فيما يخص الأزمة الليبية وملف غاز المتوسط، يعيش حلف «الناتو» أزمة يراها الجميع، ويكتوى على لهيب نيرانها الكثير من أعضائه، رغم الحرص على كتمان بعض مما يعانون منه، الأفدح في الوقت الراهن أنهم يفتقدون بوصلة الخروج من هذا المأزق. بعض الأسئلة صار الحلف يبحث لها عن إجابات في العواصم الصامتة، من نوع: هل يتدخل «الناتو» لتقريب وجهات النظر بين باريس وأنقرة، أم أنه سيؤثر النأي بنفسه عن هذا الخلاف كى لا يتورط في مساندة طرف على حساب آخر؟ وأيضًا هل هناك أي مجال للنأي بالنفس في ملفات حساسة، مثل ما هو قائم بين أثينا وأنقرة في ملف غاز المتوسط، في الوقت الذي يعتبرها كل طرف قضية مصيرية من أجل المحافظة على أمنه القومي؟ وهناك الكثير من الأسئلة التي لا تقل عن سابقتها في الأهمية والخطورة، وتظل تركيا منفردة هي العامل المشترك الأعظم في تلك الفوضى والحيرة التي ضربت جنبات الحلف العتيد.
في إشارة إلى «مؤتمر برلين» للسلام في ليبيا، الذي عقد في بداية هذا العام، وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أصابع الاتهام إلى تركيا الإثنين الماضي، بسبب دعمها حكومة الوفاق، قائلًا بوضوح: إن تركيا تمارس «لعبة خطيرة» تتعارض مع كل ما وافقت عليه في المحادثات الدولية. وقد يكون ماكرون هو الرئيس الوحيد الذى تحدث بتلك اللغة واستخدم تلك الألفاظ المباشرة التي تضع مكونات المشهد فعليًا على مائدة التشريح الكامل، حتى إنه أجاب عن استقباله خطاب الرئيس المصري بذات الوضوح، فيما قال عنه: «إن قلق الرئيس المصري له ما يبرره، لقد لاحظتم القلق المشروع للرئيس السيسي عندما يرى جنودًا يصلون إلى حدوده، خاصة وهو يعرف وجود قوات مدعومة من تركيا قرب الحدود المصرية».
وهو في هذا الأمر لا يلقى بتبعات ما تقوم به تركيا على الرئيس المصري، فأزمة «الناتو» الحقيقية الآن أن الرئيس الفرنسي ذكر أمام الجميع أن بلاده لن تترك تركيا لفترة طويلة تصدر مقاتلين سوريين إلى ليبيا في ضوء ما تحت يديه من معلومات. ويظل ماكرون هو أول رئيس لدولة رئيسية في «الناتو»، صاحب التصريح الصادم، وهو يصف ما يمر به الحلف حاليًا باعتبارها فترة “موت سريري”.
لو أن الأمر اقتصر على هذا المشهد ما بين فرنسا وتركيا فيما يخص ليبيا، أو حتى لو أضفنا له الأزمة التي تبدو أكثر تعقيدًا ما بين تركيا من جانب واليونان وقبرص من جانب آخر، لربما ظل الأمر كنوع من الخلافات البينية التي يمكن من خلال تدخلات الشركاء من أعضاء الحلف احتواؤها أو تفكيك مكوناتها.. لكن المشهد في داخله عامر بالكثير من القضايا الأخرى التي تجعل العلاقة الملتبسة بين تركيا وحلف «الناتو» تزداد تعقيدًا، في الوقت الذي لا تجد قيادات الحلف منهجية ثابتة يمكن التعاطي معها في التعامل مع أنقرة. فهناك مثلًا خطة «النسر المدافع» التي وافقت تركيا عليها منذ العام الماضي، ومنذ التوقيع عليها وتركيا تواصل عرقلة الخطة الدفاعية للحلف من أجل بولندا ودول البلطيق، رغم أن الاتفاقية أبرمت بين الرئيس التركى أردوغان وقادة الحلف.
وليس بعيدًا زمنيًا عن تلك القضية، كان الخلاف الذي نشب في نوفمبر الماضي بشأن الهجوم الذي شنته تركيا العام الماضي في شمال سوريا، مؤشرًا على استمرار الانقسامات بين أنقرة وباريس وواشنطن، والأكثر دلالة على أن الخلافات التي تتعلق بالاستراتيجية الأوسع للحلف لم تحل بعد. بل إن أنقرة بدأت تمارس على الحلف نفس ما تقوم به بحق الدول الأوروبية، من أشكال وأنواع الابتزاز الذي يخرج فاضحًا وفى توقيتات مباغتة، وكما أخضعت أوروبا لنيران المهاجرين وفى مقابل ذلك تحصلت على الأموال والصمت السياسي الذي يخدم مصالحها، ذهبت أيضًا إلى «الناتو» بذات الآلية كي تربك أعماله وخططه المستقبلية. ففي قضية خطة الدفاع عن بولندا ودول البلطيق، أعلنت تركيا عن رفضها قبول هذه الخطط ما لم تعترف دول «الناتو» بحزبي «الاتحاد الديمقراطي» و«العمال الكردستاني»، كونهما كيانين إرهابيين.
“الناتو” يشعر بتقويض كبير لجهوده الدفاعية، فالخطة «النسر المدافع» وضعت من قبل قيادات الحلف من العسكريين بناءً على طلب تلك الدول، بعدما ضمت روسيا منطقة «القرم» من أوكرانيا في عام ٢٠١٤. وهذا أمر لا علاقة له باستراتيجية تركيا في سوريا، إنما هو أكثر ارتباطًا بالتأمين الدفاعي على كل حدود حلف شمال الأطلسي، رغم ذلك قام أردوغان بوضع العصا في العجلة، وبدأ الهجوم على شمال سوريا، رغم اعتراض الدول الأعضاء التي ظنت أنها معنية بترتيب أوضاع الشمال السوري فيما بعد انسحاب الألف عسكري الأمريكي. أو هكذا أوهم الرئيس ترامب الدول الأعضاء بالحلف، وأنهم سيكونون البديل للولايات المتحدة في رسم خرائط النفوذ واستكمال محاربة التنظيمات الإرهابية «داعش» و«القاعدة» في تلك المنطقة، ليستيقظ الأعضاء على واقع تركي يجري العمل عليه قبل أي خطوة للحلف في التقدم، لنيل هذه المهمة التي كانت ستَحرم أنقرة بالتأكيد من التوغل والاحتلال، الذي فرضته لاحقًا على أجزاء واسعة من تلك المنطقة. وهكذا تتجسم أزمة تركيا مع الحلف وتحولها طوال الوقت إلى حجر عثرة، لتنفيذ مهامه مع تفجر عدة ملفات أخفقت فيها أنقرة، وشكلت ما يشبه العقد المستعصية التي وجد الحلف نفسه أمام ضرورة التصدي لها وحلها.
هناك من يذهب إلى أن قلب مشكلة الحلف اليوم، هو العلاقة الملتبسة بين الولايات المتحدة والرئيس التركي، وأنها هي السبب الرئيسي في مأزقها الراهن. فمما ذكره «جون بولتون» ثالث مستشار للأمن القومي في إدارة ترامب، في كتابه الجديد المثير للجدل، أن ترامب وأردوغان اقتربا أكثر بعد أن وافق الرئيس التركي أخيرًا على إطلاق سراح القس الإنجيلي «أندرو برونسون» في أكتوبر ٢٠١٨. بعد هذا التاريخ تحول ترامب في القرارات التي لا يحتاج فيها إلى موافقة الكونجرس، إلى الموافقة على طلبات أردوغان في الكثير من الملفات التي صارت تمثل مأزقًا حقيقيًا للكثيرين اليوم.
المفارقة أن تلك المعادلة تضرب حلف «الناتو» الذي تقوده الولايات المتحدة وتضعه في «مأزق» وجودي حاد، لا يبدو أن هناك حلولًا أو مخارج له في المدى المنظور على الأقل.
نقلا عن جريدة الدستور، 25 يونيو 2020