في السادس والعشرين من يناير عام 1517، انهزم جيش السلطان طومانباي في معركة دارت بصحراء العباسية ضد الغزاة العثمانيين. حكم العثمانيون مصر من القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر، فهل تذكر أي شيء مهم حدث في مصر خلال هذه القرون الثلاثة؟ ربما يتذكر البعض محاولة علي بك الكبير الفاشلة للاستقلال بمصر عن العثمانيين في القرن الثامن عشر، فكانت فرصة تم إهدارها. هل تذكر اسما لأي من الولاة العثمانيين الذين حكموا مصر خلال هذه القرون الثلاثة؟ هل خلف أحد منهم أثرا نتذكره به؟ هل تذكر كتابا مهما تم تأليفه خلال هذه القرون الثلاثة؟ هل تذكر اكتشافا علميا أو مناظرة فكرية مميزة؟ هل تذكر اسما لفقيه أو مؤلف؟ هل تذكر اختراعا، أو إنجازا اقتصاديا؟ لا تكاد الذاكرة تحمل شيئا عن هذه القرون الثلاثة، فليس فيها سوى ركود ممل سخيف؛ يشبه كل يوم فيها سابقه في بلادة مدهشة.
ظل الحال هكذا حتى جاء القرن التاسع عشر. لم يبدأ القرن التاسع عشر في مصر في عام 1800، لكنه بدأ قبل ذلك بعامين، عندما وصلت حملة بونابرت إلى الإسكندرية في يوليو 1798. لا يبدأ القرن الجديد في عرف دارسي التاريخ عندما يحتفل الناس بليلة رأس السنة وقدوم العام الجديد، لكن عندما يحدث التغيير الكبير الذي ينقل البلد من حال إلى حال.
في القرن التاسع عشر استكملت أوربا ما بدأته في القرون الخمس السابقة الحاسمة في تشكيل العقل والعالم الحديث. في القرون الخمسة، من الرابع عشر حتى الثامن عشر، أنجزت أوربا خمس قفزات كبرى. في البدء كان عصر النهضة، حين تم إحياء الفلسفة والفنون الكلاسيكية من زمن الإغريق والرومان، بكل ما فيها من نزعة إنسانية، على حساب التصورات الكنسية. ثم جاء عصر الإصلاح الديني، عندما جرى وضع الكنيسة وعقيدتها الدينية والدنيوية موضع الفحص والاختبار. بعدها جاء عصر الكشوف الجغرافية، لتنفتح أمام أوروبا كنوز وثروات العالم الجديد ومفاجآته. تلاه عصر الثورة العلمية، عندما تولى كوبرنيكس وجاليليو ونيوتن وآخرين وضع أسس العلم الحديث. وأخيرا في القرن الثامن عشر جاء عصر التنوير، الذي وضع النظامين الاجتماعي والسياسي موضع الفحص والاختبار، بعد أن استكمل علماء القرن السابق فحص الطبيعة ونظامها.
القرن التاسع عشر هو قرن اكتمال الحداثة الأوربية، فهو قرن الصناعة والاستعمار والحركات القومية والاشتراكية. عرف كل هذا طريقه إلى مصر في القرن التاسع عشر، عندما استقر الأمر في عقول قيادات طموحة، ومس أرواح وثابة تتطلع للتقدم، فكانت النهضة الهائلة التي مازالت آثارها باقية معنا إلى اليوم، رغم كل النكسات.
ضيعت سنوات الركود العثماني علينا فرصة التدرج في مواكبة التحولات المهمة التي شهدها العالم، فوجدنا أنفسنا نقفز من ركود القرون الوسطى العثمانية إلى حداثة القرن التاسع عشر، دون المرور التدريجي بما يفصلهما من قرون وتطورات؛ فاقتحمنا حداثة القرن التاسع عشر غير مسلحين سوى بالقليل الذي حصلناه من التفكير العلمي والتنوير والدولة الحديثة والرأسمالية؛ وماذا نفعل، فلم يكن لنا من خيار سوى قبول التحدي.
دخلت مصر القرن التاسع عشر في عام 1798، فيما لم تدخل بلاد كثيرة في الجوار العربي القرن التاسع عشر إلا بعد ذلك بمائة عام أو أكثر. سبقت مصر الآخرين في الدخول إلى القرن التاسع عشر، فأكسبها هذا سبقا وميزة، وتحولت إلى منارة يهتدي بها من وصلوا متأخرين. لم نحافظ على الزخم الذي خضنا به القرن التاسع عشر، ولحق بنا آخرون، فبدوا أكثر تقدما ونظافة ونظاما، وكانوا بالتأكيد أكثر ثراء؛ لكن ظلت الحداثة في شمولها من ناحية، ونسبيتها من ناحية أخرى، امتيازا مصريا، يشوهه الفقر والعشوائية، ينتظر من يعيد بث الحيوية فيه.
القرن التاسع عشر المصري هو أهم قرن في تاريخنا الحديث، ففيه تأسست مؤسسات الدولة والمجتمع الحديث في هذا البلد. في القرن التاسع عشر المصري الممتد عرفنا المدرسة والجامعة والدستور والبرلمان والحزب السياسي والمطبعة والجريدة وطبقة المثقفين والمتاحف، وألفنا الرواية والقصة ودونا النوتة الموسيقية. القرن التاسع عشر المصري هو قرن تأسيسي بلا منازع، ولم نرتق في أي وقت لاحق إلى حجم الإنجاز الذي حققناه في هذا القرن.
القرن التاسع عشر المصري قرن طويل. لم ينته القرن التاسع عشر في مصر في عام 1900، ولا في عام 1914 عندما أنهت الحرب العالمية الأولى القرن التاسع عشر الأوروبي. استمر القرن التاسع عشر المصري إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما دخلنا عصر التحرر من الاستعمار، واستغرقنا في عالم القطبية الثنائية والحرب الباردة والصراع الإيديولوجي الدولي، وانشغلنا عن تعميق الحداثة، تلك المهمة التي مازلنا ننتظر استكمالها.
في الواحد والثلاثين من ديسمبر 1999 نظمت مصر احتفالية كبرى بحلول الألفية الجديدة والقرن الواحد والعشرين. غير أن القرن العشرين المصري لم ينته في هذه الليلة، لكنه استمر معنا حتى العام 2013، عندما استكملنا إزاحة سلطة القرن العشرين متمثلة في نظام مبارك وقرينها الإخواني، الذي حاول إعادتنا لقرون الركود العثماني.
مازلنا في بداية القرن الواحد والعشرين، ومازال هذا القرن يكشف عن خباياه، لكن هناك علامات. القرن الواحد والعشرين هو قرن آسيوي، بعد أن كانت القرون السابقة قرونا غربية، أوروبية وأمريكية. القرن الواحد والعشرون هو قرن استكمال تحديث وبناء آسيا، ومن لديه الإرادة للحاق بها من العالم النامي. النموذج الآسيوي في الحكم والتنمية هو النموذج الصاعد في هذا القرن، وسوف تترك رياح الشرق الآسيوي أثارا مهمة على تجربتنا الوطنية، كما تركت رياح الغرب الأوربي والأمريكي آثارها علينا في الماضي. لكن الأهم هو أنه بغض النظر عما إذا كان القرن الواحد والعشرين أوربي أو أمريكي، روسي أو آسيوي؛ فالمهم هو أن نواصل مسيرة التحديث التي بدأناها قبل مائتي عام، وأن نمنح لمصر في هذا القرن تقدما يضاهي ما حققته في القرن التاسع عشر التأسيسي؛ فلم يعد لدينا وقتا نضيعه.