انعكست أزمة شراء تركيا لمنظومة الدفاع الجوي “S-400” الروسية على علاقتها بالولايات المتحدة منذ إعلان الأولى عن الصفقة بالعام 2017، حيث اتجهت واشنطن لفرض حزم عقابية على أنقرة، مستهدفةً وقف إتمام الصفقة أو تعطيل إدخال المنظومة للخدمة. ورغم تراجع الحديث عن تلك الأزمة لبعض الوقت، إلا أنها عادت وبقوة لصدارة الأحداث،وتصاعدت مؤخرًا الحركة داخل أروقة الكونجرس لفرض عقوبات رادعة على السلوك التركي بخصوصها؛ بعد أن كشفت تقارير عن بدء أنقرة في تشغيلها وتجريبها على أهداف أمريكية في ثلاث مناسبات حتى الآن. وأعلنت وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكية رفضها لامتلاك وتشغيل تركيا لهذه المنظومة الروسية؛ لاعتبارات متعلقة بأمن حلف الناتو. كما صدرت عدة بيانات من الكونجرس ملوحةً بالاتجاه نحو ردع أنقرة عن تهديد مصالح الولايات المتحدة بتلك الصفقة، عبر فرض عقوباتعليها، كما اتجهت دعوات لتطبيق قانون مكافحة خصوم أمريكا على تركيا.
كيف أدخلت تركيا “S-400” حيز التشغيل الكامل؟
ركزت دوائر السياسة الأمريكية على تعطيل صفقة “S-400” لتركيا، عبر التلويح بعقوبات اقتصادية وأخرى مرتبطة بالتصنيع العسكري، ولكن ذلك لم يمنع أنقرة من استلام المنظومة ونشرها في عدة مدن دون تشغيلها. لتستمر المساعي الأمريكية لإثناء “أردوغان” عن تلك الخطوة، عبر فرض حزم عقابية مؤثرة عليه، وتداول إمكانية إخضاع بلاده لقانون مكافحة خصوم أمريكا تارةً، أوعبر تقديم خطاب سياسي منخفض الحدة، وإن أكد على رفض الولايات المتحدة والناتو للصفقة.
وأكدت عدة مصادر أن تركيا قامت باستخدام المنظومة بشكل متدرج وصولًا للتشغيل الكامل، حيث كشفت تقارير إعلامية تركية عن اختبار الجيش لـ”S-400″ للمرة الأولى، في قاعدة ميرديت الجوية (نوفمبر2019). وتحدثت مصادر غربية أن تلك الاختبارات تضمنت استخدام مقاتلات طراز (F-16) الأمريكية، ما أثار جدلًا حول إمكانية حصول روسيا على أسرار المقاتلة عبر مثل تلك الأنشطة.
وتناولت تقارير حديثة عملية تشغيل رادارات المنظومة لرصد ومراقبة مقاتلات أمريكية الصنع من طراز (F-16)، كانت مشاركة بمناورات (Eunomia) في شرق المتوسط (أغسطس 2020). ما دفع دول الحلف المشاركة بتلك المناورات والولايات المتحدة للتنديد بهذه الخطوة، التي تؤكد أن أنقرة تتعمد تشغيل الـ”S-400″ لمراقبة أصول الحلف، بشكل يمنح روسيا فرصة التجسس عليها.
ومثَّل إدخال المنظومة كليةً للتشغيل (أكتوبر الجاري) تهديدًا حقيقيًا لأصول الولايات المتحدة والناتو، إذ أظهرت مقاطع مصورة عملية إطلاق صاروخ اختباريًا من المنظومة، في مدينة سينوب المطلة على البحر الأسود، بعد إعلان السلطات التركية عن تقييد الطيران والإبحار بالمنطقة لإجراء اختبارات عسكرية. وهو ما دفع الخارجية الأمريكية والكونجرس للتحرك بشكل رادع لوقف أنشطة أنقرة، وهو ما تزامن مع بروز انتقادات لتراخي إدارة “ترامب” لتفعيل عقوبات صارمة ضد الأنشطة التركية المهددة لأمن الناتو والتكنولوجيا الأمريكية.
صفقة ” S-400″ … الدوافع والتهديدات والتكلفة
أشارت عدة تقديرات إلى دوافع تركيا لحيازة منظومة “S-400″، حيث سعى النظام للبحث عن منظومة دفاع جوي بديلة لـ “باتريوت” الأمريكية، التي رفضت إدارة “أوباما” بيعها لأنقرة،بنمط يقلل تكلفة الصفقة، ويمنحها فرصة التصنيع المشترك للمنظومة. بالإضافة إلى مسعى “أردوغان” للبحث عن حليف مأمون، لا سيما بعد ظهور مواقف غير مطمئنة في أعقاب محاولة الانقلاب (يوليو2016)، وهو ما اعتقد أنه وجده في روسيا، كما ارتأىالنظام التركي أن حيازة المنظومة سيتيح له مساحة لابتزاز الناتو وواشنطن. فضلًا عن رغبة أنقرة في مواكبة نمط التسلح الإقليمي الجديد، والمعتمد على تقنيات دفاعية متقدمة والمزج التسليحي بين عدة موردين؛ لضمان استدامة الفاعلية الأمنية، وتحقيق التفوق أو التوازن بمعادلة الاشتباك المستقبلية.
وتناولت مصادر غربية أن صفقة “S-400″، واتجاه أنقرة لإدخالها للخدمة، تعزز من تهديد مصالح وأمن الكتلة الغربية؛ إذ تتصاعد مخاوفإتاحة الفرصة لتسلل موسكو لرصد ومتابعة القدرات الجوية للحلف، وحصولها على بيانات وتقارير مُحدثة حول أنشطة وتكتيكات عمل المقاتلات لاسيما طرازات (أف-16) و(أف-35)، بما يجعلها قابلة للرصد والاستهداف،وكشف نظم الاتصال والملاحة الخاصة بها. واحتمالية تسرب أسرار منظومات التصنيع العسكري لروسيا، ما يفقد -الصناعات العسكرية الغربية- قدرتها على مكافحة وردع التهديدات الروسية الناشئة. كما يسترعي اهتمام دول الحلف حالة التقارب بين موسكو-أنقرة؛ التي تُمهد لاحتمالية تحييد تركيا وقدرات الناتو المتركزة فيها حال نشوب مواجهة مُحتملةمع موسكو، في ظل التخوف من النفوذ الروسي المتزايد، وتحركه لإعادة تموضع قدراته العسكرية.
ومن المُرجح أن تواجه حزمًا من الإجراءات -ذات أثر اقتصادي- الصارمة، التي تستهدف وقف تشغيل المنظومة فوريًا. ومن أبرز تلك الإجراءات تحرك قطاع مؤثر داخل الكونجرس الأمريكي لإدراجها تحت طائلة المادة (231) بقانون مكافحة خصوم أمريكا، فضلًا عن وقف تسليم قطع الغيار للمقاتلات طراز “F-35”، واستبعاد تركيا من مجموعة تصنيعها. فيما يُتوقع أن تتجه واشنطن لإلغاء الامتيازات التجارية التفضيلية التي تستفيد منها تركيا، ما يعني أن الاقتصاد التركي سيتكبد خسائر ضخمة تناهز الـ(10) مليار دولار. بالإضافة إلى تحجيم دورها في شمال سوريا وغرب ليبيا وشرق المتوسط وجنوب القوقاز، بما يعزز نفوذ فواعل تعصف بمصالحها في تلك المناطق. نهايةً بتحميلها تكلفة إضافية في التزامات الناتو ومتطلبات المنظومة الجديدة لطبيعة عملها غير المتوافقة مع أنظمة التشغيل الحالية، ما سيتطلب تحملها لتكلفة منظومة اتصالات ورادارات جديدة تتوافق مع “أس400” ما سيخلف أزمة اقتصادية حادة لها.
سيناريوهات مُحتملة
ذهبت تركيا بورقة “S-400” إلى مستوى غير مسبوق من التصعيد بوجه الناتو عمومًا، والولايات المتحدة بشكل خاص، ومن شأن اتجاهها لاختبار وتشغيل المنظومة بشكل كلي أن يدفع بتصعيد موازٍ من تلك الأطراف، ورغم سعي الناتو وإدارة ترامب لاحتواء تركيا، إلا أن التداعيات الناتجة عن تحركات أردوغان لا تعطي حيز للمناورة والابتعاد عن فرض إجراءات وعقوبات صارمة ضد نظامه. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى أبرز السيناريوهات المحتمل أن تذهب إليها أطراف الأزمة في المستقبل القريب:
السيناريو الأول: المراوحة بين الضغط الدبلوماسي والتلويح بالعقوبات
يرتبط هذا المسار بخطورة النشاط التركي على مصالح واشنطن والناتو، وتوقيت إثارة الأزمة من حيث الاستعداد للانتخابات الرئاسية الامريكية، وهي في مجملها مرحلة لرفع سقف المواقف حيال مثل هذه الإشكاليات، وبالتالي يُمكن أن يتجه الديمقراطيون والجمهوريون لتبني مواقف حاسمة بوجه أنقرة دون نية فعلية لتنفيذ آني لتلك العقوبات. وهو سيناريو مُرجح وبقوة؛ فقد حرصت إدارة ترامب على التأكيد على رفض خطى تركيا، وأنها ستتخذ موقف رادع إذا لم تتراجع أنقرة. وعلى الجانب الاخر ستستمر عمليات التشغيل التركي للمنظومة بنمط ابتزازي للناتو، دون التمادي لمستوى يحرك الغرب لاتخاذ قرارات حاسمة تجاهها.
السيناريو الثاني: الاحتواء وخفض المواجهة
يتصل هذا المسار بعلم تركيا والناتو بحجم التداعيات التي سيفرضها تمسك الأولى بسلوكها، لذا يمكن أن تتراجع أنقرة عن تفعيل المنظومة وتشغيلها، إذا وجدت تسهيلات من الحلف تُمكنها من حيازة منظومة مكافئة كـ “باتريوت” بسعر ملائم وشراكة تصنيعية تلبي رغبتها. وستراهن تركيا في هذا المسار على استحواذ دعم الناتو لموقفها في ساحات الانخراط الخارجي، كذلك انخراطها في ترتيبات الإقليم القادمة برعاية أمريكية، وأن تكون السياسات الحالية هي مناورات من كافة الأطراف تنتهي بالوصول إلى أُسس تفاوضية جديدة. وهو سيناريو مُرجح؛ إذ تعلم تركيا أهمية شراكتها مع الناتو رغم الأحداث السابقة؛ لظروف الحالة الاقتصادية والأمنية للبلاد، كما يُدرك الناتو وواشنطن خطورة فقدان الشراكة التركية لصالح موسكو.
السيناريو الثالث: التصعيد واحتدام الصدام
يتعلق هذا المسار بتمسك الحلف والولايات المتحدة بالتصعيد عبر فرض عقوبات اقتصادية أشمل على أنقرة، وإمكانية ادراجها بقائمة الدول المعاقبة بقانون “خصوم أمريكا”. وهو سيناريو أقل ترجيحًا؛ حيث ترغب كافة الأطراف في خفض التصعيد والإبقاء على تركيا كحليف، وإبعادها عن التحالف مع موسكو، وهو ما يتسق مع تصريح رئيس الأركان العامة الأمريكية، الجنرال جوزيف دانفورد “نسعى لقطع مسافة مع تركيا بخصوص الجدل الدائر حول منظومة الصواريخ “إس-400” وطائرات إف-35) ونأمل في التوصل لاتفاق معها”، إلى جانب حديث “ترامب” عن أن دوافع أنقرة نبعت من قصور سياسات إدارة “أوباما”، ويُشار في هذا السياق إلى عدم تقدم خطى أوروبا لفرض عقوبات على تركيا بصدد سلوكها في شرق المتوسط بشكل حاسم حتى الآن.
وختامًا، يمكن القول أن تشغيل أنقرة لمنظومة “S-400” قد صار ورقة لابتزاز الغرب أكثر منه خيار استراتيجي لأمن تركيا، وتعي كل الأطراف حدود توظيف هذه المنظومة في هذاالسياق، وأن تمادي مستويات استخدامها بشكل أوسع سيدفع بالولايات المتحدة والناتو لاتخاذ إجراءات ستؤثر على هيكل الاقتصاد التركي، ومصالحها الإقليمية. لذا فمن المُرجح أن تظل المنظومة الروسية في المستقبل القريب ورقة ضغط محدودة الاستخدام، وإذا ما حدثت تفاهمات تركية-أمريكية حيالها، يمكن أن تصبح “S-400” قضية خلافية بين أنقرة وموسكو. وفي كل الأحوال، فان اختيار النظام التركي للدخول إلى مرحلة الابتزاز الأمني للحلف هو سلاح مزدوج التهديد، فمن جانب يمكن أن يحقق له مبتغاه من الناتو والولايات المتحدة أو من روسيا، وعلى الجانب الاخر سيكلفه فاتورة اقتصادية -ثمن المنظومة أو عقوبات تتصل بها- وفاتورة دبلوماسية قد تقضي على ما تبقى له من مساحات للمناورة شرقًا وغربًا.