أثار توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين كلٍّ من إيطاليا واليونان (9 يونيو 2020) تساؤلات كبيرة حول حدود وطبيعة المواجهة المحتملة بين أنقرة وأثينا، خاصة في ظل ما يمكن أن يرتبه هذا الاتفاق من آثار تصب في النهاية في تحجيم وتطويق الطموح التركي غير المشروع المرتبط بغاز شرق المتوسط.
ويُعتبر هذا الاتفاق مكملًا لاتفاق عقده الطرفان عام 1977 بشأن الجرف القاري في البحر الأيوني، كما يشير إلى سعي دول المنطقة إلى تسكين الخلافات والتوترات فيما بينها من أجل مواجهة الاستفزازات والتحركات التركية، حيث نجح الاتفاق في إنهاء خلافات تاريخية نشبت بين إيطاليا واليونان بشأن حقوق الصيد في هذه المنطقة. كما أنه يرتب حقوقًا تتوافق مع القانون الدولي للبحار على خلاف الاتفاق الموقع بين “أردوغان” و”السراج” (نوفمبر 2019) والذي لم يجد أي دعم خارج نطاق الطرفين، خاصة في ظل تجاهله لحقوق جزيرة كريت اليونانية انطلاقًا من تفسيرات أنقرة بأن الجزر ليس لديها جرف قاري.
من ناحية أخرى، يُعتبر توقيع الاتفاق بين إيطاليا واليونان تحولًا نوعيًّا في استراتيجية اليونان لتأمين مصالحها وحقوقها القانونية في منطقة شرق المتوسط، ذلك أن اتفاق ترسيم الحدود بين البلدين يعتبر الأول من نوعه الذي تقوم به اليونان. ومن المتوقع أن يفتح الباب أمام تحركات مماثلة مع الدول المتشاطئة معها مثل قبرص وليبيا وألبانيا ومصر. وفي ظل هذه المساعي ليس من المستبعد أن يتم ترسيم الحدود المصرية اليونانية خلال الفترة القادمة.
ترتيبًا على ما سبق، يمكن اختبار حدود وإمكانية المواجهة العسكرية بين تركيا واليونان في ظل الترتيبات الأخيرة، خاصة أن الفترة الماضية شهدت سلسلة من التطورات والتصريحات التي لا تستبعد إمكانية اللجوء إلى الخيار العسكري لمواجهة التحركات التي يراها كل طرف أنها تمثل تهديدًا مباشرًا لأمنه القومي، وكان آخرها تصريح وزير الدفاع اليوناني (5 يونيو 2020) بشأن عدم استبعاد المواجهة العسكرية مع تركيا.
صراع مُتجذر وملفات عالقة
يرتبط التصعيد الحالي بين تركيا واليونان بموروث تاريخي وخلفية صراعية، فمنذ استقلال اليونان عن الإمبراطورية العثمانية عام 1832، خيم التوتر على العلاقة بين الطرفين، حيث خاض الجانبان نحو أربعة حروب كبرى، سواء من خلال المواجهات المباشرة بين الطرفين كحرب عام 1897 التي عُرفت بحرب الثلاثين عامًا، وكذا الحرب التركية-اليونانية خلال الفترة (1919-1922) المعروفة باسم الحرب في آسيا الصغرى. في الوقت ذاته، خاضت اليونان مواجهتين ضد تركيا ضمن تحالف مجموعة من الدول. وقد تكرر ذلك في حرب البلقان الأولى والحرب العالمية الأولى. وسط هذه الأجواء تحسنت العلاقة بين الطرفين قليلًا في أعقاب انضمامهما للناتو في 1952.
وقد تأثرت العلاقة بشكل حاد منذ غزو قبرص عام 1974، والذي أسفر عن التقسيم الدائم للجزيرة إلى شطرين (قبرص التركية التي لا تعترف بها سوى أنقرة، وقبرص اليونانية)، وكاد التوتر بين الطرفين يصل إلى المواجهة العسكرية المباشرة في عام 1996، عندما حشدت كل دولة قواتها البحرية حول “جزيرة كارداك”، إلا أن تدخل الولايات المتحدة وحلف الناتو حال دون نشوب هذه المواجهة. وقد ظلت العلاقة بين البلدين في حالة توتر مستمر حتى وقتنا هذا.
وترتيبًا على ما سبق، يمكن إجمال طبيعة وحدود الاشتباك بين الجانين حول عدد من الملفات التي لا تزال عالقة، وذلك في يلي:
1- حدود المياه الإقليمية في بحر إيجة: فعلى الرغم من أن اتفاقية لوزان 1923 قد حددت عرض المياه الإقليمية بين الطرفين بنحو 3 أميال، الأمر الذي يعني أن المياه الإقليمية لليونان ستُمثل نحو 46% من بحر إيجة، في حين تصل المياه الإقليمية التركية لنحو 7% على أن تصبح النسبة المتبقية مياهًا مفتوحة، إلا أن التوتر بين الطرفين قد تزايد بعدما سعت اليونان وفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة للبحار 1982 لتوسيع حدودها البحرية إلى 12 ميلًا بحريًّا، الأمر الذي يُتيح لها السيطرة على نسبة تصل إلى نحو 71% بينما تستحوذ تركيا على نحو 8% من إجمالي المياه. وفي هذه الحالة سيتم تقويض قدرات أنقرة البحرية. وتسعى تركيا بشكل مستمر للعمل على إعادة النظر في اتفاقية لوزان، وهو ما طرحه “أردوغان” بشكل صريح أثناء زيارته لليونان في ديسمبر 2017.
2- تحديد المجال الجوي: إذ دائمًا ما تتهم اليونان المروحيات والطائرات التركية بانتهاك مجالها الجوي في بحر إيجة؛ ففي مايو 2017 -على سبيل المثال- أعلنت هيئة الأركان العامة للدفاع الوطني اليونانية أن الطائرات التركية دخلت المجال الجوي اليوناني حوالي 141 مرة خلال يوم، الأمر الذي تعتبره اليونان مخالفًا للقانون، وينتقص من السيادة اليونانية. وتكمن طبيعة الخلاف في تحديد مدى المجال الجوي، إذ تطالب اليونان بمجال جوى يبلغ نحو 10 أميال، في حين لا تعترف تركيا بهذه المساحة، الأمر الذي كان ولا يزال مجالًا للشد والجذب بين الطرفين.
3- تباين الرؤى المتعلقة بالجرف القاري؛ حيث تُعد مسألة تحديد الجرف القاري بين الطرفين ضمن الملفات العالقة بين البلدين. ففي الوقت الذي ترى فيه اليونان ضرورة تحديد الجرف القاري وفقًا لاتفاقية جنيف 1958 وما تبعها في اتفاقية الأمم المتحدة للبحار 1982، ترفض تركيا هذا الطرح لعدد من الأسباب؛ أولها، أن هذه الرؤية من شأنها أن تضع أغلب جزر بحر إيجة ضمن النفوذ اليوناني. ثانيها، عدم توقيع تركيا على هذه الاتفاقيات، وبالتالي فهي ليست ملزمة بتنفيذ قرارات لم تكن طرفًا فيها.
4- أزمة جزيرة قبرص: تُعتبر جزيرة قبرص أكبر جزر البحر المتوسط، كما أنها تدخل ضمن القضايا الخلافية بين تركيا واليونان. ومنذ غزو تركيا للجزيرة وتقسيمها سنة 1974، باتت المنطقة محلًا للنزاع بين الطرفين. ورغم المحاولات والجهود الدولية لحلحلة هذه القضية إلا أن هذه التحركات لم تحقق نجاحًا، خاصة أن عضوية قبرص في الاتحاد الأوروبي قُوبلت بتحالف قبرص الشمالية مع تركيا. أضف إلى ذلك فقد ساهمت اكتشافات الغاز في منطقة شرق المتوسط في جعل قبرص محورًا ومركزًا للخلاف بين البلدين.
مسارات متعددة
لا شك أن منطقة شرق المتوسط والتحركات التركية الأخيرة قد أشعلت فتيل الصراع، وزادت من حدة التوتر بين الطرفين، خاصة مع إصرار أنقرة على التنقيب عن الغاز الطبيعي بصورة غير قانونية. وقد اتخذت تركيا عدة خطوات مخالفة للقواعد الحاكمة والضابطة لاستغلال الثروات الطبيعية شرق المتوسط، من بين هذه الإجراءات الإعلان عن بدء التنقيب في شرق المتوسط (مايو 2019). ومنذ ذلك الحين، أرسلت تركيا حوالي 4 سفن لهذا الغرض، كما عملت على تنفيذ عدد من المناورات البحرية بهدف إظهار قوتها البحرية. في الوقت ذاته، مثّل توقيع الاتفاق بين حكومة الوفاق بقيادة “فايز السراج” والرئيس التركي “أردوغان” (نوفمبر 2019)، تحديًا جديدًا لدول المنطقة، خاصة أن هذا الاتفاق يتجاوز حقوق اليونان البحرية ويتجاهل جزيرة كريت، كما أنه يخالف قواعد القانون الدولي للبحار. وتُعتبر هذه الخطوات ضمن استراتيجية أنقرة الكبرى المعروفة بـــــ”الوطن الأزرق” التي تقوم بالأساس على محاولة تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية والجيوسياسية عبر تواجدها في البحار الثلاثة (إيجة، البحر الأسود، شرق المتوسط).
في ظل التحركات التركية الحالية التي قوبلت برفض دولي واسع، تبقى احتمالات وحدود التصعيد بين تركيا واليونان محكومة بعدد من المسارات، نوجزها فيما يلي:
المسار الأول، الاستمرار في التصعيد دون المواجهة: ويعزز هذا المسار عدد من المؤشرات، أهمها النهج التركي المتصاعد فيما يتعلق بالتدخل العسكري في عدد من الساحات مثل الغزو التركي لشمال سوريا، والتدخل العسكري في ليبيا، فضلًا عن تحركات تركيا لعسكرة شرق المتوسط عبر نشر نحو 30 ألف جندي في قبرص الشمالية، ومحاولة تأسيس قاعدة جوية هناك، بالإضافة إلى تحديث قدراتها البحرية في المنطقة، وما أُثير حول مساعي تركيا لنشر منصات صاروخية وتفعيل منظومة “إس-400” الروسية في إطار النزاع البحري شرق المتوسط. من ناحية أخرى، تتخذ اليونان عددًا من الإجراءات التي من شأنها تأزيم الموقف، من بينها إرسال تعزيزات عسكرية لنحو 16 جزيرة من الجزر المتنازع عليها مع تركيا، فضلًا عن تفعيل منظومة “إس-300” الدفاعية، وتحديث معداتها البحرية، بالإضافة إلى الدعم العسكري من جانب عدد من الدول لليونان، مثل قيام فرنسا بإرسال عدد من السفن الحربية لدعم اليونان شرق المتوسط.
لكن مع أهمية هذه المؤشرات، إلا أن الانتقال من مستوى التصعيد إلى المواجهة يظل بديلًا مُستبعدًا لعدد من الاعتبارات، منها أن الوضع الاقتصادي للطرفين قد لا يسمح لهما بتحمل تكلفة وتبعات مثل هذه المواجهة، كما أن تركيا ليس بمقدورها فتح عدد من الجبهات القتالية في آن واحد. من ناحية أخرى، تظل مصالح الدول الكبرى في شرق المتوسط حائلًا مهمًّا دون الانتقال إلى سيناريو المواجهة العسكرية المباشرة، خاصة أن هذه المواجهة قد تؤثر بشكل كبير على مصالح هذه القوى ومصالح شركاتها العاملة في مجال التنقيب. أضف إلى ذلك أن حلف الناتو لن يؤيد دخول دولتين عضوين في الحلف في مواجهة عسكرية مباشرة. وفي ضوء هذه الاعتبارات قد تظل المواجهة بين الطرفين عند حدودها الراهنة دون الانتقال إلى المواجهة المفتوحة المباشرة. لكن دون أن يمنع ذلك توظيف إمكانات الحروب الإلكترونية، حيث أفادت تقارير عدة بقيام قراصنة أتراك بالهجوم على موقع البرلمان اليوناني ووزارة الخارجية وجهاز الاستخبارات الوطني، الأمر الذي قوبل بمحاولات مماثلة من جانب اليونان، استهدفت عددًا من المواقع والخدمات المملوكة لأنقرة.
المسار الثاني، التطويق عبر الشراكات: الفرضية المطروحة هنا هي استمرار اليونان في تطويق ومجابهة التصعيد التركي في المنطقة عبر مزيدٍ من الشراكات مع عددٍ من الأطراف الفاعلة والمؤثرة في المشهد. وقد تجلّى هذا النهج عبر مجموعة من الإجراءات التي اتخذتها اليونان في هذا الشأن، منها: توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إيطاليا، والانضمام إلى منتدى غاز شرق المتوسط. كما يُمكن اعتبار التوقيع على الاتفاقية الإطارية (يناير 2020) بشأن تحويل المنتدى إلى منظمة دولية من شأنه أن يُعزز تحركات اليونان في هذا الصدد. من ناحية أخرى، يمكن التأكيد على أن تعزيز الشراكة بين اليونان ومصر وقبرص عبر عقد عدد من القمم المشتركة بين الطرفين من شأنه أن يزيد من عزلة أنقرة، علاوة على توقيع اليونان مع كل من قبرص وإسرائيل على مشروع “إيست ميد” لتصدير الغاز لأوروبا، بالإضافة إلى إقرار الكونجرس في ديسمبر 2019 قانون شراكة الطاقة والأمن لشرق المتوسط وطرحه لمبادرة (3+1) التي تعمل على تنسيق وتعزيز العلاقات بين كل من الولايات المتحدة الأمريكية واليونان وإسرائيل وقبرص فيما يتعلق بمنطقة شرق المتوسط. كل هذه التحركات يمكنها أن تجابه التصعيد التركي، وتضع قيدًا على أنقرة في منطقة شرق المتوسط.
المسار الثالث هو التهدئة بشأن كافة الملفات العالقة بين الطرفين عبر الأدوات الدبلوماسية. كما يراهن البعض على إمكانية قيام بعض الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، أو بعض المؤسسات مثل حلف الناتو، بالوساطة بين الجانبين من أجل تخفيف حدة التوتر. لكن هذا المسار يظل محكومًا بدرجة المرونة والتنازلات التي يمكن أن يقدمها الطرفان.
مُجمل القول، تظل التفاعلات في شرق المتوسط مرهونة بمدى استمرار تركيا في التصعيد، وتبقى كافة المسارات مطروحة؛ إلا أن الفترة القادمة قد تشهد تصعيدًا بين الطرفين دون الوصول إلى حد المواجهة المباشرة أو المفتوحة.