تسببت الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت في 24 فبراير 2022 في أضرار جسيمة وخسائر في الأرواح بالمدن الكبرى في أوكرانيا، وأدت إلى نزوح سكان المناطق الريفية، وهو الأمر الذي انعكس على حالة من انعدام الأمن الغذائي على نطاق واسع وأكثر تدهورًا، وساهم في تعطل سبل العيش خلال موسم الزراعة في أوكرانيا، مما تسبب في تداعيات متعددة على الأسواق العالمية والإمدادات الغذائية، ليمثل تحديًا للأمن الغذائي العالمي وخاصة بالنسبة للبلدان الأفريقية منخفضة الدخل التي تعتمد على استيراد الغذاء، وذلك على اعتبار أن روسيا وأكرانيا لاعبان بارزان في التجارة العالمية للمنتجات الغذائية والزراعية.
أولًا- أفريقيا واستهلاكها من القمح:
بحسب البيانات الصادرة عن برلمان الاتحاد الأوروبي فإن روسيا وأوكرانيا توفران مجتمعتين أكثر من 50٪ من واردات الحبوب في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، بينما تستورد دول شرق إفريقيا 72٪ من حبوبها من روسيا و18٪ من أوكرانيا. وتوفر روسيا وأكرانيا 90% من القمح المستورد للمنطقة، ويمثل القمح الكامل ومنتجات القمح ثلث متوسط استهلاك الحبوب في إقليم شرق إفريقيا، مع أعلى معدل استهلاك للفرد في جيبوتي وإريتريا والسودان، ويتم تلبية 84% من الطلب على القمح في المنطقة عن طريق الواردات، ونجد أنه لم تتوقف إمدادات القمح لأفريقيا إلا أنه إذا نفدت المخزونات في الأسواق وحدثت اضطرابات تجارية، فهناك احتمال لزيادة أسعار منتجات القمح في الأسواق المحلية، وسيعتمد الحجم على مدى سرعة تكيف المستوردين والتجار في المنطقة، وإيجاد مصادر جديدة للحبوب، ويمكن متابعة أهم الدول المستوردة للقمح في أفريقيا جنوب الصحراء من خلال الشكل التالي:

وفي شمال إفريقيا، وبحسب منظمة الأغذية والزراعة، فإنه تعرقلت آفاق إنتاج القمح بسبب النقص المستمر في هطول الأمطار بالعديد من البلدان، وكان هطول الأمطار أقل من المتوسط بشكل واضح. ففي المغرب -على سبيل المثال- أدى الانخفاض في إجمالي المساحات المزروعة والانخفاض الحاد المتوقع في الغلال إلى توقع انخفاض بنسبة 67٪ تقريبًا في الإنتاج مقارنة بإنتاج العام الماضي، وبالتالي من المتوقع أن يؤدي الطلب القوي على الواردات من قبل العديد من البلدان إلى رفع مشتريات القارة من القمح في 2022/2023 إلى 54.0 مليون طن، بزيادة 5.0% (2.6 مليون طن) عن المستوى المقدر لعام 2021/2022، وتُعزى الزيادة -إلى حد كبير- إلى زيادة بنسبة 32% (1.5 مليون طن) في واردات المغرب إلى مستوى قياسي قدره 6.2 ملايين طن، من أجل التعويض عن الانخفاض الكبير المتوقع في الإنتاج المحلي.
وفي مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، من المتوقع أن تصل المشتريات إلى 13 مليون طن، بزيادة طفيفة عن 2021/2022، ولتجديد المخزونات اتخذت الحكومة المصرية إجراءات في الأشهر الأخيرة لفتح طرق استيراد من مصادر جديدة بما في ذلك الأرجنتين والهند.
ومن المتوقع أيضًا أن ترتفع واردات القمح بشكل طفيف بالنسبة للجزائر، ثاني أكبر مستورد للقمح في إفريقيا وخامس أكبر مستورد للقمح على مستوى العالم، وكذلك لإثيوبيا وموريتانيا والسودان وتونس، وكلها تعتمد على الواردات لتلبية احتياجات القمح المحلية. ومن المتوقع أن تستورد نيجيريا، أكبر دولة من حيث عدد السكان وثالث أكبر مستورد للقمح في إفريقيا 6.2 ملايين طن عام 2022/2023، بانخفاض طفيف عن 2021/2022.
ثانيًا- أثر زيادة أسعار النفط الخام على أسعار المواد الغذائية في المنطقة:
تعد روسيا أكبر مصدر للنفط للأسواق العالمية وثاني أكبر مصدر للنفط الخام بعد المملكة العربية السعودية، وبالتالي فإنه إذا انخفضت صادرات النفط الخام من روسيا بسبب الصراع والعقوبات التي تلت ذلك فهناك احتمالية لأن تظل أسعار النفط الخام مرتفعة خلال المتبقي من العام الحالي بسبب زيادة الطلب وشدة المنافسة، ويمكن متابعة تطور متوسط سعر خام برنت السنوي من خلال الشكل التالي:

يبين الشكل السابق ارتفاع متوسط السعر السنوي لنفط برنت الخام إلى 103.76 دولار أمريكي للبرميل اعتبارًا من مايو 2022، وهذا أعلى بأكثر من 30 دولارًا أمريكيًا من المتوسط السنوي المتحقق في عام 2021، ويأتي في أعقاب نقص إمدادات الطاقة الذي بدأ يجتاح أوروبا في أواخر عام 2021، فضلًا عن مخاوف بشأن اختناقات إمدادات النفط في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، بل هناك توقعات بأن تؤدي الاضطرابات في تدفقات النفط من روسيا إلى دفع أسعار النفط العالمية إلى 120 دولارًا أمريكيًا للبرميل.
ويتضح أنه بعد التعافي البطيء من جائحة كورونا الذي حققه الاقتصاد العالمي فإنه لم يواكب نمو الطلب العالمي على النفط زيادة مقابلة لها في الإنتاج، مما ترك السوق العالمي بمخزون صغير للتخفيف من صدمة إمدادات النفط في حال حدوث اضطراب كبير في صادرات الوقود الأحفوري الروسي.
وبحسب صندوق النقد الدولي فإنه ستؤدي أسعار النفط المرتفعة إلى زيادة فاتورة الواردات على مستوردي النفط في أفريقيا جنوب الصحراء بنحو 19 مليار دولار، مما يؤدي إلى تفاقم الاختلالات التجارية وزيادة تكاليف النقل وغيرها من تكاليف المستهلك، وستكون الدول الهشة المستوردة للنفط هي الأكثر تضررًا، حيث من المتوقع أن تتدهور الموازين المالية بنحو 0.8% من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بتوقعات أكتوبر 2021 – ضعف مثيلتها في البلدان الأخرى المستوردة للنفط، ومع ذلك تستفيد البلدان الثمانية المصدرة للنفط في المنطقة من ارتفاع أسعار النفط الخام.
وترتفع تكاليف الوقود والنقل للمواد الغذائية مع ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الغذائية. فعلى سبيل المثال، بلغت تكاليف الوقود والنقل 30% من أسعار المواد الغذائية في منطقة شرق أفريقيا فقط، وبالتالي سيتم تحميل المواطنين تكلفة أسعار الوقود المرتفعة تلك تلقائيًا.
ثالثًا- تأثر واردات أفريقيا من روسيا وأكرانيا بعد الحرب:
وفقًا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة، تواجه العديد من الدول الأفريقية مشكلة النقص وارتفاع أسعار المواد الغذائية لاعتمادها على دولتي الحرب في الحصول على المواد الغذائية والطاقة، ومع انقطاع الإمدادات الأوكرانية، تتزايد أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء إفريقيا، وفي الوقت نفسه أدت تكاليف الطاقة المتزايدة إلى ارتفاع أسعار الأسمدة مثل الفوسفات المستخدم في إنتاج الغذاء. فمثلًا نجد أن انخفاض الإمدادات الغذائية والزيادات اللاحقة في أسعار هذه السلع تجعل من الصعب على المزارعين في زامبيا الوصول إلى المدخلات التي يحتاجون إليها لزراعة محاصيلهم، وستؤدي الزيادات في الأسعار إلى زيادات كبيرة في الفقر والجوع وسوء التغذية.
وبالنظر إلى حجم الطلب على القمح والاعتماد المفرط على الواردات من روسيا وأوكرانيا، فمن المرجح أن يتأثر السودان بشدة بسبب تداعيات الصراع المستمر، تليه كينيا وإثيوبيا، ومن المحتمل أيضًا أن تتأثر بلدان أخرى في المنطقة بشكل مباشر (من خلال زيادة أسعار المنتجات المرتكزة على القمح) أو تتأثر بشكل غير مباشر (استهلاك المنتجات البديلة، مما يؤدي إلى زيادة أسعار الحبوب الأخرى). وبالإضافة إلى ذلك، من المرجّح أن تتأثر إثيوبيا والسودان وجنوب السودان بصدمات محتملة في أسعار القمح لأنها تواجه بالفعل صدمات اجتماعية واقتصادية ومناخية داخلية، والتي أدت بالفعل إلى ارتفاع أسعار الغذاء.
كما تؤدي اضطرابات تدفق النفط من روسيا إلى دفع أسعار النفط العالمية إلى 120 دولارًا أمريكيًا للبرميل، ومن المرجح أن تواكب إعانات الوقود الحالية التي تدعمها الدول والتي تهدف إلى تخفيف حدة العبء على المستهلكين (على سبيل المثال في كينيا) وضوابط الأسعار (جيبوتي وجنوب السودان) إلى ارتفاع التضخم بشكل عام في المنطقة.
وبحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر فإن هناك أكثر من 346 مليون أفريقي يواجهون أزمة أمن غذائي، وضاعف من الأزمة مواجهة أفريقيا مشكلة استمرار الجفاف وقلة الأمطار في بعض أجزاء أفريقيا والصراعات والتي أدت إلى تفاقم الوضع الغذائي في أفريقيا، كما ترفع الحرب تكاليف المساعدة الغذائية، وتحد من قدرة المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية على تقديم المعونة الغذائية، ويقدم البنك الدولي دعمًا قصير الأجل واستثمارات طويلة الأجل وعلى رأسها برنامج مرونة النظام الغذائي في غرب إفريقيا، والذي من خلاله يتم تطبيق نهج النظام الغذائي على النحو الذي تم الترويج له في قمة الأمم المتحدة للنظام الغذائي، وسيساهم البرنامج الذي يزيد على 700 مليون دولار أمريكي بحسب البنك الدولي في تحويل أنظمة الغذاء في غرب إفريقيا مما يجعلها أكثر مرونة، وسيساعد غرب إفريقيا ومنطقة الساحل على التخفيف من تأثير الحرب، ويساعد في تعزيز تجارة الأغذية داخل المنطقة بهدف تقليل اعتماد المنطقة على الواردات الغذائية، وبالفعل عزز البنك الدولي دعمه المالي بشكل كبير لمكافحة الجوع وسوء التغذية في جميع أنحاء العالم من 4.1 مليارات دولار أمريكي في 2006/2007 إلى 17.3 مليار دولار أمريكي متوقع للسنة المالية 2021-2022.
وبالرغم من أن الحرب بعيدة جغرافيًا عن القارة الأفريقية، إلا أنها ألقت بظلالها على عدد من الدول الأفريقية، ومع استمرار الحرب يلوح في الأفق تراجع مؤشرات الأمن الغذائي في أفريقيا، وهذا قد يعيد الامور إلى سيناريو أزمة الغذاء العالمية في عامي 2007 و2008 والتي كان لها تأثير كبير على أفريقيا، وأدت إلى وقوع أعمال شغب بسبب نقص إمدادت الغذاء في نحو 14 دولة أفريقية، وبالتالي فإن أفريقيا ستحتاج إلى وقت للتعافي الكامل من آثار الحرب عليها نظرًا لافتقار المزارعين إلى الموارد والمدخلات لزراعة محاصيلهم الربيعية والصيفية.