يواجه النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط وقارة أفريقيا تحديات كبرى في ظل احتمالية فقدان قواعدها العسكرية الاستراتيجية في سوريا عقب سقوط أهم حلفائها في المنطقة الرئيس السوري السابق بشار الأسد، وهو ما دفع موسكو لتبني نهج متعدد الأبعاد يجمع بين التفاوض مع الإدارة السورية الجديدة والبحث عن بدائل استراتيجية تضمن استمرار حضورها العسكري في المنطقة، وهو ما سوف تناقشه هذه الدراسة.
القواعد العسكرية الروسية في سوريا
امتلكت روسيا علاقات وثيقة مع نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد مكنتها من أن تكون منطلقًا للنفوذ الروسي في الشرق الأوسط وأفريقيا عبر تأسيس قواعد عسكرية جوية وبحرية على الأراضي السورية أسهمت في تسهيل العمليات العسكرية الروسية في سوريا وأفريقيا من خلال إنشاء وتوسيع قواعد عسكرية رئيسية، وفيما يلي أبرز هذه القواعد:
قاعدة حميميم: هي قاعدة جوية تقع ببلدة حميميم في ريف محافظة اللاذقية، تم تأسيسها عام 2015 بعد توقيع اتفاقية بين موسكو ونظام الأسد، تمنح الحق للقوات الروسية باستخدام القاعدة في كل وقت دون مقابل ولأجل غير مسمى، وقد قامت روسيا بعمليات توسعة للقاعدة وتجهيزها بالبنية التحتية اللازمة كأماكن لإقامة نحو ألف من العسكريين الروسيين، وأبراج مراقبة الحركة الجوية، ومحطات للتزود بالوقود، ومستشفى ميداني.
قاعدة طرطوس: هي القاعدة البحرية الوحيدة التي تمتلكها روسيا في البحر المتوسط، ويعود تأسيسها لعام 1971، بموجب اتفاق بين سوريا والاتحاد السوفيتي؛ حيث استخدمها الأسطول البحري السوفيتي، كمركز للدعم اللوجستي والتقني لأسطول البحر الأسود الموجود في البحر المتوسط، إضافة لرصد نشاطات قوات حلف الناتو وتحركاتها.
وفي 18 يناير2017، وقعت موسكو ودمشق اتفاقية تقضي ببقاء القاعدة الروسية في مدينة طرطوس السورية لمدة 49 عامًا قابلة للتمديد، وتحديثها وتوسعتها لاستيعاب حاملات الطائرات والغواصات النووية، كما تقضي الاتفاقية بمنح القاعدة الروسية حصانة كاملة من القوانين السورية، وبأنه لا يسمح للسلطات السورية بدخولها. كما تستطيع روسيا -بموجب الاتفاقية وبموافقة الأطراف المعنية- نشر مواقع عسكرية متحركة لها خارج نطاق القاعدة بهدف حمايتها والدفاع عنها.
وإلى جانب القاعدتين الرئيسيتين، أنشأت روسيا مواقع عسكرية إضافية في عدة مناطق سورية، تشمل مطارات عسكرية ومستودعات أسلحة ونقاط مراقبة؛ مما يضمن استمرار وجودها العسكري القوي، مثل: مطار القامشلي، مطار الشعيرات، ومطار حماه العسكري، وغيرها.
أهمية القواعد العسكرية الروسية في سوريا
تعد هذه القواعد الروسية في سوريا عنصرًا محوريًا في الاستراتيجية العسكرية والأمنية لموسكو؛ حيث لا يقتصر دورها على ضمان النفوذ الروسي العسكري على البحر المتوسط ومنطقة الشرق الأوسط فقط بل يمتد ليشمل دعم العمليات الروسية في أفريقي؛ حيث تستخدمها روسيا لدعم عملياتها العسكرية، تعزيز نفوذها السياسي، وضمان استمرار نفوذها في القارة الأفريقية الغنية بالموارد.
الأهمية العسكرية: تتيح هذه القواعد لروسيا موقعًا استراتيجيًا وموطئ قدم ثابت في منطقة الشرق الأوسط؛ مما يسهم في تعزيز نفوذها العسكري والسياسي، بالإضافة إلى القدرة على مراقبة التحركات العسكرية في شرق المتوسط.
الأهمية السياسية: تعزيز مكانتها كفاعل دولي مؤثر في القضايا الدولية والإقليمية، والحفاظ على حالة من توازن القوى مع الولايات المتحدة وأوروبا وحلف الناتو في الشرق الأوسط في ظل المنافسة المحتدمة على النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية.
الأهمية الاقتصادية: يمتد تأثير القواعد العسكرية إلى حماية الاستثمارات الروسية في سوريا، خاصة في قطاعي الطاقة والتعدين، حيث تمتلك الشركات الروسية عقودًا لاستغلال الموارد الطبيعية السورية، بما في ذلك النفط والغاز والفوسفات، كما أن وجودها في طرطوس يمنحها منفذًا مهمًا في البحر المتوسط؛ مما يسهم في تعزيز تجارتها ونفوذها الاقتصادي.
دعم العمليات الروسية في أفريقيا: تعد القواعد الروسية في سوريا نقطة انطلاق للعمليات الروسية في أفريقيا؛ حيث تعتمد عليها بشكل أساسي لتأمين الإمدادات اللوجستية والعسكرية إلى مختلف عملياتها وقواتها المنتشرة في غرب أفريقيا والساحل الأفريقي.
التحديات المحتملة لفقدان القواعد العسكرية في سوريا
ستشكل احتمالية فقدان روسيا لقواعدها العسكرية في سوريا ضربة استراتيجية موجعة لها في ظل تداعيات محتملة تتعلق بتقويض نفوذها الإقليمي والدولي ومصالحها الأمنية والاقتصادية. وفيما يلي أبرز التداعيات المحتملة:
تراجع النفوذ الجيوسياسي في الشرق الأوسط: قد يسهم فقدان روسيا لقواعدها في سوريا في تقويض نفوذها في هذه المنطقة الاستراتيجية؛ وهو الأمر الذي ينعكس على قدرتها على المنافسة على النفوذ مع القوى الإقليمية والدولية، كما سيُضعف هذا من قدرتها على التأثير في الأحداث الإقليمية في المنطقة.
تقييد القدرة على دعم العمليات في أفريقيا: تعتمد روسيا على قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية في تقديم الدعم العسكري واللوجيستي إلى القواعد الروسية في أفريقيا، وبدونها، ستواجه روسيا تحديات لوجستية كبيرة في الحفاظ على وجودها العسكري الفاعل في أفريقيا، كما قد ينعكس ذلك على قوات الفيلق الأفريقي الذي بات العديد من القادة العسكريين في دول مثل النيجر ومالي وبوركينا فاسو يعتمدون على دعمه لمواجهة التهديدات الأمنية الداخلية حيث إذا فقد الفيلق قدرته على تلقي الإمدادات السريعة من موسكو عبر سوريا سوف يجعل هذه الأنظمة الحليفة عرضة لهجمات المتمردين أو التنظيمات الإرهابية؛ مما يقوض من النفوذ الروسي في القارة الأفريقية.
تراجع القدرات البحرية لروسيا: تعد قاعدة طرطوس هي الميناء الروسي الوحيد على البحر المتوسط، ويمثل فقدانها تراجع القدرة البحرية الروسية في المنطقة؛ حيث ستواجه السفن الحربية الروسية صعوبات في الانتشار بالمياه الدافئة؛ مما يقلل من قدرتها على مواجهة الأسطول الأمريكي السادس المنتشر في البحر المتوسط؛ وهو ما قد يقوض من النفوذ الروسي في النزاعات المستقبلية في البحر المتوسط، مثل الأزمة الليبية، التي تعد إحدى بوابات روسيا نحو أفريقيا.
تداعيات اقتصادية: ستتأثر عقود الشركات الروسية العاملة في سوريا، خاصة في مجالات الطاقة والتعدين؛ مما سيؤدي إلى خسائر اقتصادية، وهو ما بدأ بالفعل حيث ألغت الإدارة السورية الجديدة في يناير الماضي الاتفاق الموقع مع شركة “ستروي ترانس غاز(CTG) ” الروسية، التي تدير وتشغل بموجبه الشركة الروسية مرفأ طرطوس.
التفاوض مع الإدارة السورية الجديدة والبحث عن البدائل
دفعت هذه التحديات المحتملة لفقدان القواعد العسكرية في سوريا، روسيا للبحث عن حلول كالتفاوض مع الإدارة السورية الجديدة للإبقاء على هذه القواعد الاستراتيجية من جهة، والبحث عن بدائل جديدة لتأسيس قواعد عسكرية جديدة.
المفاوضات للإبقاء على القواعد العسكرية في سوريا: منذ سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، تسعى موسكو إلى التفاوض مع الإدارة الجديدة للإبقاء على قواعدها، ومع تطور المفاوضات أبدت الحكومة السورية انفتاحًا كبيرًا للإبقاء على هذه القواعد مقابل الحصول على مكاسب لصالح سوريا، وهو ما انعكس في حديث وزير الدفاع الجديد “مرهف أبو قصرة” مع صحيفة واشنطن بوست، والذي أشار إلى إمكانية منح روسيا الحق في الاحتفاظ بالقواعد العسكرية في حال الحصول على مكاسب لصالح سوريا.
وبالسياق، بدأ الحديث عن وجود محادثات بين دمشق وموسكو بشأن التفاوض على إمكانية إسقاط الديون السورية المستحقة على الحكومة الروسية، والتي تتراوح بين 20 و23 مليار دولار، أو على الأقل إعادة هيكلة الشروط، بالإضافة إلى الحصول على تعويضات مالية عن الأضرار التي تسببت بها روسيا في المدن السورية، وإعادة الأموال السورية التي المنهوبة من قبل نظام الأسد والتي يُعتقد أنها مودعة في روسيا في حسابات مصرفية أو على شكل أصول ثابتة، في مقابل منح روسيا استمرارًا للوجود العسكري في سوريا، وقد تدفع الضغوط والتحديات التي تواجهها روسيا في العديد من الملفات وبالأخص الحرب مع أوكرانيا على تقديم بعض التنازلات والموافقة على بعض طلبات الإدارة السورية الجديدة من أجل الحفاظ على علاقتها الاستراتيجية بسوريا.
من جانب آخر، تصطدم هذه المفاوضات بحالة من الرفض السوري الشعبي والمجتمعي؛ نظرًا لما قدمته روسيا من دعم سياسي وعسكري لنظام الأسد، إلى جانب التصادم مع محاولات الإدارة السورية لكسب الدعم الأوروبي والأمريكي ورفع العقوبات عن سوريا، وعلى الرغم من إمكانية رفض الولايات المتحدة لاستعادة روسيا نفوذها في سوريا، فإن هناك متغيرًا مهمًا برز في الفترة الأخيرة قد يسهم في إمكانية عدم معارضة واشنطن لمثل هذا التقارب، وهو السعي الإسرائيلي الحثيث للإبقاء على القواعد الروسية في سوريا، فوفقًا لـصحيفة “يديعوت أحرونوت” تضغط إسرائيل على الولايات المتحدة لإبقاء سورية ضعيفة وبلا قوة مركزية من خلال السماح لروسيا بالاحتفاظ بقاعدتيها العسكريتين هناك لمواجهة النفوذ التركي، ومع الدعم الغير مشروط التي تقدمه إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لإسرائيل قد تدفع الولايات المتحدة لإظهار المرونة الكافية لاستمرار هذه القواعد في سوريا.
ليبيا البديل المحتمل لسوريا: بالتزامن مع التفاوض مع الإدارة السورية الجديدة تبحث روسيا عن بدائل لاستمرار نفوذه العسكري في المنطقة في حال فقدان القواعد السورية، وتبرز ليبيا والسودان كخيارات رئيسية لموسكو حيث تمتلك روسيا وجودًا عسكريًا في ليبيا، وكونها تعد المركز الرئيسي لقوات الفيلق الأفريقي التابع لروسيا، والعلاقات الجيدة مع المشير خليفة حفتر. وفي السودان، تسعى روسيا لإحياء اتفاق لبناء قاعدة بحرية في بورتسودان، ولكن الوضع السياسي غير المستقر هناك قد يحد من نطاق العمليات؛ مما يرجح الكفة الليبية لتكون البديل لسوريا.
يعزز من هذه الترجيحات مجموعة من التقارير الغربية التي أشارت إلى جهود روسية لبناء جسر جوي لتسيير طائرات شحن عسكرية إلى المنطقة الشرقية في ليبيا لنقل أصول دفاعية، وذلك في مسعى من جانب موسكو لتعزيز وجودها العسكري في ليبيا في أعقاب انهيار نظام بشار الأسد في سوريا؛ فكشفت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية عن قيام روسيا بنقل أنظمة دفاع جوي متطورة وأسلحة أخرى من قواعدها في سوريا إلى قواعد في شرق ليبيا تسيطر عليها “قوات خليفة حفتر المدعومة من موسكو”، في إطار السعي لتطوير منشآتها في طبرق لاستقبال السفن الروسية.
أما موقع “إيتاميل رادار” -المختص في تعقب الرحلات الجوية العسكرية ومراقبة الملاحة البحرية-، كشف أن روسيا، تخطط لنقل معدات عسكرية كانت في قواعدها في سوريا إلى وجهتين محتملتين في ليبيا، هما طبرق وبنغازي، كما كشف الموقع، أن موسكو تركز اهتمامها على منطقة برقة؛ نظرًا للإمكانات التي توفرها المنطقة لإنشاء قاعدة جوية وأخرى بحرية.
وتعكس هذه التقارير محاولات روسيا لإعادة التموضع بعد تراجع نفوذها وقوتها في سوريا؛ حيث أعادت موسكو تقييم أولوياتها الجيوسياسية، مركزة اهتمامها على ليبيا كجزء من خطة أوسع لتعزيز حضورها في أفريقيا وترسيخ نفوذها في المنطقة خاصة وأن ليبيا تعد المركز الرئيسي لقوات الفيلق الأفريقي الروسية الموجودة في خمس دول أفريقية: مالي، النيجر، بوركينا فاسو، جمهورية أفريقيا الوسطى إلى جانب ليبيا التي تم اختيارها كمركز رئيسي للفيلق لما تتمتع به من موقع استراتيجي يُعد بوابة شمالية لأفريقيا ومفتاحًا للضغط على الناتو والاتحاد الأوروبي، كما توفر ممرات استراتيجية لدول جنوب الصحراء الكبرى؛ مما يسهل دعم التوسع الروسي في القارة، كما يُعد الساحل الليبي موقعًا استراتيجيًا لخطوط الإمداد العسكري، حيث كانت “فاجنر” سابقًا نشطة في مواقع عدة منها قاعدة “القرضابية” الجوية وميناء سرت البحري.
ومع التهديدات التي قد تشكلها إقامة قواعد عسكرية روسيا في ليبيا على أمن الدول الأوروبية ودول الناتو، من المرجح أن تتحول ليبيا إلى ساحة تنافس دولي بين القوى الإقليمية والدولية، خاصة مع تزايد النفوذ التركي هناك؛ مما يضعنا في صراع على الهيمنة يشابه ما حدث بين روسيا وتركيا في سوريا، وقد تنعكس هذه التحديات المحتملة بدورها على مصر في مختلف المجالات؛ نظرًا لكون ليبيا امتدادًا جغرافيًا للدولة المصرية.
وختامًا، تعمل روسيا في العديد من الاتجاهات للحفاظ على نفوذها كفاعل دولي وإقليمي مؤثر قادر على التنافس مع القوى الإقليمية والدولية على النفوذ في المناطق الاستراتيجية في الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، وذلك عبر محاولات التفاوض مع الإدارة السورية الجديدة للإبقاء على قواعدها العسكرية الاستراتيجية في سوريا مع استمرار البحث عن البدائل لسوريا متمثلة في ليبيا إلا أن التحديات الأمنية والسياسية المعقدة المتعلقة بإمكانية أن تكون الوجهة الروسية الجديدة قد تدفع نحو تقديم روسيا لبعض التنازلات للإدارة السورية الجديدة للإبقاء على قواعدها الاستراتيجية.
باحثة بوحدة الأمن والدفاع