منذ مطلع العام الجاري تصاعدت وتيرة الاعتداءات التي تقوم بها عناصر إثيوبية مسلّحة على القرى السودانية في منطقة الفشقة بولاية القضارف السودانية المحاذية لإقليم أمهرا الإثيوبي. وقد تنوعت الهجمات التي ارتكبتها عصابات “الشفتا” الإثيوبية بين طرد المزارعين السودانيين من أراضيهم والاستحواذ عليها بالقوة، وسرقة قطعان الماشية، والقتل، والخطف مقابل الفدية. ويشير الوضع الحالي إلى انتشار آلاف المزارعين الإثيوبيين داخل الحدود السودانية ليعملوا بصورة مستقرة بالزراعة والرعي محتمين بالمجموعات المسلحة الإثيوبية. وتقدر المصادر السودانية الأراضي المستحوذ عليها من جانب المزارعين الإثيوبيين بأكثر من مليون فدان من أكثر الأراضي السودانية خصوبة.
وقد نشأ هذا الوضع في عام 1957 بعد عام واحد من استقلال السودان، واستمر في التجدد بصورة دورية، مع عجز الطرفين عن الوصول إلى تسوية نهائية ناجعة. ويتلخص الموقف الإثيوبي في عدم إنكار الأحقية القانونية للسودان في هذه المناطق المؤكدة عبر اتفاقية عام 1902 وبروتوكول الحدود لعام 1903، لكن مع الاستمرار -في الوقت ذاته- في محاولة فرض الأمر الواقع بتيسير توطين المزارعين الإثيوبيين في هذه الأراضي، بجانب المماطلة المستمرة في المفاوضات، وتحويلها إلى مداولات غير جادة بين لجان فرعية محلية كلما أمكن. وفي المقابل، كانت الحكومات السودانية المتعاقبة تؤثر تجنب تصعيد الخلاف مع إثيوبيا، إما خشية الدخول في صراع مسلح، أو للحفاظ على مصالح استراتيجية أكثر أهمية تربطها بالجانب الإثيوبي.
لكن الهجمات الأخيرة التي شهدها العام الجاري، وما لاقته من استجابة من الجانبين السوداني والإثيوبي تشير إلى عدد من مظاهر التغير التي قد تكون لها انعكاساتها المهمة على مستقبل العلاقات بين السودان وإثيوبيا.
أولًا: التطور النوعي في طبيعة الهجمات الإثيوبية
تعكس الموجة الأخيرة لهجمات العصابات الإثيوبية عددًا من التطورات المهمة في طبيعة الهجمات الإثيوبية، وذلك على أكثر من مستوى:
أ- تغير موعد الهجمات: حيث وقعت الموجة الأخيرة من الهجمات في فصلي الشتاء والربيع على غير المعتاد، حيث كانت هذه الهجمات تنحصر عادة في شهور الخريف من كل عام خلال موسم الحصاد على وجه التحديد، وهو مؤشر له دلالته بشأن احتمال استمرار العصابات الإثيوبية في شن هذه الهجمات بصورة مستمرة مستقبلًا، ما لم تلقَ ردًّا رادعًا من الجانب السوداني، وكذا بشأن سعي المزارعين الإثيوبيين من حرمان نظرائهم السودانيين من زراعة الأرض ابتداءً لتيسير السيطرة عليها بصورة دائمة.
ب- تصاعد النزعة العدوانية: فبعدما كانت تقتصر هجمات عصابات الشفتا على نهب المحاصيل بعد حصادها لبيعها والتربح منها، وسرقة قطعان الماشية، أصبحت الهجمات تكتسي بطابع إجرامي متزايد يحمل نزعة عدوانية بارزة تجسدت في ارتفاع أعداد المخطوفين والمقتولين من المزارعين السودانيين، وصولًا إلى إحراق المنازل والمزارع، الأمر الذي يؤكد الاستهداف المتعمد لإرهاب سكان هذه القرى من المزارعين السودانيين، بغرض التمهيد لإخلاء المزيد من سكانها.
ج- اكتساب الطابع المنظم: حيث أصبح من غير الواقعي الاستمرار في اعتبار هذه الهجمات مجرد مظاهر للعنف الأهلي بين المكونات السكانية المتجاورة في المناطق الحدودية بين البلدين الجارين، خاصة مع تعدد الشواهد على تورط سلطات ولاية أمهرا في تنظيم عملية تمدد المزارعين الإثيوبيين داخل الأراضي السودانية، بقبول عام من الحكومة الاتحادية الإثيوبية التي لم تتخذ أي إجراء رادع يكون من شأنه الحد من معدل هذه الهجمات.
ثانيًا: الاستجابات المتغيرة
واكب التطورَ الكمي والكيفي في هجمات العصابات الإثيوبية تغير موازٍ في طبيعة الاستجابة الرسمية من الجانبين الإثيوبي والسوداني، والتي تمثلت في:
أ- التصعيد: فقد تبنت السلطات السودانية نهجًا تصعيديًا غير معتاد، فنظرًا لقدم المشكلة التي ترجع لسنوات استقلال السودان الأولى، عادة ما كانت تميل السلطات السودانية للتهدئة والاحتواء، بل واتهام الأهالي من المواطنين السودانيين في التسبب في الأزمة عبر تأجيرهم الطوعي لأراضيهم للمزارعين الإثيوبيين. لكنّ الاستجابة التي أبداها الفريق أول “عبدالفتاح البرهان”، رئيس مجلس السيادة في مطلع أبريل الماضي، حملت إعلانًا سودانيًّا واضحًا بعدم السماح بأي اعتداء على الأراضي السودانية في المستقبل، وهي الاستجابة التي لاقت قبولًا شعبيًّا واسعًا، سواء من سكان ولاية القضارف، أو من عموم السودانيين. كما شهد الـ30 من مايو تحولًا إضافيًّا في مسار التصعيد باستدعاء الخارجية السودانية القائم بأعمال السفير الإثيوبي في الخرطوم للاحتجاج على آخر هجمات الميليشيات الإثيوبية التي بدأت في السابع والعشرين من مايو.
ب- العسكرة: أمام التصاعد المطرد في هجمات العصابات الإثيوبية، قررت القوات المسلحة السودانية كسر نمط استجابتها التقليدية عبر التدخل المباشر لحماية أراضيها ومواطنيها، الأمر الذي أسفر في الثامن من مارس عن تحريك قوة محدودة العدد من الجيش السوداني تابعة لمنطقة ودكولي لمطاردة عصابات الشفتا، مما أدى لوقوع اشتباك بين الطرفين أسفر عن مقتل جنديين سودانيين وثلاثة إثيوبيين. ومع تزايد نشاط القوات السودانية في تطهير المنطقة الحدودية، قامت هذه القوات للمرة الأولى منذ نحو خمسة وعشرين عامًا بعبور الضفة الشرقية لنهر عطبرة بعد غياب تسبب فيه انسحاب القوات السودانية للقتال في جبهات أخرى في دارفور وجنوب كردفان.
وقد أدى دخول القوات السودانية للفشقة إلى وقوع مناوشات مع القوات المسلحة الإثيوبية التي تواجدت على أراضٍ سودانية بحجة تأمين مواطنيها من السكان الإثيوبيين، وهو ما جاء ليؤكد المساعي الإثيوبية لحرمان القوات المسلحة السودانية من أي تواجد عسكري مستقر في المناطق المتنازع عليها. فبعد مناوشات سابقة في أوساط التسعينيات، قام رئيسا هيئتي الأركان بالقوات المسلحة للبلدين بالتوقيع في عام 1994 على اتفاقية اقتضت –بضغط إثيوبي- عدم تدخل القوات المسلحة من الجانبين في النزاعات التي تحدث بين “المزارعين”.
ج- التسييس: جاء المتغير الأكثر أهمية في مسار الأزمة بعد شهور من التصاعد، حين بدأت مؤسسات الحكم في البلدين في إدخال الاشتباكات في الفشقة في حساباتها السياسية المعقدة من خلال توظيفها من أجل اجتذاب تأييد الرأي العام الداخلي، خاصة في ظل الأوضاع الصعبة التي يمر بها كلا النظامين. فقد قام الفريق أول “عبدالفتاح البرهان”، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، في الثامن من أبريل بزيارة لتفقد الأوضاع الأمنية في ولاية القضارف برفقة رئيس هيئة أركان القوات المسلحة ومدير المخابرات العامة، تفقد خلالها الفرقة الثانية مشاة في ولاية القضارف، وقيادة اللواء السادس مشاة في منطقة دوكة، وهي الزيارة التي جددت الرصيد الجماهيري للبرهان بعد تراجع نسبي أعقب لقاءه المفاجئ برئيس الوزراء الإٍسرائيلي في عنتيبي الأوغندية في فبراير الماضي.
وفي المقابل، تصر الحكومة الإثيوبية على عدم اتخاذ إجراء رادع تجاه مجموعات المزارعين الإثيوبيين المسيطرين على الأراضي السودانية، بل وتوفير الحماية لهم من خلال القوات المسلحة، وذلك سعيًا من “آبي أحمد” لتأمين دعم جماعة أمهرا لطموحه السياسي بالفوز في الانتخابات المقبلة، في الوقت الذي يقابل فيه معارضة قطاعات واسعة من جماعة تيجراي وأورومو.
ثالثًا: محفزات التصعيد في المستقبل
تتعدد محفزات تصاعد الأزمة في المستقبل، سواء تلك المرتبطة بالأوضاع الداخلية للجانبين السوداني والإثيوبي، أو بالسياق الإقليمي والدولي، وذلك على النحو التالي:
أ- الانتكاس المتكرر لجهود التسوية: أعقب التصعيد المتبادل الذي شهدته منطقة الفشقة السودانية في مطلع أبريل 2020 مبادرة الجانبين السوداني والإثيوبي لنزع فتيل الأزمة سريعًا، وتجنب تصعيدها وهو ما ظهر أولًا في الاتصال الهاتفي الذي أجراه رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول “عبدالفتاح البرهان” برئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” في التاسع من أبريل، والذي أعقبه الإعلان عن وصول وفد عسكري إثيوبي رفيع المستوى بقيادة رئيس الأركان “آدم محمد” للخرطوم ليعلن عن توافق جديد بين البلدين بشأن ترسيم الحدود وعودة المزارعين الإثيوبيين إلى داخل حدود بلادهم. كما تجددت هذه الجهود بين السابع عشر والحادي والعشرين من مايو بزيارة وفد سوداني رفيع المستوى لأديس أبابا بحث عددًا من قضايا الاهتمام المشترك، في مقدمتها تسوية مشكلة المزارعين الإثيوبيين في منطقة الفشقة، حيث اتفق الجانبان على أن تبدأ اللجنة المشتركة لترسيم الحدود في وضع العلامات الحدودية في أكتوبر المقبل لينتهي عملها في مارس من عام 2021.
وعلى الرغم من هذه الجهود المتواترة في فترة محدودة، جاءت أحداث السابع والعشرين والثامن والعشرين من مايو لتؤكد تعثر محاولات تسوية الأزمة في الوقت الراهن، حيث تجددت الاشتباكات بين الجانبين مع دور أكبر للقوات المسلحة للبلدين، الأمر الذي أسفر عن مقتل ضابط برتبة نقيب وإصابة ستة جنود سودانيين، وذلك بعد هجوم إثيوبي على منطقة بركة نورين استخدمت فيه القوات الإثيوبية المهاجمة مستوى متقدمًا من التسليح تضمن الرشاشات وبنادق القناصة وقذائف الآر بي جي. وقد جاء هذا الحادث ليُدخل الطرفين في موجة من التصعيد بعد اتهام المتحدث الرسمي للقوات المسلحة السودانية القوات المسلحة الإثيوبية بتقديم إسناد مباشر للاعتداءات الأخيرة.
ب- التقدم البطيء للمسار الانتقالي في السودان: لم يتمكن شريكا الحكم في المرحلة الانتقالية (القوات المسلحة، وقوى الحرية والتغيير) من إتمام العديد من الخطوات الرئيسية في المسار الانتقالي، وفي مقدمتها تشكيل المجلس التشريعي الذي كان يفترض أن يعقد أولى جلساته في نوفمبر الماضي. بالإضافة لذلك أحرزت السودان تقدمًا بطيئًا في مفاوضات السلام مع الفصائل المسلحة على الرغم من أنه كان يفترض أن يتم التوصل لاتفاق نهائي للسلام بحلول منتصف فبراير الماضي. ومع تعدد مظاهر التعثر في الالتزام بما اتفق عليه في الوثيقة الدستورية التي وقعت في أغسطس 2019، تتآكل شرعية مؤسسات الحكم الانتقالي باطراد، خاصة في ظل التدهور الحاد للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. هذه الأوضاع المضطربة تجعل مؤسسات الحكم الانتقالي أكثر حساسية تجاه الاعتداءات الإثيوبية التي قد تُمثّل مصدرًا إضافيًّا لتزايد الضغوط الشعبية.
ج- الوضع الأمني والسياسي المضطرب في إثيوبيا: تمر إثيوبيا منذ عام 2015 بأوضاع أمنية بالغة التدهور، تعددت فيها دوائر أعمال العنف بين عنف أهلي يرتكبه أبناء الجماعات الإثنية المتعددة تجاه بعضهم بعضًا، وعنف ديني بين المسيحيين الأرثوذوكس والمسلمين، وعنف ترتكبه قوات الشرطة ضد المعارضين بلغ ذروته في إقليم أوروميا في أكتوبر الماضي. هذه الأوضاع خلقت حالة من السيولة الأمنية قد تجعل من الصعب على القوات المسلحة الإثيوبية التحكم في سلوك العصابات المسلحة في غرب البلاد، حتى إذا ما تم التوصل إلى اتفاق للتهدئة مع السودان.
كما تمثل الاعتبارات الانتخابية أحد أهم محركات القيادة الإثيوبية الحالية في سياساتها الخارجية. ففي ظل عدم تيقن “آبي أحمد” من كفاية الخطوات التي اتخذها منذ توليه السلطة لتأمين حد أدنى من الدعم الجماهيري لحزبه الجديد، تظل المواقف السياسية المتشددة تجاه الدول المجاورة والقوى الإقليمية وسيلة مهمة لتعزيز فرصه في الانتخابات عبر إبداء المزيد من التشدد في الملفات الخارجية.
د- الانشغال الدولي والإقليمي بمكافحة انتشار فيروس كورونا: يأتي تصاعد التوتر على الحدود السودانية الإثيوبية في وقت ينشغل فيه العالم بمجابهة انتشار فيروس كورونا بما له من أبعاد متعددة صحية وأمنية واقتصادية، الأمر الذي قلل من حجم الانشغال العالمي بالعديد من القضايا ذات الأولوية تقليديًّا كقضايا الصراعات المسلحة، بحيث لم تصدر أي دعوة للتهدئة من جانب أي من القوى الدولية الرئيسية المهتمة بالأوضاع في البلدين. ومما يدلّ على ذلك اشتراك قادة البلدين في عددٍ من القمم الافتراضية في الأسابيع الأخيرة، سواء على مستوى الاتحاد الإفريقي أو منظمة إيجاد، جاءت جميعها لتناقش آفاق التعاون الدولي في مكافحة انتشار فيروس كورونا، من دون أن تظهر قضية النزاع في منطقة الفشقة على جدول أعمال أي من هذه القمم.
رابعًا: كوابح التصعيد
على الرغم من تعدد مصادر تصعيد النزاع الحدودي بين السودان وإثيوبيا؛ إلا أن عددًا آخر من العوامل يظهر ليحد من فرص بلوغ هذا التصعيد مستوى الخطر، وتضم هذه العوامل:
أ- تعدد المصالح المشتركة بين البلدين: لا تعد التطورات الأخيرة سابقة جديدة في تاريخ العلاقات بين السودان وإثيوبيا والتي مرت بمراحل من التوتر بلغت مستوى دعم حكومة كل بلد للمعارضة المسلحة في البلد الآخر، فضلًا عن التاريخ الممتد لموجات متكررة من الصعود والهبوط لقضية النزاع الحدودي بين البلدين والتي لم تتسبب في أي وقت في دخولهما في صراع مسلح مباشر. فعلى الرغم من أن جزءًا كبيرًا من المشكلة الحدودية يرجع إلى التداخل السكاني؛ إلا أن هذا السبب يقدم -في الوقت نفسه- الآلية الأكثر فاعلية لتسوية النزاع واحتوائه وفق عدد من الإجراءات ذات الطابع المحلي تضمن تعويض المتضررين، وتنظيم الانتفاع المشترك بموارد الأرض محل النزاع للمقيمين عليها من السودانيين والإثيوبيين.
ب- الحسابات المتباينة لشركاء الحكم الانتقالي في السودان: فقد ظهر مبكرًا خلاف بشأن تنازع الهيمنة على إدارة ملفات السياسة الخارجية بين مجلسي السيادة والوزراء، في ظل اختصاص الأول بالقضايا ذات الصلة بالأمن القومي والمصالح السيادية العليا، ومسئولية وزارة الخارجية عن مباشرة كافة الأدوار المتعلقة بحماية مصالح السودان على المستوى الدولي. هذه الخلافات قد تنعكس بصورة مباشرة على ملف النزاع الحدودي مع إثيوبيا، خاصة بعد النهج المتشدد الذي عبرت عنه المؤسسة العسكرية في أكثر من مناسبة، والتي لا يتوقع أن يتبنى مجلس الوزراء موقفًا موازيًا لها، في ظل التقارب بين رئيس الوزراء السوداني “عبدالله حمدوك” ونظيره الإثيوبي “آبي أحمد” الذي لعب دورًا محوريًّا عبر وساطته ممثلًا لمنظمة إيجاد في التوصل لاتفاق لتقاسم السلطة حصلت بموجبه قوى الحرية والتغيير على مكاسب استثنائية. على هذا، ينتظر أن يسفر تعدد الأصوات داخل مؤسسات الحكم الانتقالي في السودان عن “ترشيد” أي نوايا للتصعيد حال تجدد الاشتباكات مستقبلًا.
ج- الدور الأمريكي البارز في صياغة المستقبل السياسي للبلدين: تلعب الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة دورًا رئيسيًّا في ترتيب العديد من الملفات الداخلية في كل من إثيوبيا والسودان. فنظرًا لأهمية إثيوبيا الكبيرة كركيزة للسياسات الأمريكية في القرن الإفريقي، تسعى الولايات المتحدة لضمان استمرار الحد الأدنى من التماسك والاستقرار في البلاد، خاصة في ظل التحولات السياسية الكبيرة التي تمر بها إثيوبيا منذ عام 2018. وعلى الجانب الآخر، تسعى الولايات المتحدة لتعويض ابتعاد السودان عنها خلال سنوات حكم “البشير” من خلال لعب دور نشط في المرحلة الانتقالية بما يضمن انتهاءها على نحو يضمن الحد الأدنى من المصالح الأمريكية المتعددة فيها، خاصة بعد المؤشرات الإيجابية التي كشفت عنها استجابة مؤسسات الحكم الانتقالي في السودان للعديد من الشروط الأمريكية التي وضعتها لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. بهذا الوضع، ينتظر ألا تسمح الولايات المتحدة بتصاعد الخلاف بين البلدين لمستوى يهدد استقرار منطقة القرن الإفريقي ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة للمصالح الأمريكية.
خامسًا: مسارات المستقبل
في ضوء الجمع بين العوامل المحفزة والكابحة لتصاعد التوتر بين السودان وإثيوبيا على خلفية النزاع بينهما في منطقة الفشقة، تأخذ التطورات المستقبلة أحد ثلاثة مسارات، هي:
أ- استمرار التصعيد: وذلك على خلفية رغبة كل طرف في تحقيق أكبر استفادة ممكنة من الأزمة في تجديد الشرعية الداخلية، وفي تعزيز الدور الإقليمي. ومن شأن هذا المسار أن يُفضي إلى مواجهة عسكرية واسعة النطاق بين البلدين، قد تفتح الباب أمام إعادة تشكيل التركيب السكاني للمناطق الحدودية، حسب طبيعة الطرف الأكثر قدرة على حسم المواجهة العسكرية لصالحه.
ب- التسوية الحاسمة السريعة: ففي ظل العلاقات الوثيقة التي تربط بين النظامين السوداني والإثيوبي منذ سقوط “البشير”، يمكن أن تنتهي موجة التصعيد الأخيرة بمبادرة سياسية من قادة البلدين، تعيد تأكيد قوة العلاقات الثنائية. وقد تضمن قيام الجانب الإثيوبي –باعتباره الطرف المعتدي- تقديم تنازلات استثنائية لتسوية القضية نهائيًّا، في ظل الآفاق الخطرة التي تحملها أي مواجهة عسكرية مع السودان، وعلى غرار ما قام به من مبادرة غير متوقعة تجاه النزاع الحدودي مع إريتريا في يونيو من عام 2018.
ج- الاحتواء المؤقت: ويقوم على تكرار أنماط الاحتواء التي طبقت من قبل عبر إعادة صياغة الخلاف باعتباره نزاعًا أهليًّا محدودًا، لا يحمل أي طابع سياسي، ولا يمس الاعتبارات السيادية كالسلامة الإقليمية لأي من الدولتين. ومن الناحية الإجرائية، يطبق هذا الاحتواء من خلال عقد سلسلة من المصالحات الأهلية بين القادة التقليديين للمكونات السودانية والإثيوبية، يعقبها اشتراك الإدارة المحلية لولاية القضارف وإقليم أمهرا في تنفيذ عمليات المراقبة، وضمان عدم تصاعد الاشتباكات بين الجانبين لمستوى خطر. وعلى الرغم من أن هذا النوع من الترتيبات أثبت قصر عمره وعجزه عن تقديم تسوية مستدامة، إلا أنه يوفر للجانبين مخرجًا من مسار التصعيد الحالي بما له من تكلفه مرتفعة قد يرغب النظامان الحاكمان في تجنب دفعها في الوقت الراهن.
وبصورة عامة، تعكس المؤشرات الأولية تضاؤل فرص مسار التصعيد لأسباب داخلية وإقليمية ودولية متعددة. وفي المقابل، تظهر بعض المؤشرات المرجحة للتوصل لتسوية نهائية عبر إتمام ترسيم الحدود بحلول العام المقبل، على النحو الذي توافق عليه الجانبان. ويظل المسار الأكثر ترجيحًا هو ذلك المسار القائم على الاحتواء المؤقت للأزمة، مع قابليتها للانتكاس مجددًا بتجدد الاشتباكات بين الجانبين في المستقبل القريب، في ظل عجز أي من الطرفين عن فرض إرادته بصورة كاملة، وفي ظل هشاشة جميع التسويات السياسية المتكررة للأزمة.