تناولت في مقال سابق تحت عنوان “العقيدة السياسية للسيسي” المفاهيم المحورية التي يمكن استخلاصها من مراجعة الخطاب السياسي للرئيس عبد الفتاح السيسي، فيما يتعلق بالعلاقة مع الخارج. وأشرت إلى أربعة مكونات رئيسية في تلك العقيدة، هي حماية الدولة الوطنية كركيزة أساسية للأمن الإقليمي والعالمي، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، والحفاظ على أخلاقية السياسة الخارجية، وأخيرا التعامل مع الموارد الإقليمية كموضوع للتعاون أكثر منها موضوعا للصراع. ليست هذه هي المكونات الوحيدة في تلك العقيدة، لكنها في تقديري المكونات الأكثر وضوحا على هذا المستوى. لكن الوقوف على العقيدة السياسية لأي قيادة لا يكتمل إلا بالوقوف على موقع الداخل في مكونات هذه العقيدة.
القيمة الأولى التي يمكن استخلاصها على مستوى الداخل- كما هو على المستوى الخارجي- هي مركزية “الدولة الوطنية” التي تتجاوز المكونات الدينية للمجتمع. لقد عكست هذه القيمة نفسها ليس فقط على مستوى الخطاب السياسي للسيسي، لكنها كانت أكثر وضوحا على مستوى الحركة والممارسة، والأمثلة عديدة في هذا الصدد (حرصه على حضور قداس عيد الميلاد، الحرص على بناء أكبر مسجد بجوار أكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط في العاصمة الإدارية الجديدة وما يحمله ذلك من أبعاد رمزية مهمة). وبعيدا عن الجذور الفكرية لهذا المكون، هناك عوامل عديدة تفسر تجذره في عقيدة السيسي. من ناحية، هو امتداد طبيعي لمكون “الدولة القوية” في تلك العقيدة؛ إذ لا يمكن وجود دولة قوية مستدامة، دون أن تكون في الوقت ذاته -وكشرط رئيسي- “دولة وطنية” تتجاوز في أبنيتها الفكرية والمؤسسية مكوناتها الدينية. الدولة القوية/ الطائفية هي في الحقيقة دولة لا يمكنها تحقيق استقرار على المدى البعيد. من ناحية أخرى، فإن مواجهة حقيقية للتطرف والإرهاب لا يمكن أن يٌكتب لها نجاح حقيقي في ظل غياب “الدولة الوطنية”. لقد مثل تعزيز الطائفية والخطاب الطائفي أحد الاستراتيجيات الأساسية التي اعتمدت عليها التنظيمات الإرهابية في العالم. ولم يكن من المتصور نجاح الدولة المصرية في تحقق هذا المستوى المتقدم في مواجهة هذه التنظيمات بدون تعزيز “الدولة الوطنية”. أولوية “الدولة الوطنية” في عقيدة السيسي يفسر لنا أيضا دعوته المبكرة لتجديد الخطاب الديني كمدخل مهم لتعزيز “الدولة الوطنية”.
القيمة الثانية، هي “الدولة التنموية”. السيسي لم يستخدم هذا المفهوم بشكل مباشر في خطابه السياسي، لكنه كان حاضرا بقوة على مستوى التطبيق والممارسة. “الدولة التنموية” مثلت المفهوم المركزي الذي قامت عليه العديد من النماذج والخبرات التنموية للاقتصادات الناشئة في شرقي وجنوب شرقي آسيا وأمريكا اللاتينية. هناك أدبيات عديدة حاولت التنظير لمفهوم “الدولة التنموية”، لكن القاسم المشترك بينها جميعا هي “الدولة القوية” (بما يتضمنه ذلك من وجود قيادة سياسية قوية)، ومركزية هدف التنمية الاقتصادية على ما عداه من أهداف ووظائف، وبناء علاقة تعاون/ تكامل بين الدولة وباقي الفاعلين السياسيين والاقتصاديين (رجال الأعمال، المجتمع المدني، البيروقراطية) على النحو الذي يخدم قضية التنمية باعتبارها القضية المركزية. “الدولة التنموية” بهذا المعنى تظل حاضرة بقوة في عقيدة السيسي، بدءا من مركزية مفهوم “التنمية” ذاته الذي يمثل القيمة الأعلى في الخطاب السياسي للسيسي بدءا من اليوم الأول لتوليه السلطة. لكن الأهم هو الدور المركزي للدولة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، على مستويي التخطيط والتنفيذ، وهو ما تجسد في قائمة المشروعات القومية الضخمة التي جرى تنفيذها -ولايزال- خلال السنوات الست الماضية. ولم يكن من الممكن تنفيذ هذه المشروعات الضخمة دونما دور مركزي للدولة المصرية. ورغم أن الدولة لم تنفي أهمية دور القطاع الخاص والمبادرات الفردية لكن الظروف التي مرت بها البلاد عقب أحداث يناير 2011، ثم ثورة يونيو 2013 جعلت من الصعب المراهنة على هذه القطاع- رغم أهميته- لتحقيق تنمية حقيقية في مدى زمني معقول. وأخيرا، يمكن الإشارة هنا إلى توظيف العلاقات الخارجية للدولة لخدمة قضية التنمية، وهو ما يعكسه ممارسة السيسي بنفسه ما يعرف بـ”دبلوماسية التنمية”، والتي تعني في جوهرها وضع هدف التنمية وتعزيز المشروع التنموي على قائمة أهداف الدبلوماسية الخارجية والعمل على خلق الظروف الدولية والإقليمية المواتية لنجاح هذا المشروع.
وأخيرا، يمكن الإشارة إلى ملاحظة مهمة وهي وجود درجة كبيرة من التوافق والانسجام بين مكونات هذه العقيدة، سواء بين القيم الحاكمة للعلاقة مع الخارج أو الداخل، أو بين هذه القيم على كل مستوى على حده. إذ لا يمكن الحديث عن “دولة تنموية” فاعلة بدون “دولة قوية” و”دولة وطنية”، كما لا يمكن الحديث عن تنمية حقيقية مستدامة بدون العمل على بناء بيئة إقليمية مستقرة شرطها الرئيسي هو “الدولة الوطنية” وتحويل الموارد الإقليمية (المياه والغاز على سبيل المثال) إلى موضوع للتعاون طالما قبل الآخرين ذلك دون المساس بالحقوق القانونية الثابتة وعلى قاعدة الكسب المشترك. ولا يمكن الحديث عن كل ذلك بدون تعزيز القدرات الدفاعية وردع التهديدات الخارجية.. إلى آخره من أشكال التداخل والاعتماد المتبادل بين مكونات هذه العقيدة. هذا التوافق والانسجام هو نتيجة منطقية لرؤية واضحة لدى السيسي حول طبيعة تحديات الدولة المصرية من ناحية. كما أن انسجام مكونات هذه العقيدة هو شرط مهم وضروي لنجاح أية سياسات داخلية وخارجية مبنية على هذه العقيدة، من ناحية أخرى.
تلك في تقديري هي المكونات الرئيسية في عقيدة السيسي. ولست في حاجة للتأكيد مرة أخرى على أنها ليست سوى اجتهاد من جانب الكاتب لمحاولة الوقوف على بعض مكونات هذه العقيدة.