تظل إشكالية الأكراد واحدة من أخطر قضايا الأقليات التي تشهد مراوحةً بين تعزيز روابطها بالدول الوطنية تارةً، والتعامل العسكري العنيف من جانب فاعلين مختلفين تارة أخرى. وتظل تركيا أبرز الدول التي توظف حالة الأكراد في أراضيها وبدول الجوار للتدخل بشكل سافر ينتهك سيادة الدول الإقليمية الأخرى، ويتعارض مع مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة. وفي هذا الإطار، أعلنت وزارة الدفاع التركية عن إطلاق عملية باسم “المخلب-النسر”، لاستهداف مناطق سيطرة الأكراد بشمال العراق، فيما أعلنت أنقرة أن حزب العمال الكردستاني هو الهدف الرئيسي وراء تلك الضربات الجوية.
الوجود التركي داخل العراق
يُعد وجود قوات تركية بمناطق شمال العراق أمرًا غير جديد، ففي عام 1981، وقعت تركيا والعراق معاهدة أمنية تضمنت السماح للجيش التركي بدخول الأراضي العراقية شمالًا بمسافة 20 كم؛ لتستطيع ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني. ومع سقوط نظام “صدام حسين” في عام 2003، استباحت تركيا الأراضي العراقية واستثمرت الخلافات بين الحزبين الكرديين الرئيسين (حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طالباني، والحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي بقيادة برزاني)، وتوسطت في المعارك التي جرت بينهما، وأدخلت قواتها للفصل بين القوات المتحاربة، وبقيت مجموعات من تلك القوات موجودة داخل أربيل وفي جبال قنديل حتى اليوم.
وفي عام 2003 طالب برلمان كردستان العراق بخروج القوات التركية من المحافظات الكردية، كما طالب البرلمان العراقي رسميًّا بخروج القوات التركية في عام 2005؛ إلا أن أنقرة تجاهلت تلك الدعوات. وفي عام 2006، بادرت الحكومة التركية بتأسيس قواعد عسكرية في منطقة كردستان، تمركزت معظمها في محافظة “دهوك”، بلغ عددها 10 قواعد، أهمها قاعدة “بامرني”، التي تضم 600 جندي تركي، وقاعدة “كاني ماسي” التي تضم 400 جندي. وتدّعي تركيا أن مهمة هذه القوات هي الحيلولة دون دخول قوات حزب العمال الكردستاني إلى الأراضي التركية.
وقد دخلت القوات التركية إلى منطقة “بعشيقة” بمحافظة نينوى العراقية في يناير 2016، بحجة تدريب مجموعات عراقية لمواجهة تنظيم “داعش” الإرهابي. وتألفت تلك القوات بالبداية من 150 جنديًا مدعومين بـ25 دبابة ومدرعة، بالإضافة إلى عدد من كاسحات الألغام. وقد رفضت الحكومة العراقية هذا التحرك، وطالب رئيس الوزراء “حيدر العبادي” أنقرة بسحب قواتها فورًا، ونفى أن تكون حكومته طالبت تركيا بهذا التحرك؛ إلا أن الولايات المتحدة أعلنت بعد ذلك أن الانتشار التركي في تلك المناطق يأتي في ضوء التنسيق معها لمحاربة تنظيم داعش، لتعلن مصادر تركيا بعد ذلك نيتها إدخال المئات من قواتها بالمناطق المحاذية لمدينة الموصل؛ بغية تدريب بعض الميليشيات العراقية، مؤكدة أن أعضاء التحالف الدولي ضد داعش على علم بهذه الخطوة التركية.
وإلى جانب التدخل العسكري السابق، فإن تركيا تتواجد بالعراق عبر أدواتها الاستخباراتية بشكل واسع، وترتبط بصلات وثيقة مع كافة التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق. ويدلل على ذلك خروج البعثة القنصلية التركية من الموصل إلى تركيا في حماية قوات داعش في أعقاب سيطرة التنظيم الإرهابي على مساحات واسعة ومدن كبرى بالعراق. بالإضافة إلى ما كشفته تقارير دولية رصينة حول تورط أنقرة في تجارة البترول المنهوب من سوريا والعراق لصالح تنظيم داعش، ورصدت طائرات المراقبة الروسية أرتالًا من ناقلات النفط تعبر إلى الأراضي التركية من مناطق سيطرة تلك التنظيمات. وليس ببعيد ما ظهر إلى العلن بعد سقوط معاقل تنظيم “داعش”، حيث كشفت قوات سوريا الديمقراطية عن امتلاك عناصر التنظيم المقبوض عليهم جوازات سفر تحمل أختام عبور حديثة من وإلى تركيا.
وتجدر الإشارة إلى أن النظام التركي يعتمد بشكل كبير على الاستهداف المتواصل لمعاقل ومناطق التمركز الكردي عبر ثلاثة وسائط عسكرية، هي: القصف الجوي، والإبرار الجوي، والقصف المدفعي. ولا توجد بيانات رسمية دقيقة حول عدد القواعد العسكرية التركية الموجودة فعلًا في إقليم كردستان العراق أو حجم الوجود العسكري التركي بالعراق؛ إلا أن التقديرات تشير إلى أن حجم هذه القوات يصل إلى حوالي 21 موقعًا عسكريًا تركيًا داخل محافظتي دهوك وأربيل، بينما تشير المصادر التركية إلى وجود 14 موقعًا عسكريًا فقط.
طبيعة ونطاق الضربات التركية
أفادت عدة تقارير بأن الضربات التركية طالت مناطق عدة، منها “جبال قنديل”، وهي منطقة تُمثل مثلثًا مشتركًا بين الحدود العراقية الإيرانية التركية، وتقع على بعد 120 إلى 150 كم شمال مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، وتمتد من الأطراف الجنوبية الشرقية من تركيا إلى الحدود مع إيران. ويتمركز عناصر حزب العمال الكردستاني في مناطق وعرة في “جبال قنديل”، حيث تتميز بالطبيعة الجبلية والغابات الكثيفة والتلال المرتفعة والوديان العميقة، ما يجعلها عوامل مساعدة للتحصن من الهجمات التركية. وجاءت الضربات التركية في تلك المنطقة معتمدةً على سلاح الجو، حيث انطلقت طائرات حربية تركية من قواعدها بمدينتي “ديار بكر” و”ملاطية”، ونفذت غارات على معاقل الحزب. كما استهدفت المدفعية التركية –بقرابة 20 صاروخًا- مناطق “جبل سنجار” غرب الموصل، والتي تضم مخيم “مخمور” للاجئين الأكراد، وتمثل هي الأخرى منطقة مثلث حدودي يجمع الحدود العراقية والسورية والتركية. وتوضح الخريطة التالية مواقع الضربات التركية.
وقبيل تلك الضربات بوقت وجيز، دفعت تركيا الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي (برزاني) للاستيلاء على عدد من القرى بسفوح جبال قنديل، والتي كانت ممرًا لمقاتليه من سوريا للعراق والعكس، وذلك بالنظر إلى التوافق النسبي بين الحزب والسياسة التركية. وكانت تلك المنطقة تحت سيطرة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (جلال طالباني) ما أثار خلافات بين الطرفين لا تزال قائمة. كافة الأحزاب الكردية تقدم الدعم لحزب العمال الكردستاني، الذي يحظى بدعم الأكراد في كل مناطق تمركزهم؛ باعتباره يطرح الحلم القومي بإقامة دولة كردية، ويعتبره “برزاني” منافسًا له، حيث يقدم نفسه كزعيم كردي أوحد، من هنا جاء تحالفه مع القوات التركية.
المواقف الدولية والإقليمية من الانتهاكات التركية
1- لا تعترض الجمهورية الإسلامية الإيرانية على الانتهاكات التركية، بل كان هناك نوع من التنسيق في ضرب حزب العمال الكردستاني والفصيل التابع له على الحدود الإيرانية تنظيم “بيجاك”. وتتجه إيران بشكل أكبر للتماشي مع التحركات التركية ضد الأكراد، لا سيما بعد حوادث استهداف عناصر الحرس الثوري في مناطق انتشارهم، فقد شنت إيران هجومًا مشتركًا مع تركيا في 18 مارس 2019 على خلفية تكرار هجمات ضد عناصر الجيش التركي، في ظل تصاعد مخاوف طهران من رغبة الأكراد في إقامة دولة مستقلة ستقود إلى ضغوط وتعقيدات كبيرة أمام النظام.
2- لم تعترض الولايات المتحدة الأمريكية على التحركات التركية، واعتبرتها تدعم مكافحة الإرهاب، ورغم رعاية الولايات المتحدة القوات الكردية في سوريا، وقوامها الرئيسي الاتحاد الوطني التابع لحزب العمال الكردستاني، والذي تعتبره منظمة إرهابية مجاملةً لتركيا، إلا أنها تحتاج للأكراد لضمان تحقيق استراتيجيتها في سوريا، لفصل شرق سوريا عن الدولة والاستيلاء على آبار البترول بتلك المنطقة، وهذا دليل على ازدواجية التعاطي الأمريكي، فهي ضد حزب العمال الكردستاني وفصائله فيما تتعامل مع الأكراد في سوريا لتحقيق أهدافها ومصالحها.
3- الحكومة العراقية اقتصر موقفها على التصريحات الإعلامية الرافضة للتحركات التركية لكن دون التقدم بشكوى رسميًا للأمم المتحدة أو مجلس الأمن؛ إلا أن الضربات الأخيرة أظهرت تطورًا نسبيًا في موقفها؛ حيث أصدرت قيادة العمليات المشتركة في العراق بيانًا استنكرت فيه اختراق الطائرات التركية للأجواء العراقية، واصفة الأمر بأنه “تصرف استفزازي”. كما زار وزيرا الدفاع والداخلية المناطق المستهدفة بـجبل سنجار في الموصل. ويتوقّع أن تأتي المواقف العربية وتحركات الدول المعنية باستقرار وأمن العراق محفزًا لتحرك عراقي أكبر لوقف الانتهاكات التركية.
4- أما الحشد الشعبي فإنه يصطدم دائمًا بالفصائل التابعة لحزب العمال الكردستاني، ما يمثل مساندة إيرانية غير مباشرة للموقف التركي.
ملاحظات ختامية
– هناك ترابط بين حزب العمال الكردستاني داخل الحدود العراقية والاتحاد الوطني في سوريا (القوة الرئيسية في قسد والحضور العسكري بشرق سوريا)، وهذا الحزب يعتبر مقدمة لحزب العمال الكردستاني المتصادم مع الوجود الكردي شمال وشرق سوريا.
– تقوم الاستراتيجية التركية على محاصرة أي قوة عسكرية كردية، وتشير التقديرات إلى أن عدد الأكراد في تركيا حوالي (15) مليون نسمة، وهو أكبر تمركز للأكراد حول العالمي بنسبة 56% من الأكراد في العالم، و20% من سكان تركيا، ويعيشون في المحافظات الجنوبية الشرقية. وتعتنق نسبة كبيرة منهم المذهب العلوي، ومن ثم فإنهم يمثلون خطورة على التماسك الداخلي التركي والإيراني أيضًا، لذا تستهدف تحركات الدولتين احتواء القضية التركية في الداخل، وعدم تمكينها من الظهور على سطح المشهد السياسي أو الاجتماعي.
– يطبق النظام التركي سياسات قمعية ترمي لمنع وصول ممثلي الأحزاب الكردية إلى أي مواقع سياسية أو تنفيذية، حتى ولو جاء ذلك عن طريق الانتخاب.