يتزايد الاهتمام الأمريكي بليبيا في المرحلة الحالية، وذلك على خلاف المسار الذي اعتمدته إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، والذي كان قد تم الإعلان عنه في أبريل 2017، ومفاده أنه: لا يرى دورًا للولايات المتحدة في ليبيا، وأنها تقوم حاليًّا بالعديد من الأدوار “بما فيه الكفاية”، في أماكن مختلفة من العالم. وعلى الرغم من مصادقة مجلس الشيوخ على تعيين “ريتشارد نولاند” سفيرًا لواشنطن لدى ليبيا في أغسطس 2019؛ إلا أن السياسة الأمريكية تجاه التفاعلات اللاحقة ظلت تتعامل مع ملف الأزمة الليبية بالقطعة وحسب المواقف.
وتعكس العديد من البيانات الصادرة عن البنتاجون وقيادة أفريكوم أن الدافع الرئيسي لزيادة الاهتمام الأمريكي بليبيا يأتي في مقابل تزايد معدل الانخراط الروسي في الأزمة الليبية، وتمدد نفوذ موسكو في شرق المتوسط وشمال إفريقيا، وهو ما تعتبره الولايات المتحدة تهديدًا جديدًا لنفوذ “الناتو” في هذه المنطقة، وهو ما يفسر مبادرة الولايات المتحدة هذا الأسبوع لدعوة أعضاء الناتو المنخرطين في ملف الأزمة الليبية إلى اجتماع عبر الفيديو كونفرانس.
مؤشرات ودوافع
تُركز الولايات المتحدة على تنامي الدور الروسي في الأزمة الليبية، سواء على المستوى العسكري أو الاقتصادي، وهناك مؤشرات عدة على ذلك، أبرزها البيان الصادر عن قيادة الجيش الأمريكي في إفريقيا الذي اتّهم روسيا بتأجيج الصراع في ليبيا، واعتبر ذلك تهديدًا للأمن الإقليمي. كما أُعلن في 27 مايو أن روسيا سلمت طائرة “ميج 29″ و”سوخوي 27” للجيش الوطني الليبي، تمركزت في قاعدة “الجفرة”. وقد ذهب مدير استخبارات القيادة الأمريكية في إفريقيا إلى أن تسليم هذه الطائرات قد يغير من معادلة التوزان العسكري في ليبيا بصورة كبيرة، وسيوفر مرتكزًا استراتيجيًّا لروسيا في شمال إفريقيا.
في السياق ذاته، يأتي إعلان وزارة الدفاع الأمريكية أنها تدرس طرقًا جديدة لمواجهة القلق الأمني المشترك مع تونس من خلال نشر أحد الألوية الأمريكية هناك للمساعدة، وأعلنت تونس -في المقابل- أن الولايات المتحدة شريك رئيسي في بناء الجيش التونسي. ثم جاء قيام السفير الأمريكي بزيارة تتجاوز الأعراف الدبلوماسية إلى عميد بلدية “الزنتان” لمناقشة التطورات في ليبيا، وأعلن خلالها السفير أن الوكالة الأمريكية للتنمية على استعداد للعمل مع عميد البلدية لمعالجة التحديات التي تواجه البلدية. أهمية هذه الزيارة أن بلدية “الزنتان” تخضع لمساومات من جانب حكومة “السراج” لتغيير موقفها من الجيش الوطني. ويأتي الموقف الأمريكي مساندًا لها في ذلك.
كما وجّهت واشنطن الاتهام لموسكو بطبع عملات ليبية مزورة لضرب الاقتصاد الليبي، وذلك تعليقًا على إعلان مالطة احتجاز شحنة أموال مطبوعة في روسيا في طريقها إلى ليبيا تعادل 1.1 مليار دولار، والتي أوضحت وزارة الخارجية الروسية أنها تمت طبقًا لعقد موقّع مع البنك المركزي الليبي وبموافقة مجلس النواب الليبي.
دلالات التحول في الموقف الأمريكي
الاهتمام الأمريكي المكثّف والمتصاعد بالملف الليبي من الواضح أنه لا يتعلق بطبيعة ومجريات تطورات الأزمة أو إيجاد حل لها وتحقيق الاستقرار، لكنه يرتبط بعناصر أساسية في الاستراتيجية الأمريكية في شمال إفريقيا وجنوب المتوسط، والتي من أهمها ما يلي:
1- المحافظة على الاتصال وامتلاك التأثير على طرفي الصراع في ليبيا للمشاركة الفعالة في إدارة الأزمة وليس حلها وبما يتوافق مع المصالح الأمريكية.
2- تجاهل التدخل العسكري التركي في ليبيا رغم تجاوزه عددًا من الثوابت التي تعلنها الولايات المتحدة، خاصة الحرب على الإرهاب، وهو ما يُعيد طرح التساؤلات حول جدية الموقف الأمريكي بهذا الخصوص في ضوء نقل إرهابيين من سوريا إلى ليبيا والتعامل مع حكومة الوفاق التي تتبنى ميليشيا تم تصنيف قادتها بالإرهابيين.
3- الحساسية الأمريكية الشديدة من أي تحرك روسي في هذه المنطقة، أو محاولة ملء الفراغ الذي يترتب على توجه الإدارة الأمريكية للانسحاب من قضاياها، وذلك من خلال العمل على استمرار الأزمات ودعم بديل محلي يساهم في ذلك (أردوغان والإخوان المسلمون في ليبيا وتونس).
4- استثمار التناقض القائم في مواقف بعض دول الاتحاد الأوروبي من الأزمة ليبقى الاتحاد رهنًا للاستراتيجية الأمريكية، فضلًا عن أن إثارة المخاوف من التمركز الليبي في المنطقة بدعوى أن ذلك يمكن أن يغير من قواعد المواجهة الاستراتيجية بين روسيا وحلف الأطلنطي، وهو ما يوفّر قبولًا من جانب الحلف لتمركز تركيا في ليبيا.
من الملفت أن التوجه الأمريكي لتكثيف التعاون العسكري الأمريكي مع تونس قد تزامن مع زيادة الانخراط التونسي في مساندة حكومة الوفاق وتأييد حركة النهضة الإخوانية للانخراط التركي، في رسالة أمريكية واضحة إلى طبيعة الموقف الأمريكي المنحاز.
ولا شك أن مجمل الحركة الأمريكية لن تمنع التوجه الروسي من الانخراط في الأزمة وترتيب حضور روسي في ليبيا، بل إن زيارة وزير خارجية حكومة الوفاق إلى موسكو تشير إلى محاولة الإيحاء بتوازن موقفها، وسعيها كذلك لتوفير الفرصة للشركات الروسية مستقبلًا، سواء في مجال التنقيب عن الغاز أو إعادة إعمار ليبيا. ومن الجدير بالاهتمام محاولة روسيا لصياغة نوع من التفاهم كبديل للتصادم مع تركيا.
مجمل القول، من المتصور أن الأطراف الدولية المعنية بالأزمة الليبية، بما فيها الولايات المتحدة وروسيا، لن تسمح بأية عمليات عسكرية أو حل عسكري للأزمة، وستحاول الحفاظ على معادلة توازن يُبقي على نفوذ طرفي الصراع الليبي في انتظار المساومات بين الأجندات الإقليمية والدولية المتنافسة.