اعتاد كثير من باحثي النظام الدولي وصف المرحلة الراهنة، لاسيما نتيجة التغيرات الاستراتيجية المتتالية التي اتبعتها الرئيس الأمريكي ترامب، بأنها مرحلة سيولة دولية، حيث تنخرط الدول في البحث عن توازنات جديدة لتعويض الاخفاقات التي تولدت عن المواقف الامريكية الجديدة نظرا لكثافتها وثقلها على المنظومة الدولية ككل. غير ان هذه السيولة الدولية بمعناها العام، التي تعنى في شق منها كسر ممنهج ومقصود لقواعد واتجاهات سار عليها العالم لمدة طويلة سابقة في ظل قبول وقدر من الرضاء الدولي، لم تمنع القوى الدولية المؤثرة من السعي نحو تشكيل توازنات جديدة فيما بينها، تحقق لها قدرة أكبر على احتواء التداعيات السلبية الناجمة عن السيولة الدولية ونسج قواعد جديدة للعلاقات الدولية بشكل عام.
منذ أن جاء الرئيس ترامب والأولويات الامريكية أصبحت محصورة في خمسة اتجاهات كبرى؛ أولها التخفف من الالتزامات نحو العالم ككل وعدم الاعتداد بعضوية المعاهدات والمنظمات الدولية، ووضع الصين في مرتبة العدو الرئيسي، ممارسة سياسة أقصى ضغط على ايران من أجل انهاك نظامها الحاكم، الالتزام الصارم بأمن اسرائيل، وعدم الاعتداد بالتحالفات التقليدية كالناتو والتحالف مع أوربا وأصدقاء مختلفين في مناطق مختلفة من العالم. وهي اتجاهات غيرت من الدور الأمريكي وجاء وباء كوفيد 19 والمنهج المتداعى في مواجهته داخليا وخارجيا ليكثف من ارتداد الدور الأمريكي العالمي، وفى الوقت ذاته الاستمرار المبالغ فيه لنهج توقيع العقوبات على الأطراف التي يعتبرها الرئيس ترامب مصدر عداء او قلق بالنسبة للتحالف الأمريكي الإسرائيلي. وفى ظل هذه المنظومة من السياسات أصبح من المعتاد أن تتسم المواقف الامريكية تجاه العديد من القضايا والأزمات الدولية والاقليمية بقدر من الارتباك وعدم الوضوح، والتقلب بين لحظة وأخرى من موقف مؤيد إلى أخر رافض، إلى ثالث ضاغط، إلى رابع لا مبالي، إلى خامس لا رؤية له. وهو ما يشهده العالم الآن في أزمات مثل سوريا وليبيا وتوظيف تركيا للإرهابيين والمتطرفين في ابتزاز دول أخرى ونهب ثرواتها وتقويض الاستقرار الاقليمى وتحفيز الصراعات العسكرية.
ضعف الدور الأمريكي تجاه قضايا الشرق الأوسط، والتزامها أهدافا تتناقض مع مصالح حيوية للقوى الرئيسية في المنطقة، يدفع الكثيرين إلى سياسات غير تقليدية، مثل الاعتماد التام على الذات مهما كانت الصعوبات في ذلك، وعدم انتظار أي تفهم، وليس تأييد أو مساندة، من قبل صانعي السياسة الامريكية وبعض حلفائها في الإقليم، والتوجه نحو شراكات جديدة في مساعها وفى محتواها وفى نتائجها، والعمل على تقويض تدريجي لما بقى من نفوذ سياسي أو معنوي أمريكي، والتركيز على إجهاض نتائج العقوبات الأمريكية، أو الضغوط التي تقوم بها دون مراعاة لمصالح الأخرين.
هذه البيئة التي شكلتها السياسة الأمريكية في العالم ككل، تفسر إلى حد كبير التوجه الصيني الإيراني المشترك نحو التحالف الاستراتيجي المُعلن عنه مؤخرا، والذى كشفت بنوده صحيفة نيويورك تايمز الامريكية، باعتباره توثيقا لعلاقات بين حضارتين وثقافتين أسيويتين حسب ما ورد في مقدمة وثيقة الشراكة بين البلدين، والمُقدر لها 25 عاما من العمر، ستقوم فيه الصين بدعم الاقتصاد الإيراني والقدرات العسكرية من خلال استثمارات تقدر بأربعمائة مليار دولار، تشمل مجالات الطاقة والاتصالات الحديثة والصناعات العسكرية والتدريب المشترك والبنية الاساسية الحديثة، مقابل الحصول على نفط بأقل من اسعاره العالمية بنسبة 35 في المائة، مع موقع قدم يوظف لأغراض عسكرية على الخليج العربي.
من شأن اتفاق كهذا حال إقراره من المؤسسات التشريعية في البلدين، والمُخطط له في غضون شهر أو شهرين على الأكثر، أن يغير الكثير من المعادلات في المنطقة، ويطرح منظومة تفاعلات تلعب فيها الصين دورا مباشرا في رسم التحالفات الإقليمية الجديدة، ما يؤكد أن حالة السيولة دوليا وإقليميا وعدم الوضوح والارتباك الاستراتيجي ليس قدرا محتوما، وانما هو مجرد مقدمة لمرحلة جديدة يجب على الجميع التحسب لما فيها من مخاطر وتهديدات أو مكاسب محتملة مهما كانت محدودة. وكما يقر قانون هيجل حول الجدلية، فإن التراكمات الكمية تؤدى إلى تغيرات كيفية، فمن رحم الفوضى تتولد وتظهر علامات الاستقرار.
وفى جوهر الاتفاق إفشال تام ومنهجي لمنهج العقوبات الأمريكية المطبقة ضد البلدين معا، فمن الطبيعي أن يلجأ المتضررون إلى التحالف ومناصرة بعضهم البعض لمواجهة مصدر التهديد المشترك. وفيه أيضا تأكيد على فشل السياسة الأمريكية التي قامت على مبدأ الخروج التدريجي من الشرق الأوسط والتركيز على مواجهة الصين في أسيا، فإذا بالصين تحل محل أمريكا، مؤكدة حقيقة معروفة تاريخيا، فأي فراغ في اقليم مؤثر وحيوي للعالم كالشرق الأوسط لا يستمر طويلا، ويجد من ينجذب إليه ويضع له أطر وسياقات جديدة تضر المنسحبين، وتفيد المبادرين، وتطرح أولويات جديدة أمام القوى الرئيسية في الإقليم ككل.
الاتفاق لمدة ربع قرن يعكس إصرار الصين على إنجاح استراتيجياتها في التغلغل الاقتصادي الشامل في كل مناطق العالم تقريبا، وتعزيز سياسة الحزام والطريق، والالتفاف على العقبات الأمريكية وفق سياسة بعيدة المدى، تؤدى الى بناء مواقع نفوذ سياسي واقتصادي لا يتأثر بتقلبات السياسة الامريكية، بل يفشلها دون ضجيج. وأيضا فإن تأثيرات هذا الاتفاق حال تفعيله سيقوض وفى العمق فرص أوربا في تعزيز علاقاتها التجارية مع إيران، فنتيجة العقوبات الأمريكية على إيران، وبالرغم من المناورات الأوربية وعمليات التهرب من تلك العقوبات، فلا تتوافر مساحة كافية لعلاقات تجارية أوربية قابلة للتطور مع إيران، وسيكون لاتفاق طهران مع الصين الدور الأكبر في تركيز إيران على السوق والصناعة والمنتجات الصينية، وبالتالي سيخف الطلب أو حتى التطلع إلى المنتجات الأوربية، والتي يخرج منها أصلا السلع ذات القدرات التكنولوجية العالية، وحين تتوافر تلك السلع والخدمات عالية التكنولوجيا من الصين، ستفقد أوربا تماما سوقا كانت محتملة، ومعها نفوذا بات مهددا وبعمق.
الاتفاق بمجمله يطرح تحديا كبيراً أمام الولايات المتحدة، فهل سيعيد البيت الأبيض التفكير في استراتيجياته المرتبكة التي تؤدى إلى عكس المرغوب منها؟ كل الظواهر والمواقف الأمريكية لا توحى بالقدرة على استيعاب ما يجرى في العالم، مع الإصرار على الأخطاء ذاتها. وعلينا أن نضع ذلك في قمة تفكيرنا السياسي.
_________________________
نقلا عن جريدة الأهرام، 20 يوليو 2020.