شهدت الأيام الأخيرة تصاعدًا في تصريحات المسئولين الأتراك التي تعبر عن نهج مهادن إزاء الدولة المصرية، لا سيما فيما يتعلق بملف شرق المتوسط. ففي أعقاب طرح مصر في 18 فبراير 2021 لأول مزايدة عالمية للتنقيب عن البترول والغاز الطبيعي واستغلالهما، تتابعت التصريحات التركية الرسمية التي تُعلي من أهمية عودة علاقات التعاون المصرية التركية. وقد تمثّلت -بدايةً- تلك التصريحات فيما قاله وزير الخارجية التركي “تشاووش أوغلو” بأنه “يمكن لبلاده توقيع اتفاقية مع مصر من خلال التفاوض على المساحات البحرية وفقًا لمسار علاقاتهما”، حيث “تلقت أنقرة بإيجابية نشاط مصر في التنقيب ضمن حدودها البحرية في البحر المتوسط وفق احترام الحدود الجنوبية للجرف القاري التركي، حتى بعد توقيع اتفاقها مع اليونان، وأن مصر نفذت أنشطتها دون انتهاك للحدود التركية، وهو ما اعتبرته تركيا خطوة إيجابية”.
وخلال إشرافه على مناورات “الوطن الأزرق 2021” البحرية، أكد وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” على ما صرح به “أوغلو” بشأن إيجابية النظرة التركية إلى مصر، وأضاف أنه من الممكن أن يتجه كلا البلدين نحو إبرام اتفاقية أو مذكرة تفاهم تتماشى مع اتفاقها المبرم سابقًا مع حكومة الوفاق الليبية.
ومؤخرًا، وفي مقابلته مع وكالة “بلومبرج” الأمريكية، أكد المتحدث باسم الرئاسة التركية “إبراهيم قالن”، أنه يمكن فتح فصل جديد في علاقات بلاده مع مصر ودول الخليج، وأكد على كون “مصر دولة مهمة في الوطن العربي، وتبقى عقل العالم العربي، وهي قلب العالم العربي”، وأكد أيضًا أهمية “التحدث مع مصر حول القضايا البحرية في شرق المتوسط، إضافةً إلى قضايا أخرى في ليبيا، وعملية السلام والفلسطينيين”.
في هذا السياق، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه هو: هل تكفي التصريحات الإعلامية المكثفة للمسئولين الأتراك كي تتجاوز علاقات أنقرة والقاهرة العديد من العقبات التي تسببت فيها السياسات التركية تجاه مصر وتحركاتها التي تمس الأمن القومي المصري في المنطقة العربية، وخاصة في ليبيا وكذلك منطقة شرق المتوسط، فضلًا عن إيواء عناصر جماعة الإخوان المسلمين التي تدير عمليات إرهابية داخل مصر، وتدعم أبواقًا إعلامية تهاجم مصر وتبث دعايتها السوداء على مدار الساعة مستهدفة الأمن والاستقرار الداخلي للدولة المصرية من خلال بث الشائعات والهجوم المتواصل؟ أم إن الأمر يستلزم خطوات جادة وصادقة على الأرض كي تبدأ القاهرة التفكير في مراجعة العلاقة ودراسة إمكانية المضيّ قدمًا في خطوات تُعيد بناء الثقة وتسمح بالنقاش حول ملفات متشابكة تحتاج إلى إرادة وشفافية وإخضاع الأمر لاختبارات تكشف عن ماهية ودوافع تلك التصريحات هل هي خيار تكتيكي أم استراتيجي؟.
دوافع التصريحات التركية
بداية، ينبغي التذكير بأن هذه ليست المرة الأولى التي يصرح فيها مسئولون أتراك بطريقة توددية إلى الدولة المصرية. ففي سبتمبر 2020، أكد مستشار رئيس حزب العدالة التنمية “ياسين أقطاي”، على “ضرورة التواصل بين مصر وتركيا، بغض النظر عن أي خلافات سياسية قائمة”. كما صرح وزير الخارجية التركي حينها بأن “مصر لم تنتهك في أي وقت الجرف القاري التركي في اتفاقيتها التي أبرمتها مع اليونان وقبرص بخصوص مناطق الصلاحية البحرية”. وفي أكتوبر 2020، صرح المتحدث باسم الرئاسة التركية بأن مصر من الدول المهمة في المنطقة والعالم العربي، وأنه في حال أظهرت مصر إرادة التحرك بأجندة إيجابية في القضايا الإقليمية فإن تركيا مستعدة للتجاوب بشكل إيجابي مع ذلك.
ومع ذلك، يمكن القول إن ثمة اختلافًا رئيسيًا فيما صدر حديثًا من تصريحات عن مثيلاتها السابقة، وهو ما يمكن من خلاله إدراك الدافع نحو إصدارها وتتابعها. فغالبًا ما كان يرتبط الحديث التركي الرسمي حول أهمية عودة العلاقات التعاونية مع مصر، “لا سيما تلك المنبثقة عن أحاديث إعلامية أو مقالات رأي منشورة على مواقع تركية أو موالية لجماعة الإخوان المسلمين”، بالرفض التركي لما آلت إليه الأوضاع بعد ثورة 30 يونيو 2013، ولكن -في الوقت نفسه- تُقدر تركيا أهمية التواصل الشعبي والرسمي -إن كان على مستوى الخبراء الرسميين- لمعالجة القضايا البينية والإقليمية. ولكن تشير التصريحات التركية الأخيرة إلى غياب هذا البعد، بل كان التركيز فقط منصبًا حول ملف شرق المتوسط، ومن هنا يبرز الدافع التركي للمهادنة.
فمن ناحية، يواجه النظام التركي متغيرًا دوليًا يتمثل في تغير الإدارة الأمريكية وتولي إدارة ديمقراطية بقيادة “جو بايدن” الذي أعلن بالفعل خلال حملته الانتخابية عن عدم تسامحه مع التجاوزات التركية، سواء في ملف حقوق الإنسان أو بحق الأكراد، أو بسبب شراء تركيا منظومةَ الدفاع الروسية S-400. وعلى صعيد آخر، يواجه النظام التركي داخل إقليمه تحفزًا من جانب الاتحاد الأوروبي إزاء أي تحركات تركية معادية لأي من أعضائها. وفي ظل ما يموج به الداخل من أزمة اقتصادية عمقتها تداعيات جائحة كورونا، وكذا سياسية أسفرت عن تراجع كبير في شعبية الرئيس التركي وحزبه الحاكم؛ يبدو أن النظام التركي قد آثر تهدئة حدة الصراع على كافة الجبهات تجنبًا لأي عقوبات غربية جديدة قد تستهدف بشكل مباشر الاقتصاد التركي بما قد يؤدي إلى تهديد استقرار النظام في تركيا. واتصالًا بالأزمة الاقتصادية، يسعى النظام التركي إلى إعادة طرح نفسه كفاعل داخل إطار شرق المتوسط بغرض الاستفادة من ثروات المنطقة.
من ناحية أخرى، تواجه الدولة التركية عزلة إقليمية داخل محيط منطقة شرق المتوسط، الأمر الذي تجلى بشكل أكثر وضوحًا مع تحول منتدى غاز شرق المتوسط إلى منظمة إقليمية (سبتمبر 2020)، وانضمام كلٍّ من الولايات المتحدة وفرنسا والإمارات العربية المتحدة كمراقبين بالمنظمة، وأيضًا مع إطلاق وزراء خارجية دول اليونان وقبرص وفرنسا والسعودية ومصر والإمارات والبحرين لمنتدى الصداقة (فيليا) الهادف إلى بناء الصداقة والسلام والازدهار في المنطقة، وتعزيز الروابط بشكل خاص في مجالات الطاقة والأمن والسياسة. يُضاف إلى ما تقدم اتجاه دول منتدى شرق المتوسط نحو تعيين حدودها البحرية، وهي أمور قد أسهمت ليس فقط في فرض عزلة سياسية على تركيا بالمنطقة، وإنما تحجم من مشروعاتها التوسعية بالمنطقة وتدحض أي ادعاءات بالسيادة على مناطق قبرصية أو يونانية.
الرؤية المصرية
إن “الحديث إذا كان غير متوافق مع السياسات، فلا أهمية له”، بهذه الكلمات تمثل رد وزير الخارجية المصري “سامح شكري” على محاولات الغزل التركية السابقة. وحتى اللحظة، لا يوجد رد مصري رسمي على التصريحات التركية الأخيرة، ومن المتصور أن الرد المصري لن يخرج عن نفس المبدأ الذي حكمه في السابق. وبشكل عام، يمكن القول إن هناك ثلاثة محددات رئيسية من وجهة النظر المصرية تعرقل إتمام التعاون التركي المصري.
ينصرف المحدِّد الأول إلى الموقف التركي من ثورة الشعب المصري في 30 يونيو 2013 وما تبع ذلك من إيوائها عناصر مصنفة بـ”الإرهابية” تشكل تهديدًا رئيسيًا للدولة المصرية. فعلى الرغم من كون ثورة 30 يونيو ثورة شعبية بامتياز وشأنًا مصريًا خالصًا، لكن نتج عنها انهيار المشروع التركي للتوسع بالإقليم، والذي كانت تعول تركيا في إتمامه على استمرار حكم الإخوان المسلمين في مصر.
يستند المحدد الثاني إلى رفض التدخلات التركية في الإقليم، لا سيما في ليبيا وسوريا والعراق. وبحسب وزير الخارجية المصري خلال كلمته بالجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة 155 لمجلس جامعة الدول العربية، فإن مصر ترفض بشكل قاطع استمرار التدخلات التركية في المنطقة، والتي تنطوي على وجود قوات عسكرية تركية على أراضي دول عربية شقيقة، ولا شك أن هذه السياسات لم تؤدِّ إلا لتعميق حدة الاستقطاب وإذكاء الاختلافات. وتنصرف الرؤية المصرية إزاء الصراعات بالمنطقة إلى أهمية التوصل إلى حلول سياسية من شأنها حفظ وحدة الأراضي ودون أي تدخل خارجي يستهدف النيل من مقدرات الشعوب.
وأخيرًا، ترفض مصر أيضًا الممارسات التركية الاستفزازية في منطقة شرق المتوسط، لا سيما تلك المنتهكة للحدود البحرية اليونانية القبرصية. فعلى سبيل المثال، تهدد عقيدة “الوطن الأزرق” لتركيا اليونان وقبرص بشكل مباشر، نظرًا لتأكيدها على وجود عسكري في منطقة شرق المتوسط على وجه الخصوص، لحماية مشاريع التنقيب عن الغاز الطبيعي المخطط لها في المواقع البحرية المتنازع عليها. وخلال الفترة من 2018 حتى أواخر عام 2020، أخذت وتيرة الاستفزازات التركية في التصاعد. فإلى جانب رفضها أي اتفاق حدودي مبرم بين دول المنطقة، عمدت تركيا إلى عسكرة تفاعلاتها بالمنطقة. وفي نوفمبر 2019، وقّعت تركيا على مذكرتي تفاهم مع حكومة الوفاق الليبية متعلقة بتأطير التعاون الأمني والعسكري، وتحديد مناطق السيادة البحرية، وهو ما أثار انتقادات دولية نظرًا لانتهاكه مناطق سيادية لدول المنطقة.
متى يحدث تقارب مصري تركي حقيقي؟
وفقًا لعض التحليلات، قد يكون الدافع التركي نحو إضفاء نوع من التودد في تصريحاتها إزاء الدولة المصرية نابعًا من الرغبة التركية في استغلال لحظة “اتفاق العُلا” حيث المصالحة الخليجية المصرية مع قطر القائمة على عودة العلاقات أولًا ثم معالجة القضايا الخلافية بشكل تدريجي. من جانب آخر، قد تكون تركيا قد رأت أيضًا في التعاون المصري مع حكومة “عبدالحميد الدبيبة” المدعوم من تركيا، إشارة أخرى لرغبة مصرية في التقارب.
والحقيقة أن مثل تلك الإشارات التي تعتبرها تركيا إيجابية، لا تعدو كونها نتائج أو مظاهر طبيعية لسياسة مصرية لم تتغير. فبالنسبة لاحترام مصر للجرف القاري التركي، فالموقف المصري ينبع من التزامها بما أقره القانون الدولي للبحار، وبالتالي عند طرحها لمناطق التنقيب الحالية، فمصر ملتزمة التزامًا كليًا بحدودها البحرية فقط وليس من مبادئها الجور على حدود الغير.
أما بالنسبة للتطور الراهن في ملف المصالحة الخليجية المصرية مع قطر فهو أمر من غير المتوقع أن يسري أيضًا كنهج في مسألة التقارب المصري مع تركيا. تأتي المصالحة في إطار محاولة توحيد العلاقات العربية في سبيل الحد من عمليات التدخل الخارجي، كذلك فإن ما ورد بالوثيقة المبدئية من الاتفاق يتفق بشكل كامل مع توجهات السياسة المصرية حيث “عدم المساس بسيادة أي دولة من الدول الأطراف، وعدم التدخل في الشئون الداخلية لهذه الدول، والتعاون فيما يهدد الأمن الوطني أو الأمن الإقليمي، إضافة إلى التعاون في مكافحة الإرهاب والكيانات الإرهابية”. وبالنظر إلى الخطاب التركي، فإن التركيز منصرف فقط إلى البحث عن كيفية تحقيق المصالح التركية في شرق المتوسط، بينما لم يبدُ من الخطاب أي استعداد لتغيير سياسات انتهاكاتها بالإقليم، أو بوادر لتعديل أو تقويم موقفها إزاء جماعة إرهابية تتخذ من وجودها في تركيا مرتكزًا للإضرار بالدولة المصرية.
وأخيرًا، بالنسبة للتعاون المصري مع حكومة الدبيبة، فهو أمر نابع من التزام مصر باحترام خيار الشعب الليبي، كما أن استقرار الوضع في ليبيا ونجاح الحكومة الشرعية على أداء سلطتها وفرض سيادتها هو هدف مصري أيضًا يضمن لمصر حماية حدودها الشرقية من أي تهديد إرهابي.
وللإجابة عن التساؤل المطروح حول تقارب تركي مصري حقيقي، يمكن القول إنه قد يبدو أفق التقارب المصري التركي في حال اتخذت تركيا عددًا من الخطوات الفعلية، لعل أهمها:
أولًا: سحب تركيا لقواتها من ليبيا وتقديم إسهامها المنشود ضمن الشركاء الإقليميين والدوليين لليبيا لضمان استمرار استقرار الأوضاع وللدفع نحو إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية الليبية المقرر عقدها نهاية العام الجاري.
ثانيًا: على الرغم من صعوبة تصور تخلي تركيا عن ورقة الإخوان، لكن قد يبدو لمصر وجود استعداد تركي جدي للحوار في حال ما إذا اتخذ النظام التركي إجراءات من شأنها تقويض الإضرار الإخواني للدولة المصرية. قد تبدو ملامح ذلك في غلق القنوات الإعلامية الإخوانية التي تبث من تركيا، وكذا تسليم تركيا لبعض المطلوبين الصادر ضدهم أحكام قضائية.
ثالثًا: التوقف التركي عن انتهاك السيادة الإقليمية لكل من العراق وسوريا، وكذا ضرورة التوقف عن انتهاك السيادة البحرية لكل من قبرص واليونان، والبدء في الانخراط في تفاوضات جدية مع كلا الطرفين.
وفي الأخير، لا يمكن التعويل على وجود رغبة تركية فعلية للحوار طالما لم يصاحب ذلك أي إجراءات يمكن الاعتداد بها، ومن المتصور أن تظل التصريحات التركية الأخيرة مثل سابقتها مجرد تصريحات دبلوماسية بغرض الظهور بمظهر الداعي للحوار قبالة باقي الأطراف الدولية لا سيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومن غير المتوقع أن يتبدل هذ التصور طالما بقي السلوك التركي في هذا الصدد مجرد سلوك خطابي دعائي.
نائب رئيس وحدة الدراسات الاسيوية