مثلت الأفكار والنظريات الكبرى فى العلاقات الدولية واحدة من المصادر المهمة لتشكيل الواقع، سواء على مستوى النظام الدولى أو على مستوى الأقاليم. بعض الأقاليم كانت أكثر استعدادا من غيرها لتطبيق المقولات الأساسية لنظريات بعينها، أو دليلا على صدق هذه المقولات. على سبيل المثال، كانت أوروبا الغربية أكثر استعدادا لتطبيق مقولات نظريات المدرسة الليبرالية باتجاهاتها المختلفة (الليبرالية الكلاسيكية، الليبرالية المؤسسية، الاعتماد المتبادل، السلام الديمقراطى، الوظيفية، الوظيفية الجديدة، وغيرها)، والتى ركزت على مداخل عدة لبناء السلام. وفى بعض الحالات الأخرى، كانت التفاعلات والعلاقات الإقليمية دليلا على فشل هذه النظريات ومقولاتها، أو عدم قابليتها للتطبيق. جوهر نظريات المدرسة الليبرالية هو مركزية دور الفاعلين غير الحكوميين (منظمات المجتمع المدنى، الشركات المتعددة الجنسية، منظمات حقوق الإنسان…إلخ)، والمنظمات عابرة القوميات، والشركات المتعددة الجنسيات، جنبا إلى جنب مع الدول، فى صنع السياسات الدولية، ودور هؤلاء الفاعلين فى بناء السلام، انطلاقا من أن نمو الاعتماد الاقتصادى المتبادل، وتوسيع حجم التفاعلات والروابط الثقافية، ونشر الديمقراطية، من شأنه تشجيع ظهور الفاعلين عابرى القوميات، والمصالح فوق القطرية، وتحرر هؤلاء الفاعلين من قيود السيادة القطرية والصراعات التقليدية. ويرفض أنصار هذه المدرسة التسليم بهيمنة القضايا الأمنية والعسكرية على السياسات الدولية أو الإقليمية، ويؤكدون فى المقابل إمكانية وضرورة إفساح المجال أمام القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وأن إفساح المجال أمام هذا النمط من الفاعلين، وهذه القضايا، سيفسح المجال أمام خلق “أنساق اجتماعية” وثقافية، وجماعات عابرة للحدود من مصلحتها تعزيز الأمن والسلام، وستتجه من ثم إلى التأثير على عمليات صنع القرار القطرية لتعزيز هذه المصلحة المشتركة، ودفع الدول إلى إعادة تعريف مصالحها الخارجية. وتنطلق النظرية من افتراض أن التفاعلات عبر القومية ستقود إلى تغيير التوجهات الداخلية للأفراد والنخب، بما فى ذلك النخب الحاكمة. ويرفض أنصار هذه المدرسة التسليم بأن القوة هى المحرك الوحيد للعلاقات الدولية، وأن التعاون الدولى والمنافع المشتركة يمكن أن يكونا محفزين رئيسيين فى هذا المجال.
بعض الأقاليم مثلت حالات مثالية لتفسير حالة العلاقات الإقليمية بالاعتماد على هذه المدرسة بنظرياتها المختلفة، أو قابلية توظيفها لتغيير حالة الإقليم فى حالات أخرى. ينطبق ذلك على أوروبا الغربية، وعلى إقليم آسيا- المحيط الهادى حتى وقت قريب. لكن أقاليم أخرى ظلت حالات مثالية أيضا تؤكد أن هناك حدودا لإمكانية تغيير حالة الإقليم والعلاقات الإقليمية بالاعتماد على هذه النظريات. المثال الأبرز هنا هو إقليم الشرق الأوسط. فقد طُرحت تصورات عدة لمحاولة تغيير شكل الإقليم، وتحييد صراعاته التقليدية، فى إطار مفهوم الشرق الأوسط الكبير أو الموسع أو غيره. جوهر هذه التصورات قام على ضرورة تكثيف العلاقات الاقتصادية والثقافية بين الدول العربية من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى. دافع عن هذا التصور نخب على الجانبين، فى مراحل مختلفة، وصولا إلى حد الترويج لمفهوم «الدولة الواحدة» كأساس لتسوية القضية الفلسطينية. كل هذه التصورات تنهار تماما أمام السياسات الإسرائيلية العدوانية تجاه الشعب الفلسطينى، واعتمادها مقاربات أمنية وعسكرية، دون غيرها، فى مواجهة الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، وصولا إلى العدوان الغاشم الجارى على قطاع غزة، والذى كشف عن نوايا إسرائيلية شديدة الخطورة تجاه القضية الفلسطينية، ومحاولة تصفيتها نهائيا على حساب دول عربية بعينها، وعلى رأسها مصر، وربما المملكة الأردنية الهاشمية لاحقا. هذه السياسات العدوانية الإسرائيلية تكشف مجددا أن هناك حدودا لهذا التوظيف المتفائل لمقولات المدرسة الليبرالية، أو الترويج والتبشير بمقولاتها فى إقليم مازال يعانى صراعا تقليديا تاريخيا، وأن هناك شعبا سُلبت أرضه، مازال محروما من حقه فى إقامة دولته المستقلة.
فى المقابل، فإن المشهد الراهن فى الإقليم يؤكد مجددا أن أمنه واستقراره لن يتحقق إلا عبر الاستثمار فى بناء «توازن قوى» أو «توازن الردع»، وأن الإقليم مازال غير مؤهل للقفز على واقعه الراهن والانتقال به إلى حالة «ليبرالية» هشة، لن تضمن إنهاء الصراع الفلسطينى – الإسرائيلى، ولن تضمن حق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم، بل ربما تأتى هذه الحالة «الليبرالية» الزائفة على حساب هذا الحق المشروع. «توازن القوى» يعنى أن امتلاك «القوة الصلبة» مازال شرطا رئيسيا لضمان الاستقرار والأمن فى هذا الإقليم، وليس الاعتماد الاقتصادى المتبادل، أو تعميق التفاعلات والروابط الثقافية عابرة الحدود، أو نمو الشبكات والمصالح عابرة القومية، كما تذهب المدرسة الليبرالية! على الأقل على مستوى العلاقة مع إسرائيل. هذا الاستنتاج لا ينفى أن بعض الأقاليم، مثل آسيا المحيط الهادى، استطاعت تحييد أو تجميد بعض النزاعات القائمة لصالح إفساح المجال أمام إعمال مقولات المدرسة الليبرالية، حيث تم تجميد النزاع فى بحر الصين الجنوبى، وفى بحر الصين الشرقى لعدد من العقود، لمصلحة تعميق عمليات التكامل الاقتصادى والاعتماد المتبادل واستحداث الأبنية عبر الإقليمية وعبر الأقاليمية… إلخ، لكن هذه حالة لا يمكن القياس عليها؛ فأى من هذه النزاعات تختلف جوهريا عن حالة الصراع الفلسطينى – الإسرائيلى، الذى يقوم على وجود احتلال يسعى تدريجيا إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر القوة العسكرية وعلى حساب دول أخرى، وعلى حساب الأمن الإٍقليمى. بل إن قدرة دول آسيا- المحيط الهادى على تجميد هذه النزاعات بدا أن لها سقفا وحدودا، وهو ما يكشفه عودة هذه النزاعات مرة أخرى إلى الواجهة رغم «الحالة الليبرالية» التى وصل إليها الإقليم. هكذا، وفى ظل السياسات الإسرائيلية سيظل إقليم الشرق الأوسط بعيدا عما يبشر به أنصار المدرسة الليبرالية بفعل هذه السياسات، أو يجب أن يكون كذلك، لحين تسوية تاريخية عادلة للقضية الفلسطينية.