقول موقع تشاينا دايلي Chinadaily، وهو من أكبر المواقع الإخبارية الصينية، في تقرير نُشر بداية فبراير 2020، إن عدد السياح الصينيين إلى تركيا شهد زيادة سنوية بلغت 28%، وذلك بناء على تصريحات “علي كاناكسو”، رئيس اتحاد الفنادق التركية، الذي أكد أن السائحين الصينيين جاءوا بكثافة خلال ذلك العام للاحتفال بعطلتهم السنوية التي تبدأ في 24 يناير. وهناك تقارير أخرى نشرها موقع الصين الرسمي China.org.cn أكدت وجود زيادة كبيرة في أعداد السائحين الصينيين لتركيا.
هل لازال هناك شك؟!
وهكذا، تشير الإحصاءات والمصادر إلى أن حوالي 300 ألف سائح صيني قاموا بزيارة تركيا خلال فترة الأشهر الثلاثة منذ بداية ظهور الفيروس، بالإضافة إلى أكثر من 500 ألف سائح إيراني خلال الفترة نفسها، أي من مصدرين مختلفين، كان لديهما 90 ألف حالة مصابة بالفيروس، وقت أن أعلنت تركيا أخيرًا عن أول حالة لديها.
وبعد أن بدأت تركيا الإقرار بوجود حالات لديها، وصلت في أول أسبوع إلى 98 حالة فقط، وهو معدل يبدو طبيعيًّا، ومنطقيًّا، ومتماشيًا مع أرقام أول أسبوع في كل دول العالم التي هاجمها الفيروس؛ لكن ما بعد ذلك غير منطقي، ولا طبيعي أبدًا، حيث انفجرت الأرقام بصورة غريبة، وسجلت بعد أسبوعين فقط 2433 حالة، وقفزت في الأسبوع الثالث إلى 27170. ومع نهاية الشهر الأول وصلت للحالة رقم 50 ألف.
هذه الأرقام مستحيلة علميًّا ورياضيًّا، ووفقًا لما قاله خبراء منظمة الصحة العالمية، فإن كل حالة تصيب في المتوسط 3 حالات، فكيف قفزت تركيا من الأسبوع الأول للأسبوع الثاني إلى أكثر من 25 ضعفًا!، ومن الأسبوع الثاني للثالث إلى أكثر من 11 ضعفًا!
التقارير القادمة من إسطنبول نفسها، تقول إن انفجار الأوضاع، وانهيار المنظومة الصحية في تركيا، جعل من المستحيل إبقاء الأمور في طي الكتمان. أضف إلى ذلك القلق الرسمي الذي أظهرته منظمة الصحة العالمية حول حقيقة الأوضاع في تركيا، وكذلك فعلت العديد من المنظمات الحقوقية داخل وخارج تركيا. وتشير بعض التحليلات إلى أن ظهور بوادر حزم مساعدات دولية، واقتراحات بتأجيل قروض وديون المنظمات الدولية على الدول الأكثر تضررًا، شجع النظام التركي على البوح بكل ما لديه دفعة واحدة.
وتجدر الإشارة هنا أن تركيا تُعد من أكثر دول العالم استدانة مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، فقد بلغ الدين الخارجي 436.9 مليار دولار في ديسمبر 2019. وخلال العامين الأخيرين سددت تركيا أقل من 4% من ديونها، حسب مؤسسة CEIC Data العالمية. وغني عن الذكر أن الليرة التركية كانت من أضعف العملات في العالم خلال السنوات الثلاث الماضية.
شفافية النظام التركي المزعومة!
نعود للتركيز على قصة تركيا وشفافيتها المزعومة مع فيروس كورونا، فبحسب تصريحات “ميرال أكشنر”، زعيم حزب الخير اليميني المعارض، تجاهل الرئيس التركي “أردوغان” التوصيات التي قدمتها اللجنة العلمية التابعة لوزارة الصحة هناك للتعامل بصورة مبكرة وجدية مع الفيروس. وحتى اللحظة ما زال النظام التركي يرفض تطبيق حظر تجوال شامل في الأماكن الأكثر تضررًا، رغم أن الحالات تتزايد بصورة جنونية، حتى إنها زادت في يوم واحد بنسبة 11%!
ولكي نستوعب غرابة هذا الرقم الضخم، والذي يؤكد أنه من رابع المستحيلات أن تكون نقطة انطلاقته الحقيقية كانت يوم 11 مارس، كما أدعى نظام “أردوغان”، الذي يقبع على حكم تركيا منذ 17 عامًا، وقد يستمر في الحكم 9 أعوام أخرى، ويتحدث عن الديمقراطية والشفافية أكثر ما يتحدث عن مشاكله الداخلية! لا بد من مقارنة الأرقام والإحصاءات. ويكفي هنا أن نعرف أن أمريكا في نهاية أول شهر وصلت إلى 15 حالة فقط، وإيطاليا بعد شهر كامل من وصول الفيروس إلى أراضيها وصلت للحالة رقم 1694، وإسبانيا بعد شهر وصلت للحالة رقم 120، ووصلت إيران إلى الحالة رقم 18407 بعد شهر واحد من الإعلان عن أول حالة، ومع ذلك هي أقل بثلاثة أمثال الأرقام التركية!
وماذا عن الدولة التي ظهر فيها الوباء وتفشّى قبل الجميع، وقبل تركيا نفسها بثلاثة أشهر كاملة، وهي الصين؟ الأرقام تشير إلى أن الصين لم تتجاوز الحالة 1000 في أول شهر من الإعلان عن الحالة الأولى. وحتى مع إضافة أرقام الشهر الثاني، لم تتجاوز أرقام تركيا في شهر واحد، حيث سجلت 34110 حالة؛ فكيف حققت تركيا هذه “المعجزة”، بوصولها للحالة رقم 50 ألفًا في شهر واحد فقط.
وكما يتضح من بيانات الجدول رقم (2)، فإن تركيا وإيران فقط هما الدولتان الوحيدتان اللتان سجلتا أسرع معدل قفز من الحالة زيرو إلى الحالة 1000، وكذلك إلى الحالة 10000، والحالة 50000.
واستباقًا لأسئلة أراها مشروعة، من الضروري أن نذكر أن مصر والإمارات كانتا أول دولتين في الشرق الأوسط تقران بشجاعة بوجود حالات لديهما مصابة بكورونا، والإمارات وصلت للحالة رقم 1000 بعد شهرين كاملين من تسجيل أول حالة، ومصر وصلت للحالة رقم 1000 بعد 40 يومًا.

انتقادات شعبية وحملة اعتقالات
وعوضًا عن حالة الالتحام الداخلي الذي تخلقه مثل هذه الأزمات في المجتمعات المتماسكة، تعرض النظام التركي لحملة انتقادات واسعة، ليس فقط من أحزاب المعارضة ووسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية، ولكن من نقابة الصحفيين التركية أيضًا، خاصة بعد إصابة 600 طبيب وممرض بالفيروس، وهذا كان قبل نهاية الأسبوع الثالث، حسب تقرير باللكن أنسيت التركي.
وفي تقرير نشرته النسخة التركية من موقع DW الألماني نهاية مارس تحت عنوان: “ربما لا نجد طبيبًا خلال أسبوع”، انتقد الكثير من العاملين في القطاع الصحي التركي طريقة التعامل مع الأزمة، واتهموا الحكومة صراحة بأنها لا تتعامل بشفافية، وأن الأرقام الحقيقية من المرجّح أن تكون أعلى بكثير من المعلن، وكشفوا أن الأشخاص الذين يموتون قبل تشخيصهم لا يتم تسجيلهم كمرضى بفيروس كورونا.

ووسط انتقادات شعبية غاضبة كما ذكرها أحد التقارير الغربية، تم إجبار الموظفين وعمال بعض الشركات على التبرع للحكومة لمساعدتها في مواجهة أزمة كورونا. وحسب تقرير نشرته صحيفة جازيت دوفار التركية، تم تعطيل كافة جهود التبرعات في المدن التي تسيطر عليها المعارضة وهي مدن كبيرة، مثل: إسطنبول، وأنقرة، وإزمير.
ولم يكتفِ النظام التركي بذلك، بل قامت أجهزة الأمن باعتقال سبعة صحفيين، بتهمة الإبلاغ عن الوباء و”بنشر الذعر”. وحاليًّا يتم التحقيق مع ما لا يقل عن 385 شخصًا بسبب منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي

حسنا، لن أزيد على ذلك، وسوف أترك لكم إجابة السؤال بالأعلى، والذي أعتقد أن كل صاحب عقل، سيصل لاحتمالين لا ثالث لهما: 1- إما عدم شفافية وفجر في التعتيم من النظام التركي لم يشهد العالم كله نموذجا مثله. 2- إهمال شديد واستهانه بأرواح المواطنين في تركيا؛ أو ربما كلا الاحتمالين.
كلمة أخيرة: هل هذا يعني أن هناك شماتة فيما يمر به الشعب التركي؟ قطعا لا، وقلوبنا معهم، ومع كل دول العالم التي تعاني من هذا الوباء؛ فكلنا في الهم مشتركون، ولدي قناعة أن مصر لم تكن لتتأخر لحظة واحدة عن تقديم يد العون، لو أنها تضمن أن هذه المساعدات ستذهب من الشعب المصري للشعب التركي مباشرة؛ وليس لعصابات أردوجان، التي تظهر غير ما تبطن، وتدعى غير ما تعمل، وتسخر كل مواردها لأهداف السيطرة، وأطماع عودة دولة الخلافة.