يرتبط تاريخ الصراع في منطقة القرن الإفريقي في دينامياته الداخلية بطبيعة الدولة الإمبراطورية الإثيوبية التي قامت أساسًا على التوسع والضم، وهو ما يعني أنها تحمل مشروعا أيديولوجيا يصبو إلى الهيمنة الإقليمية.
أثناء التفاوض مع البريطانيين في عام 1897 حول من يجب أن يسيطر على الصومال، ادعى الإمبراطور منليك “أن الصوماليين كانوا منذ القدم حتى الفتح الإسلامي رعاة للماشية لصالح الإثيوبيين الذين لم يتمكنوا من العيش في الأراضي المنخفضة”. هذا المسعى الخاطئ لإخضاع الصوماليين ظل بمثابة القوة الدافعة وراء سياسة إثيوبيا تجاه الصومال عبر السنين. عارض البريطانيون الفكرة وحذروا من عواقب طويلة المدى لكنهم تنازلوا في نهاية المطاف عن منطقة الأوغادين الصومالية إلى إثيوبيا، ولا يزال يسكن هذه المنطقة نحو 95% من الصوماليين، كما أنها تشكل جزءًا لا يتجزأ من الصومال الكبير بمفهومه التاريخي.
وفي مناسبة أخرى كانت الهضبة الإثيوبية الحبيسة تحلق بناظريها بعيدًا لكي يكون لها منفذ على البحر. وبالفعل صوت مجلس النواب الإثيوبي لإلغاء صيغة الاتحاد الفيدرالي الشكلي مع إريتريا في 14 نوفمبر 1962، لتقوم الإمبراطورية الإثيوبية بتحقيق حلمها في التوسع من خلال ضم إريتريا بعد ذلك بيومين فقط، وبعد استقلال إريتريا عام 1993 واشتعال نيران الحرب الإثيوبية الإريترية (1998– 2000) حاولت أديس أبابا في سعيها صوب الموانئ أن تتوجه صوب الصومال. يوجد اليوم آلاف الجنود الإثيوبيين في الأراضي الصومالية بحجة حفظ السلام ولكن دروس التاريخ تؤكد أن لهضبة الحبشة مآرب أخرى.
جذور النزاع الحدودي بين السودان وإثيوبيا
ظلت مسألة الحدود بين الدول الإفريقية مصدرًا رئيسيًا للصراعات البينية وعدم الاستقرار الإقليمي على الرغم من مبدأ “قدسية الحدود الموروثة عن الاستعمار” المنصوص عليه في ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية، ففي عام 1963 وافق الأعضاء المؤسسون لمنظمة الوحدة الإفريقية على الحفاظ على الحدود الاستعمارية مع علمهم التام بأن العديد منها تم تخطيطه بشكل تعسفي وغير واقعي، وقد أيدت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى هذا المبدأ. كان الأساس المنطقي للحفاظ على الحدود الاستعمارية هو الخوف من أن أي محاولة لتغيير الحدود الموروثة بشكل تعسفي سيؤدي إلى الفوضى وربما اختفاء العديد من البلدان من على الخارطة القارية. وعلى الرغم من هذا الإقرار الإفريقي بحرمة الحدود الوطنية في مرحلة ما بعد الاستقلال بشكل عام، فإن الواقع على الأرض يُظهر حدوث العديد من المنازعات الحدودية، ومما يزيد الطين بلة حقيقة أن العديد من الحدود الإفريقية يسهل اختراقها. ويواجه المواطنون الذين يعيشون بالقرب من المناطق الحدودية أزمات النزوح والتهجير القسري.
تنتمي الحدود الإثيوبية السودانية إلى هذا النمط من الحدود الموروثة عن العهد الاستعماري وإن تجاوزتها لتعكس أحلام السيطرة والتوسع للقوميات الإثيوبية. لقد ظل ترسيم خط الحدود نقطة خلاف بين البلدين بسبب المطالبات المتناقضة التي يطرحها الجانبان. بدأ هذا مباشرة بعد استقلال السودان في عام 1956، حيث كان السياق السياسي مرتبكًا ومعقدًا في كلا البلدين بسبب وجود مشكلات سياسية وحركات تمرد (حركة أنيانيا الجنوبية في السودان، وحركة الاستقلال الإريترية في إثيوبيا). وعلى مدى العقود الستة الماضية، تم عقد العديد من الاجتماعات الدبلوماسية رفيعة المستوى وتبادل المذكرات بين البلدين لمعالجة المشكلة دون جدوى. طوال هذه الفترة، أكد السودان تمسكه بخط ترسيم الحدود الاستعماري الذي رسمه الضابط البريطاني الرائد تشارلز غوين في عام 1903 على أساس معاهدة 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا، بحيث يكون الحد الفاصل بين البلدين. ومن ناحية أخرى، أكدت إثيوبيا دائمًا أن خط الحدود الذي رسمه الرائد غوين غير مقبول على أساس أن ترسيم الحدود تم من جانب واحد (بريطانيا) دون تمثيل من إثيوبيا، في انتهاك للمادة الثانية من المعاهدة. ومع ذلك، تشير كثير من المراسلات والمراجع أن المسئولين الإثيوبيين كانوا شهودًا على عملية ترسيم الحدود بين البلدين. في عام 1972، بعد زيارة الإمبراطور هيلا سيلاسي للسودان للتوسط في الصراع بين الشمال والجنوب، تم تبادل بعض المذكرات حول مشكلة الحدود للوصول إلى تفاهمات مشتركة، وفي مناسبة أخرى عام 2007 قامت حكومة ميليس زناوي بتوقيع اتفاق سري مع السودان لإجراء تعديلات على الحدود، وفي عام 2013 وقع رئيس الوزراء ديسالين اتفاقية أخرى لترسيم الحدود على الأرض طبقًا لاتفاقية 1902.
الفشقة وأوجادين الأخرى
الفشقة هي المنطقة المتاخمة للحدود المشتركة بين السودان وإثيوبيا، والتي تمتد شمالًا من نهر ستيت وحتى نهر عطبرة شرقًا، وتقع بين عوازل مائية طبيعية، وتبلغ مساحتها نحو 251 كلم2، وتنقسم الفشقة إلى ثلاثة أقسام: “الفشقة الكبرى”، وتمتد من سيتيت حتى باسلام، و”الفشقة الصغرى”، وتمتد من باسلام حتى قلابات، و”المنطقة الجنوبية” وتشمل مدن القلابات وتايا حتى جبل دقلاش. وتسيطر القبائل الإثيوبية بمساندة من ميليشيات الشفتا المسلحة على نحو مليون فدان في الفشقة. وعلى الرغم من الاعتراف الإثيوبي الرسمي بتبعية الفشقة للسودان وبخط غوين الحدودي طبقا لمعاهدة 1902 فإنها تعمد إلى تطبيق سياسة فرض الأمر الواقع من خلال وضع اليد على الأراضي السودانية، إذ دأبت الجماعات الإثيوبية المسلحة على طرد المزارعين السودانيين والاستيلاء على أراضيهم واستغلالها بغرض الزراعة، وعادة ما تتعلل الحكومة الإثيوبية بأن تلك الميليشيات القبلية ما هي إلا جماعات مارقة وخارجة عن القانون رغم أن تلك الاعتداءات تحدث تحت أعين الجيش الإثيوبي، ولعل ذلك يدعو إلى التساؤل حول أسباب احتلال إثيوبيا لأراضي الفشقة!
تمثل طبيعة الموقع الجغرافي للفشقة، حيث تعزلها المياه خلال موسم فيضان الأنهار عن الأراضي السودانية المتاخمة لها، عاملًا مساعدًا للإثيوبيين للسيطرة. ففي سياق ضعف السلطة المركزية في الخرطوم وعدم قدرتها على السيطرة في مناطق الأطراف وجدت القبائل الإثيوبية، ولاسيما الأمهرا، الفرصة سانحة لمد نفوذهم والسيطرة على هذه الأراضي الخصبة المتاخمة تمامًا للأراضي الإثيوبية. بالإضافة إلى الموقع الجغرافي تعد الفشقة سلة غذاء لمنطقة القرن الإفريقي، حيث تتميز بإنتاجها الكثيف من محاصيل الذرة والسمسم والقطن والصمغ العربي والخضروات والفواكه وذلك على ضفاف الأنهار الثلاثة عطبرة وستيت وباسلام. وعلى الرغم من وضوح الخط الحدودي بين إثيوبيا والسودان والوصول الى تفاهمات مشتركة بشأن التقدم في ترسيم الحدود، مثل الإعلان في يناير 2016 أن العملية قاب قوسين أو أدنى من الانتهاء، إلا أن المشكلة لا تزال قائمة دون حل وهذا يشير إلى أنها ليست تقنية، بل سياسية بامتياز.
كانت المناسبة الأولى التي عبرت فيها إثيوبيا عن أطماعها بشكل مباشر في الأراضي السودانية في عام 1965 عندما توترت العلاقات بين البلدين. في نفس العام، اجتاز عدد كبير من المزارعين الإثيوبيين الحدود بمعداتهم الزراعية الكبيرة التي وفرتها لهم الحكومة الإثيوبية وبدعم من الجيش الإثيوبي واتجهوا صوب الفشقة الكبرى، والأخطر من ذلك أنهم صادروا المزيد من المزارع السودانية، بينما حذر الجنود الإثيوبيون زعماء القبائل السودانية بأن إثيوبيا مصممة على استعادة حدودها القديمة التي تمتد إلى نهر النيل، ولم تتخذ حكومة السودان أي إجراء عسكري مضاد على الرغم من المطالبات الشعبية بالدفاع عن الأراضي السودانية، وبدلًا من ذلك، تم توجيه احتجاج قوي إلى الحكومة الإثيوبية لسحب مواطنيها من المناطق السودانية المحتلة. ويبدو أن السبب الحقيقي وراء احتلال إثيوبيا أراضي الفشقة كان لممارسة نوع من الضغط على السودان للتخلي عن مساندة حركة التحرير الإريترية والحصول من جهة ثانية على مزيد من التنازلات بخصوص ترسيم الحدود بين البلدين.
وقد استمرت التحركات الإثيوبية عبر الحدود من أجل إضفاء الطابع الإثيوبي على القرى والأراضي السودانية، وهو ما كان يتضمن استخدام عمليات تأجير الأراضي تارة وترحيل المزارعين وترهيبهم تارة أخرى. وعلى سبيل المثال، لقي نحو 25 سودانيًّا حتفهم في نوفمبر 2015 في منطقة الفشقة على أيدي الميليشيات القبلية الإثيوبية، كما تم الاستيلاء على حوالي 420 ألف هكتار من الأراضي السودانية بتواطؤ من حكومة أمهرة الإقليمية. كما استمرت المشاكل في أغسطس 2018، حينما لقي بعض الإثيوبيين الذين عبروا الحدود بطريقة غير مشروعة حتفهم. بحلول أوائل عام 2020 وتشكيل حكومة جديدة في الخرطوم، بقيت مشكلة الفشقة الحدودية تمثل تحديًا كبيرًا للسلطة الاتحادية في الخرطوم، وهو ما أدى إلى قيام الجيش السوداني بإعادة الانتشار في المنطقة وتأكيد استعداده للدفاع عن وحدة الأراضي السودانية.
الأبعاد القومية لمفهوم الحدود في الإدراك الأمهري
كان المفهوم الإثيوبي للحدود والتخوم في القرن التاسع عشر يبدو مختلفًا تمامًا عن الفهم المصري، الذي تأثر بالفعل بالأفكار الأوروبية. لم ينظر الأحباش أبدًا إلى حدود أراضيهم كخط ثابت، وإنما كمنطقة غير محددة تمتد إلى أراضي جيرانهم، حتى المناطق التي لم تكن تحت الحكم المباشر للأباطرة الإثيوبيين، والتي تمتد إلى الأراضي المنخفضة وسهول السودان، كانت تعتبر بهذا المنطق الإمبراطوري تابعة لإثيوبيا.
لقد أضحت قضية التوسع والاستيلاء على الأراضي الحدودية موضوعًا للتبجيل في الفولكلور الشعبي الأمهري كما يوضح النشيد الأمهري التالي:
بحر السلام وتيكيزي وجوانج هي أنهارنا – – – يوهانيس (الإمبراطور) دع حرس الحدود يقولون الحقيقة،
أطفالنا محطمون / مشتتون، لكننا ما زلنا على قيد الحياة – – – على الرغم من الضغوط لإزاحتنا من أرضنا،
هناك حقا مشكلة في جوندر وفي قوجام – – – مع اليأس والاكتئاب لا يمكننا البقاء مُطأطِئي الرأس،
لقد استولوا على هوميرا وميتيما وعبدرافي وأرماتشيو – – – تلك الأرض التي تم تعيينها على أنها من نصيبنا،
من المؤكد أنه لن يكون هناك من يتحداهم من جانبنا – – – أيا شباب جوندر وقوجام وشيوا وهرر وباله،
يا شباب بلدي، لماذا تقاعستم؟! – – – غيروا النظام ودافعوا عن قضيتكم العادلة.
الطريق إلى المستقبل
اتخذت علاقات إثيوبيا بالسودان شكلًا سلبيًا في غالب الأحوال، كما أنها تجاوزت مفاهيم النزاعات الحدودية بمعناها المعتاد في الواقع الإفريقي، فثمة انقسامات عرقية وعدم استقرار سياسي في كلا البلدين وتدخلات مباشرة وغير مباشرة نتيجة تداخل الحدود والجماعات البشرية، يتضح ذلك بجلاء في انفصال كل من إريتريا وجنوب السودان، وهو ما غير الخريطة السياسية لمنطقة القرن الإفريقي. ويلاحظ كذلك أن الفكر السياسي الإثيوبي عبر مراحله المختلفة ركز على الأهمية الاستراتيجية للسودان، بما في ذلك موقعها المتاخم للبحر الأحمر، وقربها من الشرق الأوسط ولاسيما ارتباطها التاريخي بمصر، ومواردها الطبيعية الوفيرة. كل ذلك جعل هضبة الحبشة الحبيسة تتطلع دوما إلى أن يكون لها موطئ قدم في السودان.
بعد موجات شد وجذب في العلاقة بين البلدين كان التغير الدراماتيكي في السياسة الخارجية السودانية في أوائل الألفية الجديدة وحرصها على الروابط الاقتصادية مع إثيوبيا دليلًا على تحول نظام الإخوان في الخرطوم صوب الجنوب ومحاولة احتواء مصر. ظهر ذلك بجلاء من إعلان عمر البشير تأييده لبناء سد النهضة، بل وإثارة الجدل مرة أخرى حول اتفاقية عام 1959 الخاصة بمياه النيل، بيد أن أطراف المعادلة الاستراتيجية باتت في طريقها للتغيير عقب الإطاحة بنظام البشير وإثارة الشكوك حول جدوى سد النهضة للسودان، وفي نفس الوقت تم الإعلان عن الربط الكهربائي بين مصر والسودان.
ولعل ما يلفت الانتباه في المواقف الإثيوبية المتناقضة والتي لا تخفي رغبتها في السيطرة الإقليمية بهدف الوصول إلى البحر أنها اعترفت بالمعاهدات الاستعمارية التي قامت بتعيين الحدود بينها وبين السودان من ناحية وبينها وبين إريتريا من ناحية أخرى، بينما رفضتها فيما يتعلق بتقاسم موارد مياه النيل. لقد نصت اتفاقية الجزائر علام 2000 على أن: “تولى مفوضية ترسيم الحدود عملية تعيين وترسيم الحدود بموجب المعاهدات الاستعمارية لعام 1900 و1902 و1908 والقانون الدولي، ولا يحق أن تتخذ قراراتها على أساس التراضي”. ولعل ذلك يظهر بجلاء التوظيف السياسي الإثيوبي للقانون الدولي بهدف تثبيت وفرض الأمر الواقع في علاقاتها الإقليمية.
لا تزال إثيوبيا تحتل أراضي الفشقة الخصبة وتدعي أن ميليشيات الفشتا خارجة عن القانون وهو ما يسهم في تكريس وضع اليد وخلق مراكز قانونية على الأرض في ظل ضعف الحكومتين المركزيتين في أديس أبابا والخرطوم وعدم قدرتهما على خوض حرب مباشرة. يواجه رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد أوضاعًا بالغة الهشاشة في ظل الأزمة الدستورية المرتبطة بتأجيل الانتخابات العامة وإمكانية حدوث فراغ دستوري. ثمة ظهور متنامٍ للتيارات القومية المتطرفة، ولاسيما بين صفوف الأمهرا والأورومو والتيغري. ومن جهة أخرى، يواجه التحالف المدني العسكري الحاكم في السودان تحديات جسام وحالة من عدم الاستقرار السياسي، وهو الأمر الذي يدفع بملف العلاقات الإثيوبية السودانية إلى حالة من عدم اليقين في ظل سيطرة واحتلال القبائل الإثيوبية للأراضي السودانية الخصبة في منطقة الفشقة.