مساء الجمعة الماضية (3 يوليو 2020) حسم الرئيس “ماكرون” أمره وقبل استقالة رئيس الوزارة “إدوار فيليب”، والأدق أنه أعفاه من منصبه، وعين السيد “جان كاستكس” ليرأس الحكومة. كان من الواضح منذ أسابيع أن الرئيس كان حانقًا على رئيس الحكومة لارتفاع نسب التأييد والتقدير للأخير، صاحبه انخفاض حاد لشعبية الأول. وكان الرأي العام ينسب أغلب الإيجابيات لـ”فيليب” والسلبيات لـ”ماكرون”. والحقيقي أن “فيليب” بدا أمام الكاميرات قوي الشخصية، ثابت الخطى، هادئًا، قادرًا على شرح الصورة دون تهويل ولا تجميل. على عكس الرئيس “ماكرون” الذي ظهر وكأنه مهزوز، باحث عن شعارات، لاهث في الجري وراء أفكار تبدو جذابة. وأيًّا كان الأمر فإن الكل نسي عدم توفيق “فيليب” في إدارة أزمة “السترات الصفر”.
عرض وشرح الحسابات والمناورات والتحركات وصراعات الكواليس والعوامل الشخصية التي سبقت قرار التعديل والإعلان عنه قد يكون مسليًا ومفيدًا، لكنه يحتاج إلى كتاب. نكتفي هنا بالإشارة إلى أن رئيس الحكومة الجديد تكنوقراطي كفء، من رجال الرئيس السابق “ساركوزي”، وقام بالاتصال به فورًا بعد تعيينه. ونضيف أن “ماكرون” و”ساركوزي” يتشاوران دائمًا في شتى الموضوعات، منها الموقف من تركيا. ونشير أيضًا إلى أن “ماكرون” أجبر “كاستكس” على قبول أحد رجاله (رجال ماكرون) مديرًا لمكتبه، وأن “ماكرون” ستكون له اليد العليا في تشكيل الحكومة وفي تحديد الأولويات.
نفضل التركيز على التحديات الموضوعية التي تنتظر رئيس الحكومة الجديد والتي دفعت “ماكرون” إلى تعيينه. فمن ناحية، فرنسا مقبلة على أزمة اجتماعية واقتصادية ضخمة؛ فتراجع الإنتاج سيدفع عشرات بل مئات من الشركات إلى تسريح عدد من العمال قد يصل إلى أو يتخطى الميلون. الخريف المقبل سيكون غالبًا خريف الغضب العارم. رئيس الحكومة السابق من أنصار الانضباط المالي، وأثبتت إدارته لأزمة “السترات الصفر” أنه متصلب قليل المرونة في المفاوضات، على عكس “كاستكس” البارع في إدارة المفاوضات مع الفرقاء والذي يلم إلمامًا تامًّا بالملفات الاجتماعية، وله علاقات طيبة بالنقابات (على عكس “ماكرون” و”فيليب”)، ويعرف متى يكون مرنًا ومتى يكون صارمًا.
لو تأملنا قائمة القضايا التي تتطلب مواجهة حاسمة وسريعة وجهدًا دؤوبا لأدركنا كم وفق “ماكرون” في اختياره لـ”كاستكس”. وإلى جانب الأزمة الاقتصادية، هناك أزمة المنظومة الصحية التي تدهورت أحوالها منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، وكادت تنهار أيام اشتداد أزمة الكوفيد. “كاستكس” كان من معاوني وزير صحة “ساركوزي”، وعلى دراية بدقائق الملف وخفاياه. كما كان في وقت ما مساعدًا لساركوزي، مشرفًا على قضايا المعاشات والتأمينات، وأعرب “ماكرون” مرارًا عن إصراره على “إصلاح” هذه المنظومة، وكررها مؤخرًا لأسباب مفهومة؛ فهي كانت ركنًا مركزيًّا من برنامجه الانتخابي. وكانت فرنسا شهدت قبل الجائحة موجة احتجاجات عارمة على مشروع “فيليب” الخاص بالمعاشات، أو بمعنى أدق على بعض المبادئ الحاكمة له، وتغيير رئيس الحكومة قد يسمح لكاستكس بتقديم تنازلات رفضها سلفه.
وأحسب أن الرئيس “ماكرون” ينتظر من “كاستكس” تجسير الفجوة بينه وبين المواطنين، حيث إن رئيس الحكومة الجديد يتمتع بخصال مهمة يبدو أن نساء ورجال السلطة الحالية يفتقرون إليها، فهو ابن وعمدة مدينة صغيرة الحجم تعاني من العولمة، واحتفظ بلهجة أبناء الجنوب وعاداتهم، وهو ابن البرجوازية الصغيرة (والدته مدرسة) التي تراجع مستوى معيشتها، أي إنه على اتصال بالفئات التي انبثقت منها حركة “السترات الصفر”. ومن ناحية أخرى هو من فئة كبار الموظفين خريجي المدرسة القومية للإدارة، وهي أحد معاقل النخبة، بل أحد مصانعها المنتجة للرجال والنساء الكوادر. ويعرف “كاستكس” أيضًا مفاتيح الدولة ورجالها وآليات عملها، وعقلية أبنائها، ويعرف كيف يدير فريقًا، ومتى يستمع ومتى يحسم، وأدار عملية الإنهاء المتدرج للحظر الصحي بكفاءة أذهلت المراقبين. نعم “ماكرون” من أبناء المدرسة نفسها، لكن مشواره المهني كان أساسًا في القطاع الخاص والبنوك، وأغلب رجال ونساء فريقه جاءوا من القطاع الخاص والمجتمع المدني، واتسم أداء عدد منهم بالرعونة الباهتة. باختصار، فإن المطلوب من “كاستكس” مد الجسور مع الفئات الاجتماعية التي لا تطيق رئيس الجمهورية الحالي.
ولم ينتبه المراقبون إلى كون بعض تصريحات “كاستكس” تنم عن عداء للتأسلم السياسي، وقد تكون رسالة مبطنة إلى تياراته، إذ قال إن القيم التي يؤمن بها إيمانًا لا يتزعزع هي احترام النظام الجمهوري والعلمانية، وتقديس هيبة الدولة وسلطتها، ورفض الطائفية. مصطلح الطائفية في اللغة السياسية الفرنسية الحالية يستهدف أولًا وقبل كل شيء المشروع الإسلاموي، الذي يحاول السيطرة على بعض الأحياء والمدن ليفرض فيها سلوكًا “إسلاميًّا” ويعطل فيها تطبيق القوانين التي يراها هذا التيار منافية للشريعة، ويحاول أيضًا حث العائلات المسلمة على سحب أبنائها من التعليم الحكومي لتتلقى تعليمًا إخوانيًا أو سلفيًا. وسنعود إلى هذه القضية في دراسة لاحقة.
وفوجئ بعض المراقبين بتعيين رجل يميني على رأس الحكومة، وكانوا يتوقعون اختيار ابن من أبناء الخضر، لا سيما بعد تحقيقهم لنتائج انتخابية وُصِفت بالممتازة. وفي الواقع، فإن هذه القراءة غير دقيقة، فقد حقق الخضر نتائج طيبة في المدن الكبرى، تارة على حساب الاشتراكيين، وتارة على حساب “ماكرون”، لكنهم ما زالوا عاجزين عن تحقيق أي تقدم يذكر في المدن المتوسطة والصغيرة وفي الريف. من ناحية أخرى، فإن الانتخابات البلدية (والأوروبية) شيء والانتخابات الرئاسية شيء مختلف تمامًا، ففي الأخيرة تحتل قضايا وملفات الدفاع والأمن القومي والوزارات السيادية مكانًا بارزًا، وهي مجالات لا يثق فيها الناخب في الخضر (ولا في ماكرون، ولكن المشكلة فيما يخصه أقل حدة). ومن المتوقع أن أهمية تلك الملفات ستزداد مع تدهور الوضع الدولي والأمن الداخلي في فرنسا. وعلى العموم، ما ينوي “ماكرون” فعله هو تطبيق بعض أفكار الخضر التي لا تشكل خطرًا على اقتصاد وأمن البلاد ليعود إليه بعض الناخبين، لكي يتمكن من تحجيم الأحزاب الخضراء وإضعافها. هو لا يسعى إلى تحالف معها، فأغلبها من اليسار المتطرف المعادي للرأسمالية.
ليس المقصود مما سبق أن “كاستكس” هو الرجل المعجزة، وأنه يملك العصا السحرية لحل مشكلات فرنسا المزمنة، وأنه القبطان القادر على مواجهة العاصفة القادمة. نعم هو يجسد الموظف الكبير النزيه الكفؤ الوطني الذي يقدس مفهوم خدمة الدولة، ويجسد ما كان ممكنًا أيام فعالية منظومة التعليم التي كانت تتيح فرص الصعود الاجتماعي للنوابغ من أبناء البرجوازية الصغيرة.
فمن ناحية، ليس من الواضح كيف سيتم توزيع العمل بينه وبين رئيس الجمهورية، وما هي الأنماط التي ستحكم علاقاتهم. “فيليب” كان رجلًا سياسيًا، وكان قد رفض قبول أحد رجال “ماكرون” كمدير مكتب. “كاستكس” لم يقدر على هذا. قد يكون تقسيم العمل مطابقًا لما نص عليه دستور الجمهورية الخامسة؛ الرئيس يرسم الخطوط العامة ويشرف على السياسة الخارجية والدفاع، ويكون حكمًا بين السلطات، ويعين الوزراء بناء على توصيات رئيس الحكومة، ورئيس الحكومة يدير العمل الحكومي الداخلي والجهاز التنفيذي، ويشرف على وضع الخطط التفصيلية، ويراقب تنفيذها والتنسيق بين الوزارات. والواقع خالف هذا منذ أيام “ساركوزي”، حيث ازداد دور ونفوذ الرئيس وأدواته، ولم يعد لرئيس الحكومة إلا دور هامشي في تعيين الوزراء، هذا التطور أوجزه الرئيس “ساركوزي” عندما قال عن رئيس حكومته إنه “معاون” له، وهذه إهانة علنية في دولة تحترم المناصب.
من ناحيةٍ أخرى، قد يتم توزيع الملفات فيما بين رئيس الحكومة والرئيس، وقد يأمل “ماكرون” في أن يكون “كاستكس” مجرد واجهة يمرر سياسات وينفذها دون أن يشارك في وضعها ودون أن يعترض. ومن يعرف “كاستكس” يزعم أنه لن يقبل تنفيذ ما يراه خطأ. ما هو واضح أن أغلب أدوات الدولة وقنوات الاتصال بين القمة والقاعدة وأجهزة التنسيق بين الوزارات تصب في رئاسة الوزارة، أي إن “كاستكس” سيمتلك بعض الكروت.
كذلك، فإن العاصفة القادمة ستكون اختبارًا بالغ الصعوبة، وقد يكون من المستحيل مواجهتها، لا سيما في ظل وجود قوى متطرفة من اليمين واليسار تعد العدة وترى في تفاقم الوضع فرصة لزعزعة الاستقرار، ولإضعاف السلطة الحاكمة، ولاستغلال الهوة بين الفئات الشعبية والرئيس. ولعل قضية العنصرية وكيفية استغلالها من قبل اليسار الراديكالي تحمل دلالات. لا يشك أحد في وجود تمييز أهلي ضد الفرنسيين من أصول مغاربية أو إفريقية، ولكن اليسار الراديكالي ومعه التأسلم السياسي بحثوا عن “فلويد” فرنسي ولم يجدوا إلا المرحوم “أداما تراوري” وعائلته، وحوّلوا مجرمًا كان يفرض الإتاوات القاسية على النساء العجائز –ضمن جرائم أخرى- إلى بطل وضحية عنف شرطي موجود، ولكنه أقل بكثير من عنف الشرطة الأمريكية (أرقام الضحايا التي قتلت على يد الشرطة في كل دولة دالة). وكان واضحًا أن المظاهرات أقل عفوية من المظاهرات في الولايات المتحدة، وما جعل السيطرة على الظاهرة ممكنًا هو عدم وجود تنسيق بين الفصائل المختلفة أو بين أبناء الضواحي المختلفة. ورغم هذا كانت المظاهرات صاخبة، وهذا نذير شؤم لما سيحدث عند تسريح مئات الآلاف من العمال.
ولا يملك أحد حلًّا واضحًا وسريعًا لمشكلة الديون؛ فرنسا لم يكن وضعها المالي سليمًا قبل أزمة الكوفيد وتدهور بشدة معها. ونُشر الأسبوع الماضي تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات، رصد فشل فرنسا أثناء العقد الماضي في تصحيح الأوضاع المالية التي تدهورت بشدة بعد أزمة ٢٠٠٨. والآن سيزداد حجم الدين بحوالي ٢٧٠ مليار يورو على الأقل، وقد تكون الفاتورة أثقل إن اتضح أن إيقاف عجلة الإنتاج أثر سلبًا على القدرات والكفاءات والبنية التحتية، أو إن عادت الجائحة. لا يتسع المجال لذكر كل المخاطر ولكن اقتراب ميعاد الانتخابات الرئاسية قد يدفع رئيس الدولة إلى تفضيل المسكنات على الحلول الجذرية، أو إلى رفض تدابير قد تكلفه الرئاسة. ولا يوجد ما يضمن أن السلطة ستملك القدرة على قبول اختفاء صناعات غير قابلة للحياة، أو أنها ستنجح في تنفيذ خطط إعادة توطين صناعات استراتيجية كانت هاجرت إلى الصين، أو أنها ستتوصل إلى اتفاق يرضيها مع ألمانيا حول أولويات الدعم المالي الضخم.
وأخيرًا، فإن رئيس الحكومة لا يتعامل إلا نادرًا وهامشيًّا مع ملفات الدفاع والأمن القومي، وشهدت البيئة الاستراتيجية الخاصة بدوائر عمل وتأثير فرنسا تدهورًا حادًّا بعد تدخل تركيا في ليبيا، مما يتطلب مضاعفة الإنفاق على الدفاع، وقد يكون هذا مستحيلًا حاليًّا، حتى لو زعم ممثلو الجيش والصناعات العسكرية أن هذا الإنفاق قد يساهم في إحياء الاقتصاد.
لا نعلم إن كان “ماكرون” ناويًا منذ البداية الاعتماد على تكنوقراطي، ويبدو لنا أن السياسيين المحترفين ورجال الدولة –وزير المالية مثلًا– رفضوا تولي المنصب في مثل هذه الأجواء. وعلى العموم نتوقع مع غيرنا خريفًا صعبًا، سيقوي “ماكرون” إن تجاوزه سليمًا، وقد يفشل ويظهر بديل من أبناء أحزاب الحكم، أو تقترب ساعة تولي أقصى اليمين للسلطة.