أعلن وزير الخارجة المصري السيد بدر عبد العاطي في لقاء تلفزيوني تم بُثه يوم السبت 18 يناير عن سعي مصر عقد مؤتمر دولي لحشد جهود إعادة إعمار غزة فور تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار؛ حيث يعاني القطاع الآن من حالة دمار قاسية لم تشهدها البشرية في أي صراع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نتيجة للعدوان الإسرائيلي الغاشم على المواطنين الفلسطينيين العُزل، والذي استمر لأكثر من 460 يومًا.
تأتي المبادرة المصرية لعقد هذا المؤتمر في خضم احتياج قطاع غزة إلى تضافُر الجهود الإقليمية والدولية بهدف تسريع عمليات إعادة الإعمار، التي تشير تقديرات إلى أنها قد تستغرق أكثر من أربعين عامًا، وقد تتكلف ما يزيد على 40 مليار دولار أمريكي، وهو ما يجاوز الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني في الضفة وغزة مجتمعتين بأكثر من 229%.
يستدعي الموقف الإنساني الضاغط والتحدي التنموي الهائل، إجراء كل دولة راغبة في المشاركة بمجهودات إعادة إعمار غزة المنتظرة تقيمًا شاملًا لإمكاناتها المتاحة، كي تسهم بأقصى قدر من الفاعلية في تلك المهمة التاريخية غير المسبوقة إقليميًا، جنبًا إلى جنب مع باقي الدول المشاركة، متوحدين تحت مظلة تنسيق توفرها المنظمات الأممية المختصة والسلطة الفلسطينية الشرعية.
لن تتأخر مصر عن بذل كل ما هو متاح لعون للأشقاء في قطاع غزة؛ حيث ستستخدم مختلف قدراتها وخبراتها وأدواتها التنموية؛ كي تشارك بشكل فاعل في إعادة تأهيل مجموعة من القطاعات الحيوية التي نال منها الخراب على مدار أربعة عشر شهرًا.
أولًا: الدراسات والتخطيط
أشار تقدير أممي صدر في سبتمبر 2024 إلى تسبُب الحرب الأخيرة في تدمير ما نسبته 66% من إجمالي المباني في قطاع غزة؛ مما أدى إلى تشريد 1.9 مليون من مواطني غزة، وحرمانهم من المأوى والخدمات الأساسية التي يستحيل معها استمرار الحياة في القطاع. تستدعي تلك الأزمة المركبة عمل مجموعة دراسات دقيقة لاستطلاع وتقييم حالة القطاع، بهدف وضع سيناريوهات التعامل المثلى مع مختلف الملفات التنموية الرئيسية، ومنها مثالًا تشييد المرافق والبنى التحتية، وبناء المآوي المؤقتة والمساكن الدائمة، وإعادة تشكيل منظومة التنقل الحضري، وقبل كل شيء إزالة الأنقاض بما يتيح إعادة تخطيط القطاع.
يمكن لمصر في هذا الصدد بأن تدفع بالمكاتب الاستشارية الوطنية ذات الخبرة المحلية والدولية في مجالات تخطيط التجمعات السكنية الجديدة وإعادة تخطيط التجمعات السكنية العشوائية؛ حيث نجحت الكوادر المصرية على مدار العقد الماضي في وضع تصوراتها لتشييد أربع وعشرين مدينة جديدة، كما رسمت برنامجًا متكاملًا لاستبدال 356 منطقة عشوائية خطرة ومحرومة من الخدمات الضرورية، بمناطق أخرى تراعي المتطلبات الآدمية للمواطنين.
ثانيًا: إزالة الأنقاض والمتفجرات
خلفت الحرب ما بين 40 إلى 50 مليون طن من الركام في شتى أنحاء القطاع، وتشير تقديرات الأمم المتحدة في هذا الصدد إلى أن عمليات إزالة الركام ستستغرق أكثر من عشرين عامًا، ولن تكون مهمة تطهير القطاع يسيرة أو تقليدية، حيث تختلط بنايات غزة المنهارة ببقايا الآلاف من الجثث المتحللة، وآثار المواد الكيمياوية الخطرة كالفسفور الأبيض والأسبستوس، بالإضافة إلى احتمالات وجود ستة آلاف طن من الذخائر غير المُتفجرة بين الأنقاض وتحت الأرض.
لشركات المقاولات المصرية خبرة سابقة في إزالة أنقاض المباني المدمرة بغزة، بعد وقف العدوان الإسرائيلي على القطاع في مايو 2021، الذي خلف 270 ألف طن من الحطام، ويمكن لتلك الشركات أن تعيد الكَرّة على نطاق أوسع، لكن لا بد وأن تساندها أفرقة خاصة باكتشاف وإزالة الأجسام المتفجرة، وأفرقة للتطهير البيولوجي والكيميائي. لمصر خبرة واسعة في هذين الملفين؛ حيث نجحت من قبل في التعامل مع ملايين الألغام والمقذوفات الحربية بالساحل الشمالي الغربي وسيناء، كما تجمعت لها خبرات مهمة في تطهير المناطق العامة والمباني خلال ذروة انتشار فيروس كورونا.
ثالثًا: البنية الأساسية والمرافق
انهارت منظومات البنية الأساسية في أغلب أرجاء قطاع غزة في أثناء الحرب الأخيرة نتيجة للتخريب الإسرائيلي المتعمد ضدها، كجزء من توجه الأخيرة جعل القطاع غير قابل للحياة استعدادًا لدفع سكانه للرحيل؛ حيث تسبب هذا التخريب في تقليص إمدادات المياه الواصلة للمواطنين بنسبة 90%، وإبطال نشاط محطات معالجة الصرف بنسبة 100%، وإغراق غالبية مناطق القطاع في ظلام دامس، وتدمير 68% من شبكة الطرق البرية، فضلا عن منع إيصال 80% من النفايات إلى المكبات الصحية.
تستطيع مصر أن تسهم في ملف البنية الأساسية عن طريق إعادة تشييد شبكات الطرق ومحطات معالجة الصرف وتحلية وتنقية مياه البحر والآبار المدمرة، بالإضافة إلى مد شبكات مياه الشرب والصرف الصحي، وستستند مصر في هذا الملف إلى خبرتها في تنفيذ البرامج التنموية المشابهة، خاصة في المناطق الحضرية والريفية الأشد حرمانًا واحتياجًا، مثل المشروع القومي لتطوير قرى الريف المصري، الذي استهدف في مرحلته الأولى تنفيذ المئات من مشروعات البنية الأساسية الخادمة لثمانية عشر مليون نسمة على مستوى 1477 قرية.
رابعًا: الإيواء والإسكان
كشفت تقديرات أممية حديثة عن صول نسبة الدمار الكلي أو الجزئي بين منازل القطاع إلى 92%، ليطال الدمار بذلك ما يقارب على 436 ألف منزل، ومتسببًا في تشريد 90% من سكان القطاع، الذين اضطروا لسكنة تجمعات خيام ومبانٍ غير مُجهزة وغير صحية؛ مما أدى إلى انتشار الكثير من الأمراض المعدية بينهم، وأدى في بعض الحالات لحدوث وفيات بين الرضع غير القادرين على مقاومة قساوة الظروف المناخية ورداءة حال مواقع الإيواء الاضطرارية.
يمكن لمصر في هذا الإطار أن تتحمل جزءًا من المهمة العاجلة لبناء معسكرات الإيواء المُؤقتة، المُجهزة بأنواع الخِيام التي تعتمدها المنظمات الأممية، مع توفير المرافق الداعمة الضرورية من مقرات إدارية ومواقع تجارية وخدمية ودورات مياه ومغاسل، بما يتلاءم مع تعداد واحتياجات قاطني كل معسكر، كما يمكن أن يكون لمصر لاحقًا دور مهم في بناء المساكن الجديدة أسوة بمشروعاتها الوطنية الناجحة لبناء التجمعات السكنية منخفضة التكلفة والمعروفة محليًا باسم مشروعات الإسكان الاجتماعي.
خامسًا: الصحة العامة والدعم النفسي
واجهت المنظومة الصحية في قطاع غزة كارثة إنسانية قلما سُجل نظير لها في أي ساحة صراع على مستوى العالم، فلقد تعرضت غالبية مستشفيات القطاع لهجمات حربية كان هدفها ترويع وإصابة المرضى والأطقم الطبية؛ مما تسبب في خروج نصفها عن الخدمة التامة، فيما استمر النصف الآخر من المستشفيات في تقديم بعض من خدماتها رغمًا من دمارها الجزئي، إلى جانب ذلك توقفت 62% من مراكز الراعية الأولية عن تأدية مهامها تبعًا لحالات الاستهداف المتعمدة ونقصان الكوادر والمعدات والمؤن الطبية.
أدى التداعي الصحي لتباطء تقديم الخدمات الطبية الأساسية لكافة مرضى القطاع، خاصة المصابين منهم بعاهات مستديمة، والمقدرة نسبتهم بحوالي 25% من أجمالي مصابي الحرب البالغ عددهم الإجمالي 105 آلاف مصاب، فيما يعاني اثنا عشر ألف مصاب بسبب انتظارهم للإجلاء الطبي الضروري إلى الخارج؛ حيث لا تتوفر مقومات علاج حالاتهم الحرجة في مستشفيات القطاع المدمرة.
من الممكن لمصر أن تشارك في عدد من المسارات الطبية المتوازية بهدف تخفيف العبء الصحي عن سكان القطاع؛ حيث تستطيع تشييد عدد من المستشفيات والعيادات الميدانية، وذلك بالتنسيق مع منظمة الصحة العالمية والأونروا ومنظمات دولية ذات صلة كي تتكامل مع شبكة المستشفيات الميدانية التي ستشيدها باقي دول العالم المسهمة، كما باستطاعتها أن تتحمل علاج جزء من قائمة مرضى الحالات الحرجة المنتظرين داخل القطاع، وأن تشيد بعض مراكز صناعة الأطراف الصناعية، فضلًا عن توجيه أطقم متخصصة في الدعم والعلاج النفسي من الممارسين وطلبة الكليات ذات الصلة لتقديم المعونة لمئات الآلاف من المرضى والأطفال الذين تأثروا بويلات الحرب الغاشمة.
سادسًا: التعليم والثقافة
سجلت الإحصاءات الأممية حتى سبتمبر الماضي إصابة أكثر من 87% من مدارس القطاع بحالة دمار حادة، فيما أصُيب باقي المدارس بإصابات متوسطة وخفيفة، هذا ما يحرم 625 ألف طفل من تلقي حقهم الإنساني في التعلم، بالإضافة إلى أكثر من 88 ألف طالب جامعي هُدمت أغلب كلياتهم بشكل شبه تام أو جزئي، ولم يسلم ملفا التراث والثقافة من تداعيات العدوان؛ حيث سجلت بعض الإحصاءات تدمير أكثر من 60% من المواقع التراثية في عموم قطاع غزة، بالإضافة إلى تدمير اثني عشر متحفًا أثريًا وتراثيًا، وأربعة وأربعين مركزًا ثقافيًا ومكتبة عامة.
تستدعي الأزمة التعليمية والثقافية الراهنة إسهام مصر في بناء مقرات تعليمية مؤقتة لتلاميذ المدارس وطلاب الكليات النظرية كي لا يفوتهم عام دراسي آخر، فيما يمكن استقبال طلاب وأساتذة الكليات العملية في إحدى الجامعات المصرية التي تتوافر لديها تجهيزات وقاعات كافية للطلبة الفلسطينيين الوافدين. كما تستطيع مصر أن تدفع ببعض من خبرائها الثقافيين ومرمميها الآثرين كي يشاركوا نظراءهم من اليونيسكو في صيانة وإعادة تشغيل المواقع التراثية والمتاحف والمراكز الثقافية والمكتبات التي طالتها نيران المدافع، فضلًا عن إرسال قوافل الدعاة من رجال الدين الإسلامي والمسيحي.
سابعًا: القطاع الإنتاجي
فقد قطاع غزة خلال عام الحرب أكثر من 67% من أراضيه الزراعية، كما تضررت البنية التحية الزراعة من آبار ري وصوب زراعية بنسبة 48%، فضلًا عن خسارة أغلب رءوس الماشية، ومعظم قوارب الصيد البحرية الراسية بميناء غزة، فيما شهدت الأنشطة الصناعية والخدمية بالقطاع حالة تعطل شبه تامة نتيجة لاستهداف جيش الاحتلال للمنطقة الصناعية الوحيدة بالقطاع، وإغلاق المصارف والشركات لأبوابها نتيجة للأعمال العسكرية والسرقات.
يجب في هذا الإطار أن ينصب اهتمام الدول المشاركة في عمليات إعادة الإعمار، من بينها مصر، على إعادة استصلاح الأراضي الزراعية المدمرة واستخدام التكنولوجيات الحديثة الموفرة للمياه في ريها، ودعم المواطنين المحليين لإعادة تشغيل مؤسسات الإنتاج الحيواني والداجني والمزارع السمكية، فضلًا عن تشييد المجمعات الصناعية لإنتاج السلع الاستهلاكية المطلوبة بشكل يومي، ودفع قطاع البناء الذي سيستفيد خلال السنوات القادمة من تشغيل أنشطة إعادة تدوير نواتج الركام، وتشييد المنشئات الجديدة، ومن شأن تلك الجهود أن تحدث انتعاشة سريعة في الحركة الاقتصادية لغزة ؛مما قد يسهم في تعافيها بشكل سريع من آثار الحرب الأخيرة.
ثامنًا: تقوية المنظومة الأمنية
انتشرت على مدار أيام الحرب عصابات إجرامية تخصصت في السطو على قوافل المساعدات الإغاثية وممتلكات المواطنين مستفيدة من حالة الانفلات الأمني التي تسببت فيها الحرب، وربما متعاونة مع قوات الاحتلال التي أرادت وضع العراقيل أمام وصول الغذاء والمياه للفلسطينيين العزّل إمعانًا في تعذيبهم، ومن المحتمل أن تستمر تلك العصابات في نشاطها الإجرامي حال استمرار ضعف جهاز الشرطة المدنية في غزة.
يستدعي هذا التحدي أن تمد الدول الداعمة لإعادة الإعمار يد العون للسلطات الفلسطينية الشرعية بهدف تدريب وصقل مهارات وتسليح العناصر الشرطية الفلسطينية كي تحكم قبضتها على المجرمين والمخربين، فضلًا عن الاضطلاع بدورها الرئيس في حراسة الحدود ومنع عمليات التهريب من وإلى القطاع.
ختامًا، يمكن الإيجاز بأن الأيادي المصرية ستكون حاضرة في أغلب ملفات إعادة البناء والتنمية التي يُنشدها الأشقاء في غزة، ومن الضروري البدء فورًا في التخطيط لمشاركة مصر في الإسهام في إعمار قطاع غزة، للانتقال فورًا إلى مرحلة التنفيذ ما إن تسمح الظروف الأمنية والسياسية بذلك. فجوار مصر الجغرافي مع القطاع، وما لدى مصر من خبرات وقواعد صناعية وإمكانات بشرية وفنية قادرة على توفير كافة متطلبات تلك المهمة، يؤهلها لتقديم إسهام رئيسي لمساعدة الأشقاء في غزة في مرحلة ما بعد الحرب.
باحث أول ببرنامج السياسات العامة