حين قامت روسيا بالتدخل العسكري المباشر في سوريا خريف 2015 بطلب من حكومتها لردع الجماعات الإرهابية ولحماية النظام من السقوط المروع والحفاظ على وحدة سوريا الإقليمية، أعجب كثيرون بهذا الموقف الروسي المبدئي من جانب، واعتبار المصالح الروسية التاريخية في سوريا وفى المشرق العربي من جانب آخر. لكن الحصيلة بعد خمس سنوات من هذا التدخل تبدو متناقضة تماماً مع المبررات التي قيلت. صحيح أدى التدخل الروسي إلى تغييرات على الأرض لصالح النظام السوري في مناطق كثيرة من البلاد وليس كلها، وأدى أيضاً لتجاوز المطالب الدولية المختلفة بضرورة تغييب الرئيس بشار عن المشهد السوري كشرط ضروري لحل الأزمة السورية ككل، إلا أن المحصلة الكلية تتضمن ما هو سلبي جداً ومتناقض جداً مع المعلن من المبادئ والدوافع الروسية.
يتضح الأمر جلياً وبدون أي تنظيرات في قبول روسيا قبولاً مبدئياً وعملياً للدور التركي الاحتلالي لشمال سوريا، والتعامل مع الرئيس أردوغان باعتباره لاعباً أساسياً في تحديد مصير سوريا ونظامها ووحدتها الإقليمية، والتعامل معه باعتباره الضامن والوكيل الحصري لمنظومة الإرهاب السورية والدولية، وترك الحبل على الغارب للجيش التركي ومخابرات أنقرة وبدون أي اعتراض لحماية الجماعات الإرهابية وتوظيفها في تهديد أكراد سوريا والاعتداء على مدنهم وقراهم، بل واستخدام هذه الجماعات الإرهابية في ابتزاز دول أخرى عبر نقلهم إلى مناطق صراعات وأزمات بغرض تعزيز الدور التركي بدون وجه حق. واختصاراً قبلت روسيا أن تحتل تركيا شمال سوريا وسمحت بعمليات التتريك المتسارعة والجارية على قدم وساق في حوالي 15 في المائة من مساحة سوريا.
وهنا يحق لنا أن نتساءل عن هذا التراجع الروسي وعن النموذج الذي قدمه في سوريا وإلى أي مدى هو نموذج لا يختلف كثيراً عن ألاعيب أردوغان ومراميه الحقيقية في التوسع غير المشروع.
هذه المقدمة تبدو الآن أكثر من كاشفة لكل ما يتردد عن تدخلات روسية في الأزمة الليبية. وبداية من الضروري الاعتراف بأن موسكو لها مصالح في ليبيا شأن كل البلدان، وأنها تسعى إلى حماية تلك المصالح سواء المستندة إلى إرث تاريخي، أو التي تتطلع إليها نظراً لما تتمتع به ليبيا من موارد نفطية وموقع مهم يؤثر في الكثير من المعادلات الإقليمية والدولية. لا ننكر مثل هذه الدوافع طالما أنها التزمت بالقانون الدولي وتحقيق مصالح متبادلة ومتوازنة مع الشعب الليبي ومن يمثلونه بحق وليس كوكلاء عن قوى استعمارية أو قوى طامعة في استغلال ليبيا ومواردها.
التقارير الإعلامية وكذلك تصريحات مسئولين كبار أوروبيين وأمريكيين عن التدخلات الروسية في الأزمة الليبية كانت مصحوبة دائماً بالانتقادات وبالإدانة لأنها وقفت مع الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر وحملته المشروعة ضد الميليشيات التابعة لفايز السراج، وكنا نرى أنها تقارير وتصريحات غير متوازنة، لأنها تساوى بين موقف مبدئي يتمثل في دعم جيش وطني يقوم بما عليه من واجبات لشعبه وبلده، وموقف آخر يدعم الإرهاب ورهن مصير البلاد بيد قوى متطرفة لا يمكن الوثوق في وطنيتها. ومع التدخل التركي المباشر ونقل آلاف الإرهابيين من شمال سوريا لدعم حكومة السراج وميليشياتها لفك الحصار عن طرابلس، لم نجد لموسكو أي موقف رافض لمثل هذا السلوك التركي، أو يعترض عليه أو يمارس ضغوطاً على أنقرة لوقف عمليات توزيع الإرهابيين على مساحات ودول مختلفة، بدلاً من الالتزام المتفق عليه سابقاً بين الرئيسين بوتين وأردوغان بنزع سلاح هؤلاء ومحاسبتهم على جرائمهم المثبتة والمعروفة للكافة، وكأن السلوك التركي كان محلاً للقبول الروسي لأنه يخفف الضغط على القوات الروسية في شمال سوريا، ويوقف مبررات خوض معركة كبرى لتحرير إدلب من الإرهابيين، كما هو معلن سابقاً.
لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فوجود الإرهابيين والاحتلال التركي في غرب ليبيا وعمليات التوسع والتمدد العسكري المفضوح من غرب ليبيا إلى شرقها والإصرار على السيطرة على مناطق النفط في سرت على بعد 450 كم من طرابلس وفى الجفرة جنوب البلاد، لم يهدد مصالح حلفاء روسيا في ليبيا فقط، بل مصالح ودور روسيا ذاته في عموم الشرق الأوسط، ويكشف حدود مساندتها لهؤلاء الحلفاء. ومرة أخرى تتحدث تقارير ومعلومات ليبية موثوقة عن ضغوط مارستها موسكو على الجيش الوطني للانسحاب من المواقع في طرابلس والمواقع القريبة منها، وترك ميليشيات الإرهاب تعيد التمكن من كامل العاصمة طرابلس وإخلاء ترهونة وقاعدة الوطية جنوب غرب البلاد لصالح التمدد والاحتلال التركي.
انسحاب الجيش الوطني الليبي وتعزيز مواقعه في وسط البلاد وشرقها، وإعادة تقييم الموقف العسكري والسياسي، صاحبته مبادرات سياسية، أبرزها المبادرة الليبية التي توصل إليها رئيس البرلمان الليبي السيد عقيلة صالح والمشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني، برعاية مصر والرئيس السيسي والتي أطلقت في السابع من الشهر الجاري والمستندة إلى مقررات مؤتمر برلين التي أيدتها دول العالم والأمم المتحدة، بهدف تعزيز فرص الحل السلمى ومنع مزيد من إراقة الدماء وإفساح المجال لإخلاء ليبيا من العناصر الإرهابية وبسط سيادة الدولة على أراضيها، والأهم منع تكرار نموذج الشمال السوري في غرب ليبيا، ولكن يبدو أن روسيا وإن أيدت دبلوماسياً العودة إلى الحلول السلمية وأبدت ترحيباً أولياً بالمبادرة، إلا أن مؤشرات الحركة الفعلية ترجح الميل الروسي إلى التعامل مع تركيا بالطريقة ذاتها التي جرت في سوريا، حيث قبول الأمر الواقع، والتعامل مع أردوغان كوكيل وضامن لميليشيات السراج، وتقاسم النفوذ وضبط المصالح المشتركة، والتخلي النسبي عن الحلفاء رغم الإيحاء بأنهم ما زالوا في قلب موسكو وعقلها.
من حق كل الذين يرون في موسكو قوة دولية ذات شأن في العلاقات الدولة أن نطالبها بالوقوف الحازم ضد أطماع «أردوغان» في ليبيا، وألا تكرر معه نموذج شمال سوريا في الغرب الليبي، وأن تعزز صمود حلفائها الحقيقيين ضد الإرهاب وجماعاته، وأن تبرز حنكتها في دعم الاستقرار وعدم التغاضي عن المطلب الأهم وهو القضاء على جماعات الإرهاب والمرتزقة السوريين وإخراجهم من ليبيا مدحورين، وأن تعطينا مثلاً عملياً في التمسك بمبادئ القانون الدولي وعدم التخلي عن المظلومين، وأن تساند وتدعم عملية «إيرينى» المستندة إلى مقررات قمة برلين التي شارك فيها الرئيس بوتين لحظر نقل الأسلحة التركية والإرهابيين والمرتزقة إلى ليبيا عبر البحر. ودون ذلك ستزيد الشكوك في مواقف موسكو تجاه ليبيا واستقرارها.