تتواصل الاختبارات لما تراه روسيا “شراكة استراتيجية” مع تركيا وليس تحالفًا استراتيجيًّا. هذا على الرغم من أن هذه الشراكة مبنية بالدرجة الأولى على العداء للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، واستخدام كل طرف للآخر كورقة ضغط إقليمية ودولية لتحصيل أكبر قدر من المكاسب. ولا شك أن التعاون بين موسكو وأنقرة بشكل براجماتي تمامًا في سوريا، فتح المجال لتعاونهما في ليبيا على الرغم من التصريحات المتناقضة التي يُطلقها كلا الطرفين، إذ يسير كل منهما خلف مصالحه حصرًا، ويستخدم كل الأوراق الممكنة للضغط على الأطراف الأخرى (دول الجوار الليبي، ودول جنوب أوروبا، والعديد من الدول الإفريقية، ودول الخليج العربي). وبمجرد اندلاع الحرب بين أرمينيا وأذربيجان حول منطقة ناجورنو كاراباخ، ظهرت إمكانيات أخرى للتعاون.
تعاون حذر
تحمل التصريحات الروسية والتركية، سواء بخصوص سوريا أو ليبيا أو ناجورنو كاراباخ، الكثير من الرسائل لأكثر من طرف. وتسعى كل من موسكو وأنقرة إلى اتّباع نموذج تعاون يفصل بين الملفات والقضايا، والحفاظ دومًا على “شعرة معاوية”، وعدم الانزلاق إلى مواجهات مباشرة أو الوصول إلى تعاون كامل قد يكون سببًا لانقلاب وتحول هذا الشريك أو ذاك الحليف على أي منهما. وعلى الرغم من فشل الوساطة الروسية الأولى بين أرمينيا وأذربيجان، فقد أشاد الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” والرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، خلال اتصال هاتفي، يوم 14 أكتوبر 2020، بالتنسيق الفعال بين روسيا وتركيا بشأن الملفين السوري والليبي. وأكد الرئيسان أن هذا التنسيق هو الذي يضمن استقرار الأوضاع في كلٍّ من سوريا وليبيا.
هذه الإشادة الغريبة تُلقي بعض الضوء على حيثيات نشوب المعارك بكل هذه الحدة بين أرمينيا وأذربيجان، وفشل الوساطات، وتباطؤ مجموعة مينسك في التعامل مع هذا الملف. لقد تطرق “بوتين” و”أردوغان” في حديثهما إلى الوضع في ناجورنو كاراباخ. وقال الكرملين إن “الوضع نوقش في منطقة نزاع ناجورنو كاراباخ بالتفصيل، وأكد الجانبان أهمية الالتزام بالهدنة الإنسانية التي تم التوصل إلى اتفاق بشأنها في 10 أكتوبر في موسكو”.
إن “أردوغان” يقرأ رغبات وطموحات “بوتين”، ويفتح أمامها القنوات، ويساعده على تحقيقها مقابل أن يبادله “بوتين” ذلك في بعض الملفات، وعلى رأسها دعمه ضد أوروبا والولايات المتحدة، وتوسيع التعاون الاستخباراتي، لكي لا يتعرض “أردوغان” مجددًا لانقلابات جديدة. بينما يعطي “بوتين” انطباعًا للشرق والغرب بأنه غير راضٍ عن سياسات “أردوغان” ولا خطواته تجاه بعض دول شمال إفريقيا والخليج. لكنه -من جهة أخرى- ينسق مع “أردوغان” في سوريا وليبيا، وفي كارباخ مؤخرًا. ومن الواضح أن أنقرة ترى أن التناقض في المصالح مع موسكو في هذا الملف أو ذاك لا يفسد للود قضية، فمن الممكن تجميد الأوضاع للحفاظ على توازن هش وعلاقات هشة في ملف معين، أو فرض شكل من أشكال التعاون يحافظ على مصالح الطرفين الاقتصادية والجيوسياسية، ويحفظ لكل منهما ماء وجهه أمام شركائه وحلفائه. ومثال تعاونهما في سوريا يمكن أن يكون نموذجًا لهذه السياسة.
إن روسيا وتركيا تنسقان في سوريا وليبيا وناجورنو كارباخ. وروسيا تعمل مع كل من إيران و”بشار الأسد” و”حزب الله”، وفي الوقت نفسه تعمل مع إسرائيل. كما تعمل مع “أردوغان” ومع “الأسد” في وقت واحد. كما تعمل مع “أردوغان” كشريك استراتيجي (وفقًا لتوصيف وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف”) وفي الوقت نفسه مع حكومتي مصر والإمارات وتمدهما بالأسلحة و”اللقاحات”، وتشيِّد معهما آفاقًا مستقبلية للتعاون في مجالات حيوية مهمة.
حليف غير استراتيجي
أما تصريحات وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” بشأن الشراكة الاستراتيجية مع تركيا، فقد كانت مهمة وخطيرة. هذه التصريحات لها معانٍ مهمة للغاية، وتنطلق من مواقف عملية وواقعية على الأرض بالنسبة لروسيا. لقد أكد “لافروف” أن بلاده لا تعتبر تركيا “حليفًا استراتيجيًّا”، على الرغم من أهمية الشراكة الوثيقة بين الدولتين في مسائل مختلفة. وقال “لافروف”، في حواره مع محطات إذاعية روسية: “لم نصنف تركيا حليفًا استراتيجيًّا لنا، بل هي شريك وثيق جدًّا”. وأشار إلى أن الشراكة بين موسكو وأنقرة تحمل “طابعًا استراتيجيًّا” في كثير من الاتجاهات، لافتًا إلى مساعي الطرفين الرامية إلى تسوية النزاعين في سوريا وليبيا وتقديم مصالحهما هناك.
هذا التوجه الروسي الذي بدأ عمليًّا منذ عام 2012 على يد أحد نواب وزير الخارجية الذي عمل سفيرًا لروسيا في كل من إسرائيل ومصر، يعتمد بالدرجة الأولى على امتلاك علاقات متشعبة ومتعددة المستويات في كل الملفات مع كل الأطراف بصرف النظر عن عدم رضا هذا الطرف أو ذاك. أي ببساطة، لن تدافع روسيا عن أحد إلا بمقابل تفرضه هي، ولن تفسد علاقاتها مع طرف لصالح طرف آخر إلا وفق اتفاقات تتضمن مصالح متعددة، ولا يستطيع أحد أن يحدد هذه المصالح إلا موسكو نفسها انطلاقًا من مصالحها القومية والوطنية حصرًا. وبالتالي، فروسيا تمنح نفسها مساحات واسعة للمناورة ارتكازًا إلى أوراق ضغط، ومغازلات سياسية واقتصادية، وأسافين أمنية واستخباراتية. هذا التوجه يمتلك جدوى وأهمية ويعمل بشكل جيد مع دول مثل تركيا ومصر والإمارات والسودان ولبنان والعراق والأردن والسعودية، ومع أنظمة وتنظيمات مثل “بشار الأسد” و”حزب الله” و”حماس” والحوثيين. ولكن يتوقف مفعول هذا التوجه وينهار تمامًا أمام دول مثل إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوروبية، حيث تشعر روسيا دومًا بعدم جدوى سياساتها، وافتقارها للأوراق والأدوات القوية.
في ضوء هذا التوجه الروسي، قال وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” إن كثيرًا من دول المنطقة، بما فيها تركيا وإيران والإمارات وقطر، تملك مصالح خارج حدودها، مشددًا على أن الأمر الأهم هو ضمان شفافية الجهود الرامية إلى تقديم هذه المصالح في دول أخرى. وتابع: “أما بخصوص سوريا، أعتقد أن مثل هذه الشفافية تم توفيرها هناك، وعلى الرغم من أن العسكريين الأتراك متواجدون في الأراضي السورية دون دعوة الحكومة الشرعية، فقد قَبِلَ وأيد الرئيس الأسد وحكومته إنشاء صيغة أستانة، ويشاركون في تطبيق المبادرات المطروحة من قبل الدول الثلاث الضامنة، ومن هذه الناحية تحظى الشراكة بين تركيا وروسيا وإيران بأهمية بالغة، وهي أتاحت تقليص رقعة الأراضي التي كانت خاضعة فعلًا لسيطرة الإرهابيين قبل إنشاء منطقة خفض التصعيد في إدلب”.
وأقرّ الوزير الروسي بوجود خلافات ملموسة بين بلاده وتركيا بشأن قضية ناجورنو كاراباخ، قائلًا: “نعارض الموقف الذي طرحته تركيا وأعلنه رئيس أذربيجان إلهام علييف مرارًا، وهذا ليس سرًّا. لا يُمكننا أن نؤيد التصريح الذي ينصّ على أن الحل العسكري للنزاع موجود ومقبول، وتُصر موسكو على الموقف القاضي بأنه لا يمكن تسوية نزاع كاراباخ إلا بالطرق السلمية”. وبطبيعة الحال، شدد “لافروف” على ضرورة أن “تكون تصرفات تركيا في كاراباخ شفافة مثلما كانت في سوريا”.