قبل شهر تقريبا وافقت مجموعة بريكس على قبول مصر عضوا جديدا بالمجموعة، فى أول عملية توسيع لعضويتها منذ عام ٢٠١٠ عندما وافقت على ضم دولة جنوب إفريقيا. وفى مارس الماضى أصبحت مصر عضوا رسميا فى بنك التنمية الجديد NDB، الذراع المالية لبريكس. سبق ذلك انضمام مصر للبنك الآسيوى للاستثمار فى البنية التحتية AIIB فى عام ٢٠١٥ كعضو مؤسس فى البنك. أضف إلى ذلك دعوة مصر للمشاركة أكثر من مرة فى اجتماعات مجموعة العشرين G20. ثم جاءت استضافة مصر أمس الأول اجتماعات البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية التحتية.
هناك قاسم مشترك بين هذه السلسلة من التطورات المهمة، تؤسس لعدد من الاستنتاجات، نرصدها فيما يلى:
أولها: أن هناك قراءة دقيقة من جانب صانع القرار المصرى، بأن تحولات هيكلية تجرى على مستوى المؤسسات والمجموعات الدولية المعنية بإدارة التفاعلات الدولية وصناعة القرارات الاقتصادية والمالية، فى اتجاه ظهور أبنية جديدة تعبر بالأساس عن مصالح الاقتصادات الصاعدة والناشئة، بجانب المجموعات والمؤسسات الدولية التقليدية التى ارتبطت بنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها مؤسسات بريتون وودز، وأن هناك مصلحة مصرية فى الالتحاق بهذه المجموعات والمؤسسات الجديدة، بحيث تكون مصر جزءا من التحولات الجارية فى بنية النظام الاقتصادى العالمى، دونما أى عداء مع الأبنية التقليدية. ففى الوقت الذى انفتحت فيه مصر على هذه المجموعات والمؤسسات المالية الجديدة، فإنها تتعاون أيضا مع صندوق النقد الدولى فى تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادى والمالى الجارية فى البلاد منذ عام ٢٠١٦. وتأتى أهمية هذه المؤسسات المالية الجديدة فى أنها تعمل وفق فلسفة مالية واقتصادية مغايرة لسياسة المشروطية السياسية والاقتصادية. وتنطلق من أنه لا يوجد نموذج تنموى واحد قابل للتعميم، ولا وصفة واحدة لمعالجة مشكلات التنمية، وأن حلول المشكلات التنموية الراهنة تأتى بالأساس من داخل الموجة الحديثة من النماذج التنموية أكثر من دول الموجة الأولى التى حققت تجاربها التنموية خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. فضلا عن إيمانها العميق بأهمية التنمية، ومن ثم فإنها تولى اهتماما كبيرا بتمويل الاستثمار فى البنية التحتية والاقتصاد الحقيقى. فى هذا السياق، أكدت معاهدة تأسيس البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية التحتية على عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأعضاء، والتى نصت على أنه لا يجوز للبنك، ورئيسه وموظفيه والعاملين به، التدخل فى الشئون السياسية لأى عضو، ولا يتأثرون فى قراراتهم بالطابع السياسى للدولة المعنية. الاعتبارات الاقتصادية فقط هى محل الاعتبار فى قراراتهم. ويجب إعمال هذه الاعتبارات بشكل محايد من أجل تحقيق وتنفيذ هدف ووظائف البنك (المادة 31/ البند 2).
ثانيها: أن هناك تقديرا دقيقا أيضا من جانب القوى الرئيسية الفاعلة فى هذه المجموعات الاقتصادية والمؤسسات المالية الجديدة لأهمية إلحاق مصر بهذه المجموعات والمؤسسات. ورغم تأثر مصر بتداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية المركبة الراهنة، فإن هذه القوى تميز جيدا بين تعقيدات اللحظة الاقتصادية الراهنة، ومقومات وأسس النمو والصعود التى يمتلكها الاقتصاد المصرى، فمثل هذه المجموعات الاقتصادية والمؤسسات المالية لا تأخذ قراراتها بناء على حسابات ضيقة أو مبالغ فيها، ولا يمكن أن تقبل فى عضويتها بدول لا تمتلك مستقبلا اقتصاديا.
ثالثها: أن مصر أضحت جزءا من فلسفة دولية مستقرة جوهرها تعميق الربط بين الأقاليم الاقتصادية من خلال تعميق ربط البنية التحتية العابرة للأقاليم. بدأت هذه العملية بطرح الصين مبادرة الحزام والطريق، والتى تقوم على تعميق الربط بين معظم أقاليم العالم، عبر شبكة معقدة من السكك الحديدية، والطرق البرية العالية الكفاءة، بجانب طرق الملاحة البحرية، وغيرها. تبع ذلك- فى إطار التنافس الدولى- طرح الولايات المتحدة ومجموعة السبع الصناعية والاتحاد الأوروبى مبادراتهم الموازية (مبادرة الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمى PGII، مبادرة إعادة بناء عالم أفضل B3W، مبادرة البوابة العالمية)، وغيرها من المبادرات الإقليمية. وقدمت مصر تجربة مهمة فى هذا المجال من خلال تركيزها خلال السنوات العشر الأخيرة على تسريع عملية تنمية البنية التحتية على المستوى الداخلى، واندماجها فى المشروعات والمبادرات الدولية، فضلا عن وقوفها بقوة وراء تعميق ربط البنية التحتية مع أقاليم شرق المتوسط، والشام، وأفريقيا. بمعنى آخر، فإن مصر لم تبد فقط تفاعلا مع هذه الفلسفة العالمية، التى أضحت جزءا من فلسفة هذه المجموعات الاقتصادية والمؤسسات المالية الجديدة، لكنها بدأت تجربتها مبكرا لتسهيل ربط الاقتصاد المصرى بالأقاليم الاقتصادية المهمة. وكان حفر قناة السويس الجديدة، والتى تم افتتاحها فى أغسطس ٢٠١٥، مؤشرا مهما على القراءة المبكرة من جانب القيادة السياسية للتحولات الجارية على مستوى طرق التجارة العالمية، ولفلسفة تعميق ربط البنية التحتية العابرة للأقاليم.
هكذا، فإن حركة مصر فى النظام العالمى بتحولاته الجارية تنطلق من فلسفة وقراءة واضحة لدى القيادة السياسية لطبيعة هذه التحولات وما تتضمنه من فرص، وهى حركة لاقت فى الوقت نفسه تقديرا مماثلا من جانب القوى الفاعلة داخل المجموعات والمؤسسات المالية الجديدة لمقومات الاقتصاد المصرى، وهو تقدير لم يكن ليتحقق لولا جهود ضخمة تمت بالفعل خلال السنوات العشر الماضية لتهيئة الاقتصاد المصرى لهذه المرحلة.