لابتغاء المجتمع الدولي تحقيق العدالة والتمسك بالوسائل السلمية محل النزاعات الدولية وفقًا لمبادئ العدالة والقانون الدولي فكان لا بد من محكمة دولية تستهدف دومًا إرساء هذه المبادئ وهي محكمة العدل الدولية لما لها من أهمية كأحد الأجهزة الرئيسية للأمم المتحدة والتي يُعد جميع أعضاء الأمم المتحدة طرفًا في النظام الأساسي للمحكمة، ولكي يتسنى للمحكمة إرساء مبادئ العدالة يتعهد كل عضو من أعضاء الأمم المتحدة بالنزول على حكم المحكمة في أي قضية يكون طرفًا فيها، فنصت المادة (92) من ميثاق المحكمة على أن محكمة العدل الدولية هي الأداة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة.
فاحترام محكمة العدل الدولية ومهامها أمر أساسي لا غنى عنه لسيادة القانون وتغليب العقل والمنطق في الشئون الدولية.
ودعمًا للجهود الدولية لمواجهة الجرائم الدولية بحق المدنيين بغزة أقامت جمهورية جنوب أفريقيا دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية ديسمبر 2023 تتهمها بارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين وخاصة قطاع غزة، وزعمت جنوب أفريقيا في الدعوى أن ما ارتكبته إسرائيل يُعد ذات طابع إبادة جماعية؛ لأنها ترتكب لتدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من المجموعة القومية والعرقية والإثنية الفلسطينية.
وطلب جنوب أفريقيا للمحكمة يشمل هدفين رئيسين؛ أولهما: طلب اتخاذ تدابير مؤقتة والثاني: تأكيد الاتهام ضد إسرائيل بارتكابها جرائم دولية خاصة جريمة الإبادة الجماعية ضد المدنيين المقيمين في قطاع غزة.
وقد أعلنت محكمة العدل الدولية أنها ستعقد جلستي استماع بخصوص الوضع في قطاع غزة وطالبت جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية اتخاذ تدابير حماية مؤقتة فورًا من خلال إصدار أمر إلى إسرائيل بتعليق عملياتها العسكرية في غزة.
وبعد ذلك دعمت دولة نامبيا موقف جنوب أفريقيا في القضية الطارئة التي رفعتها أمام محكمة العدل الدولية دعوى أن الكيان الصهيوني ينتهك اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الإبادة الجماعية المُوقعة في عام 1948.
مما تقدم نجد أن المحكمة لم تقم بعدُ بفحص الجانب الموضوعي للقضية، وإنما قامت بفحص الدعوى وفقًا للمادة (41) من النظام الأساسي للمحكمة وهو ما يتضمن أن للمحكمة إذا رأت أن الظروف تتطلب ذلك أن تتخذ تدابير مؤقتة للحفاظ على الحقوق الخاصة بأي من طرفي النزاع المطروح؛ إما المحكمة وهي في هذه المرحلة مكلفة بالبحث في اتخاذ إجراءات مؤقتة لحماية الأطراف إذا كان هناك خطر وتقوم بأخطار الجمعية العامة للأمم المتحدة لاتخاذ اللازم من خلال أجهزتها المختلفة.
ويُستفاد من ذلك أن تلك التدابير يجب أن تتسم بالسرعة والإنجاز بهدف الحفاظ على الحقوق الأساسية وإبقاء حالة النزاع كما هي دون تفاقمه أو تغيير ظروفه بما يحول دون الفصل فيه بصورة سليمة، وأنها بطبيعتها تكون تمهيدية وموقتة ولا تعني الفصل في النزاع نفسه ومن ثَمّ يجوز تعديلها أو إلغاؤها في وقت لاحق.
وبالنسبة لما يحدث في حالة قطاع غزة فإن المحكمة تهدف بتلك التدابير المؤقتة أن تقوم السلطات المتهمة بالاعتداء أو بالإبادة الجماعية بواجباتها القانونية والأخلاقية والمبادرة بحماية الطرف الأضعف واتخاذ العناية الواجبة، وكل ما يلزم لوقف القتل وإلحاق الأضرار الجسدية والنفسية، وهو ما يُعد جرائم دولية، وبالتالي فإن إصدار تلك التدابير المؤقتة لا يمثل فقط إجراء واجب لضمان سلامة تطبيق القانون الدولي والمواثيق ذات الصلة، بل هو أيضًا واجب إنساني يفرضه الضمير أولًا ثم القانون الدولي الإنساني وميثاق الأمم المتحدة الذي ينص في مادته الأولى على “حفظ السلم والأمن الدوليين”، وبما ينبغي معه اتخاذ “التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم والأمن الدوليين وإزالتها، وقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم والأمن الدوليين.
وعلى الرغم من عدم صدور قرار حتى الآن بوقف العدوان على قطاع غزة إلا أن هناك عدة قرارات أصدرتها المحكمة تشكل أسانيد قوية يمكن الارتكاز عليها عند نظر الشق الموضوعي الذي قد يتخذ المزيد من الوقت لفحص المحكمة له وللشق الجنائي فيه، فالمحكمة ترى أن هناك نزاعًا يستحق النظر فيه، ووقوع أعمال مجرمة دوليًا بواسطة إسرائيل في ظل معاهدة الإبادة الجماعية وقد سجلت المحكمة تلك الجرائم وطلبت من إسرائيل تقديم تقرير عن استجابتها لقرارات المحكمة.
فما قامت به المحكمة يُعد مؤشرًا قانونيًا دوليًا بإدانة إسرائيل والدول المساندة لها في حربها على قطاع غزة وهو ما يفتح الطريق أمام دولة جنوب السودان أو أي دولة من دول المجتمع الدولي تنضم لها فيما بعد بتقديم الأدلة على ارتكاب إسرائيل جرائم دولية بحق الفلسطينيين.
وأوضحت المحكمة في قرارها الصادر في 26 يناير 2024 أن هذا الوضع الخطير يتطلب التنفيذ الفوري والفعال للتدابير المؤقتة التي أشارت إليها المحكمة، وذكرت أن تلك التدابير تنطبق على جميع أنحاء قطاع غزة، بما فيها رفح، وبذلك لا يتطلب الأمر إصدار تدابير مؤقتة إضافية فالتطورات الأخيرة في قطاع غزة، وفي رفح على وجه الخصوص، من شأنها أن تزيد بشكل كبير، مما يُعد بالفعل كابوسًا إنسانيًا ذا عواقب إقليمية لا تحصى.
وقد أصدرت محكمة العدل الدولية تدابير إضافية جديدة في مارس 2024 حيث أصدرت قرارًا ينص على إضافة تدابير أخرى للإجراءات المؤقتة التي طلبتها جنوب أفريقيا في قضيتها ضد إسرائيل المتعلقة بتطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزة، حيث رأت المحكمة أن التدابير المؤقتة التي تضمنها قرارها في هذه القضية لا تعالج بشكل كامل العواقب الناشئة عن التغيرات في الوضع مما يبرر تعديل هذه التدابير.
وأوضحت المحكمة في قرارها أنه منذ يناير، شهدت الظروف المعيشية الكارثية للفلسطينيين في قطاع غزة مزيدًا من التدهور، لا سيما في ضوء الحرمان المطول وواسع النطاق من الغذاء وغيره من الضروريات الأساسية الذي يعاني منه الفلسطينيون في قطاع غزة.
وشملت التدابير المؤقتة الإضافية التي تضمنها قرار المحكمة أنه على إسرائيل ضمان بشكل فوري عدم قيام قواتها العسكرية بارتكاب أعمال تشكل انتهاكًا لأي من حقوق الفلسطينيين في غزة كمجموعة محمية بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية، بما في ذلك عن طريق المنع من خلال أي إجراء، وتوصيل المساعدات الإنسانية المطلوبة بشكل عاجل وهو ما يوضح رؤية المحكمة من حجم الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين من جانب قوات الاحتلال.
وطلبت المحكمة أن تقدم لها إسرائيل تقريرًا عن جميع التدابير المتخذة لتنفيذ هذا القرار، خلال شهر واحد من تاريخه.
وهو الأمر الذي دفع الفريق القانوني الإسرائيلي للقول إن الهدفين العسكريين المزدوجين هما القضاء على التهديد الوجودي الذي يشكله مقاتلو حماس، وإطلاق سراح الرهائن الذين لا يزالون محتجزين في القطاع مما يُعد دفاعًا عن النفس.
وبتحليلنا لموقف إسرائيل واستنادها فيما تفعله من جرائم دولية بقطاع غزة على مبدء الدفاع الشرعي ودون الدخول في مسألة الدفاع الشرعي عن النفس ومبرراتها نجد أن دولة الاحتلال الإسرائيلي لا تنطبق عليها شروط الدفاع الشرعي فقد تضمن ميثاق الأمم المتحدة في المادة (51) حق الدفاع الشرعي، ولكي يكون الدفاع الشرعي سببًا من أسباب امتناع المسئولية الجنائية الدولية يجب توفر عدة شروط وهي:-
*أن يكون الدفاع هو الوسيلة الوحيدة لصد اعتداء غير مشروع على النفس أو الغير وأن توجه إلى مصدر العدوان أو الخطر.
* أن يكون الاعتداء أو الخطر وشيك الوقوع أو وقع بالفعل.
* التناسب في استخدام القوة بين الدفاع وجسامة الاعتداء أو العدوان.
وهو ما لا ينطبق مع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
ونرى أن الدفاع الشرعي غير مقبول في حالات الجرائم الدولية، حيث لا يُتصور بانتفاء المسئولية في حالة ارتكاب تلك الجرائم من قبل الأفراد المرتكبي الجريمة أو المساهمين فيها؛ حيث إنهم يدركون ما يفعلون من جرائم دولية، والقول بغير ذلك هو إرساء لشريعة الغاب وامتهان كرامة وحقوق الإنسان التي كفلها له القانون، فإذا كان حق الدفاع الشرعي كسبب من أسباب امتناع المسئولية والإعفاء منها، إلا أنه لا ينطبق في حالة من يرتكب الجرائم الدولية ويسعى في الأرض فسادًا كون الجرائم الدولية وعلى رأسها الجرائم ضد الإنسانية مخالفة لكل الشرائع ومنتهكة لكافة الأعراف والقوانين الدولية، فلا يجب استخدام الدفاع الشرعي كسبب لامتناع المسئولية الدولية خاصة في الجرائم المرتكبة بحق المدنيين بقطاع غزة.
ويجب الإشارة أيضًا إلى أن الدعوى أو النزاع أمام محكمة العدل الدولية هو نزاع قانوني دولي متمثل في جرائم دولية عمومًا ارتكبت ضد المدنيين بقطاع غزة، وليس نزاعًا سياسيًا فقط كون النزاع السياسي يندرج تحت اختصاصات مجلس الأمن وكان للمحكمة رأي في ذلك الشأن؛ حيث إن أي نزاع يكون له جوانب متعددة فقد يثير الجانب القانوني فضلًا عن الجانب السياسي ومن غير المعقول أن ترفض المحكمة التصدي لبحث النزاع لمجرد أنه يثير مشاكل سياسية فقط والمحكمة عند إصدارها للحكم لا تعتمد على أي اعتبارات سياسية فهي تعتمد على أحكام القانون وحده عندما تصدر قرارات أو أحكام أو آراء استشارية.
وعند عرض القرار النهائي على الأمم المتحدة ومجلس الأمن وحتى لو تم استخدام حق الفيتو في مواجهة قرارات المحكمة، مثلما حدث عندما تقدمت الجزائر في 20 فبراير الحالي بمشروع قرار لمجلس الأمن تطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار في غزة لأسباب إنسانية ورفض التهجير القسري للسكان المدنيين الفلسطينيين، ومطالبة جميع الأطراف بالامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الدولي إلا أنه باء بالفشل نتيجة استخدام الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) وهو ما يُعد انتقاصًا من العدالة الدولية وإنكار للعدالة، ففي هذه الحالة يتم تقديم القرارات نفسها مرة أخرى إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة عند فشل مجلس الأمن في مهمته الرئيسية في حفظ السلم والأمن الدوليين، وعندها تتناول الأمم المتحدة الموضوع بسلطات مجلس الأمن تطبيقًا لمبدأ الاتحاد من أجل السلام.
وينص مبدأ الاتحاد من أجل السلام على أنه عندما يعجز مجلس الأمن الدولي عن ممارسة مهامه الرئيسية المتمثلة في صون الأمن والسلم الدوليين لعدم تمكن أعضائه الدائمين من التوافق، يتم تحويل المسئولية للجمعية العامة للأمم المتحدة للنظر في الأمر بهدف إصدار توصيات مناسبة لاتخاذ تدابير جماعية، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة عند الاقتضاء، وكان الهدف من صدور هذا القرار في عام 1950 هو المحافظة على استمرار السلم والأمن الدوليين وعدم تعريضهما للخطر.
وإلى اليوم تم استخدام هذا القرار في مناسبات عدة، أظهر مجلس الأمن فيها عجزًا واضحًا عن التصدي لأزمات تعرض فيها الأمن والسلم الدوليان للخطر، ولم يتمكن من تقديم الحلول المناسبة.
ويلاحظ أن تلك القضية تختلف عن القضية الأخرى المنظورة أمام محكمة العدل الدولية لإبداء الرأي الاستشاري الذي طلبته الجمعية العامة للأمم المتحدة من المحكمة حول الآثار القانونية الناشئة عن سياسات إسرائيل وممارساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية، والتي شاركت مصر بمرافعة في تلك القضية للتأكيد على عدم شرعية ممارسات الاحتلال الإسرائيلي الممنهجة ضد حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، فاستقرار الشرق الأوسط لن يتحقق إلا بالاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة كما قدمت مصر أدلة على عدم قانونية الاحتلال للأراضي الفلسطينية، وركزت الدولة المصرية في مرافعتها على الدفع بالأسانيد والحجج القانونية تجاه أربعة موضوعات رئيسية؛ أ– تأكيد اختصاص محكمة العدل الدولية بمنح الرأي الاستشاري في الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967. ب– استبانة الآثار القانونية المترتبة عن الاحتلال الإسرائيلي الذي طال أمده بالمخالفة للقانون الدولي والمبادئ التي تحكم مشروعية استخدام القوة، فضلًا عن الآثار القانونية الخاصة بحظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، ومبدأ حق تقرير مصير الشعوب، وحظر الفصل العنصري. ج– دحض المبررات القانونية الخاصة باستخدام مبدأ الدفاع عن النفس، والضرورة الأمنية أو العسكرية، وهو ما تم بيانه وتوضيحه.
د– ملخصًا للآثار القانونية الناشئة عن الممارسات الإسرائيلية
حيث بات من المستحيل تجاهل مسئولية الأطراف الدولية عن تغيير الوضع الراهن، فالاعتداءات الإسرائيلية ضد سكان قطاع غزة المحتل لا تزال مستمرة.
وعلى الرغم من أن الآراء الاستشارية الصادرة عن محكمة العدل الدولية غير ملزمة، إلا أنها يمكن أن تحمل سلطة أخلاقية وقانونية كبيرة، ويمكن أن تصبح في نهاية المطاف جزءًا من أعراف القانون الدولي، وجدوى الرأي الاستشاري أنه يصدر عن أعلى محكمة دولية، وستحدد لنا القواعد القانونية، وستقر أن هذه القواعد تنطبق على الاحتلال القائم للأراضي الفلسطينية، مما يثبت أركان الحق الفلسطيني، ويشكل صفعة قوية لدولة الاحتلال على سلوكياتها تجاه الشعب الفلسطيني.
وختامًا إن ما يحصل في غزة من انتهاك واضح للقرارات الشرعية الدولية في ظل قواعد القانون الدولي بصفة عامة وقواعد القانون الدولي الإنساني بصفة خاصة والقانون الدولي الجنائي وكل ذلك ما خرقته دولة الاحتلال الإسرائيلي جميعًا، يؤكد من جديد عجز مجلس الأمن الدولي عن مواجهة انتهاك واضح للأمن والسلم الدوليين، وعدم قدرته على إدارة الأزمة الإنسانية في غزة أو حتى التخفيف من آثارها الدموية، ويأتي هذا العجز بسبب استخدام بعض أعضائه الدائمين لحق النقض (الفيتو)، وهو ما يحول دون استصدار قرار يدين دولة الاحتلال الإسرائيلي لما تقوم به من ارتكاب جرائم دولية بحق الفلسطينيين،
فهل تتحقق العدالة الدولية للقضية الفلسطينية كما بينّا أم نكون أمام عدالة انتقائية ومزدوجة المعايير؟،
فمبدأ العدالة كفكرة ثابتة في كل زمان ومكان حيث إنه لا يوجد قانون أو قواعد وضعت إلا وکانت العدالة هي مبتغاها والعدالة في نطاق الجماعة الدولية حسب المفهوم الحالي لها هو تحقيق السلم والأمن الدوليين.
دكتور القانون الدولي العام