مرّ قطاع النفط الليبي منذ 2011 بهزات مدوية لم يتمكن من تجاوز أي منها بشكل تام؛ كون تعافيه مؤقتًا من أية أزمة لا يلبث أن يتدهور باشتعال إشكالية أكبر. ولعل محورية القطاع وعوائده جعلته في صدارة المستهدفات بين الأطراف المتصارعة بتعاقب المراحل الانتقالية؛ إذ تمثل عوائد النفط قُرابة (95%) من إيرادات الدولة، ما استدعى إيجاد آليات لتحييد المنشآت النفطية وإدارتها بعيدًا عن التجاذبات الدائرة. إلا أن تصاعد إشكالية إدارة عوائد النفط الليبي، بين المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، تؤشر إلى احتمالية تدهور الأوضاع ونشوب أزمة تُلقي بتأثيرات سلبية على حالة محاولات اختراق الأزمة السياسية في ليبيا، وتمس سلامة عمل القطاع وحياده عن المشهد المضطرب.
أزمة في خضمّ التعافي
عاود قطاع النفط الليبي التعافي مؤخرًا بعد توقيع اتفاق بين الجيش الوطني ونائب المجلس الرئاسي “أحمد معيتيق” (24 سبتمبر 2020)، بعد حوالي (9) أشهر من الإغلاق، وهو ما اقترن بمجموعة من الضوابط في مقدمتها تشكيل لجنة تدير عوائد النفط بشكل عادل بين أقاليم الدولة، وضمان عدم توظيفها لدعم الإرهاب أو تعرضها لعمليات السطو والنهب كضمانات لمواصلة عمليات الإنتاج والتصدير. كما تضمن الاتفاق تجميد عوائد النفط بحساب المصرف الليبي الخارجي، لحين توافق اللجنة على آلية التوزيع العادلة. ورغم معارضة العديد من قوى المنطقة الغربية للاتفاق، فإنه دخل حيز النفاذ لتتجاوز الصادرات النفطية الليبية عتبة الـ(1.2) مليون برميل يوميًا.
وأصبح لدى المؤسسة الوطنية للنفط اتجاه لتعويض فترة انقطاع الإنتاج والتصدير، إلى جانب مشاركتها بجولة الحوار الأممي لإعادة هيكلة قوة حرس المنشآت النفطية (16 نوفمبر 2020)، لتظهر جدية التزامها بتحييد القطاع عن مجريات الصراع وفقًا لشروط اتفاق فتح النفط. وقد أنتج الاتفاق تيارًا متوجسًا من تداعيات هذه السياسات على مصالحه المتعلقة باستمرار الاعتمادات المالية لرجال أعمال وشركات ومجموعات مسلحة نص الاتفاق على وقفها. كما مثلت هذه السياسات مدخلًا لتهيئة المجال لنفوذ إضافي لسلطة رئيس المجلس الرئاسي “فائز السراج”، الذي وجدها ملائمة لتقييد حركة محافظ المصرف المركزي (الصديق الكبير)، بعد تكرار جولات الصدام الحاد بينهما حول الترتيبات المالية.
وبدأت ملامح الأزمة مع إصدار المجلس الرئاسي قرارًا بتشكيل جمعية عمومية تتولى تسمية مجلس إدارة المصرف الخارجي (16 نوفمبر 2020)، وهو ما اعتبره محافظ المصرف المركزي محاولةً لتحييده عن إدارة المصرف الخارجي وعوائد النفط، وصرح بأن القرار “تجاوز للسلطات”، وحمّل رئيس المجلس الرئاسي “المسئولية القانونية عن الأضرار التي ستلحق بالمصرف الليبي الخارجي”. كما أصدر محافظ المركزي بيانًا (19 نوفمبر 2020) وصف فيه بيانات المؤسسة بأنها “غير دقيقة”، وأشار لوجود “تلاعب” في بياناتها منذ عدة أعوام، مطالبًا بمراجعتها والتحقق منها.
وردت مؤسسة النفط ببيان (22 نوفمبر 2020) وصفت فيه بيان المركزي بـ”الكيدي والمليء بالمغالطات”، وحذرت من أنها ستلجأ إلى سلطة الادعاء العام، إذا لم يصحح المصرف بيانه فورًا، واتهمت المركزي بـ”عدم الالتزام بالشفافية والإفصاح عن مصروفات الدولة، ما خلق مناخًا مناسبًا لإقفال النفط”. ولم يقف الأمر عند ذلك، حيث قامت ميليشيات مسلحة بمحاصرة مقر المؤسسة الوطنية للنفط (23 نوفمبر 2020)، وحاولت اقتحام المبنى قبل أن تتصدى لها قوة التأمين وتسيطر على محيط المؤسسة.
كما أصدر محافظ البنك المركزي بيانًا (26 نوفمبر 2020) اتّهم فيه رئيس المؤسسة الوطنية للنفط “مصطفى صنع الله” بمخالفة المؤسسة التشريعات النافذة، وعدم توريد 3.2 مليارات دولار من الإيرادات النفطية إلى الخزانة العامة، وأن المراجعة أظهرت عدم توريد المؤسسة بعض إيرادات النفط لسنوات. ليخرج رئيس المؤسسة بكلمة مصورة (29 نوفمبر 2020) أكد فيها أن سياسات المركزي أدت إلى إهدار مليارات الدولارات، وأن المؤسسة لن تقوم بتوريد العوائد النفطية إلا بعد مكاشفة المصرف بأوجه إنفاق العوائد التي بلغت (186) مليار دولار خلال تسع سنوات.
دوافع إثارة إشكالية العوائد النفطية الآن
- مساعي إسقاط اتفاق النفط: أدركت كتلة الإخوان بغرب ليبيا أن اتفاق فتح النفط (سبتمبر 2020) قد أحدث اختراقًا مؤثرًا لهيمنتها على إدارة عوائد النفط، وهي مليارات عوضت افتقادها للأرضية السياسية؛ إذ مكنتها من تدعيم شبكة تحالفاتها بالداخل مع المجموعات والميليشيات المسلحة، إلى جانب أنها ورقة ربحت بها دعمًا عسكريًّا تركيًّا كبيرًا حال دون سقوط مواقع سيطرتها بأيدي الجيش الوطني، بالإضافة لكونها ورقة ضغط مكنتها من إضعاف هياكل السلطة بالمنطقة الشرقية والجنوبية بعد قطعها لمخصصات تلك الأقاليم. لذلك تستهدف جماعة الإخوان ومن في فلكها من ميليشيات الضغط على المجلس الرئاسي ومؤسسة النفط لخرق اتفاق النفط، وعودة إدارة العوائد حصريًا بأيدي المصرف المركزي الذي يسيطر عليه رجال التنظيم، استباقًا لتشكيل لجنة إدارة عوائد النفط التي ستنهي سيطرة الإخوان على المورد الحيوي.
- تجدد صراع قوى الغرب الليبي: تَظهر الأزمة الحالية كفصل جديد من الصراع الدائر بين أجنحة حكومة الوفاق، التي وصلت ذروتها حين أحال “فائز السراج” وزير داخليته “فتحي باشاغا” للتحقيق (أغسطس 2020)، ويتبلور الخلاف الآن في رغبة “السراج” في إحكام سيطرته على المؤسسات المالية؛ ليظل حاضرًا بقوة في مستقبليات التسوية، بعد تراجعه عن الاستقالة التي أعلن أنها ستدخل حيز النفاذ فور التوافق على هيكلة الأجسام الانتقالية وإجراء انتخابات جديدة. فيما ترغب كتلة الإخوان، ورجال مدينة مصراتة والتيارات الموالية لأنقرة، في تحقيق تمدد إضافي بالترتيبات القادمة، والسيطرة على مفاصل الدولة القائمة، وهو ما لا يتلاقى مع رغبات وتحركات رئيس المجلس الرئاسي في توسيع صلاحياته ونفوذه بالملف الاقتصادي، لا سيما مع تعيينه وزير مالية جديدًا اعتبرته بعض أجنحة الوفاق محاولة للتقارب مع المنطقة الشرقية، ثم محاولة إبعاد محافظ المركزي عن إدارة المصرف الليبي الخارجي، وصولًا للتلويح بقطع تدفقات عائدات النفط عن المؤسسات القابعة تحت سيطرتهم التي تمدهم بالاعتمادات الدولارية دون رقابة.
- استباق عمليات التدقيق المالي: وفقًا لمخرجات المسار الاقتصادي، تتجه البعثة الأممية لتفعيل عمليات تدقيق بأنشطة المصرف المركزي وفرعيه (طرابلس والبيضاء)، والعديد من المؤسسات المالية الليبية، وهو ما سيكشف عن مدى التزامها من عدمه بحفظ أموال الليبيين. لذلك تحاول بعض هذه الجهات إثارة إشكاليات تبرئة ساحتها مما قد تكشفه نتائج المراجعات، عبر تصعيد قضايا واتهامات طالما كانت بحوزتها أدلة على أنها تشكل خروقات جسيمة في أعمال المؤسسات الأخرى. وهو ما برز في اتهام المصرف المركزي للمؤسسة النفطية بالتلاعب بالبيانات، ووجود ملايين الدولارات لم تورد من حساب مبيعات النفط، واتهام المؤسسة للمركزي باحتساب الرواتب بأسعار صرف الدولار غير الرسمي، ثم صرف مستحقات العاملين استنادًا لسعر صرف أقل بكثير.
ملاحظات ختامية
- إن النزاع على إدارة العوائد النفطية قد جرى حصره بين المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي، وتراوحت لغة الخطاب فيه بين التمسك بالأُسس القانونية واستدعاء مشاعر وعواطف الليبيين الذين يعانون من أزمة دقيقة، وقد نجح رئيس الوطنية للنفط “مصطفى صنع الله” في تحريك الموقف ضد سياسات المصرف المركزي وداعميه، وهو اختراق يُعد نجاحًا لتيار “فائز السراج”، ولكنه يهدد بمزيد من الاستقطاب والتأزم داخل الوفاق وقوى غرب ليبيا.
- إن صراع أجنحة الوفاق للسيطرة الاقتصادية يهدد بدخول الميليشيات على خط الأزمة، وبوادر ذلك كانت مع محاولة مجموعة مسلحة لاقتحام مقر المؤسسة الوطنية للنفط، وهو ما يؤكد أن غياب الحسم بالمسار السياسي، وعدم الاتفاق على ملامح المرحلة الانتقالية؛ سيؤدي لنشوب صراعات بالمنطقة الغربية قد تُفقد الحوار السياسي جدواه، وتنتج معادلة تدفع لإغلاق الحقول النفطية مجددًا، وإن كان ذلك خيارًا بعيدًا بالوقت الراهن.
- إن دعوة رئيس المجلس الرئاسي “فائز السراج” لاجتماع طارئ لبحث تداعيات هذه الأزمة تؤكد تحركه نحو إثبات قدرته على ضبط إيقاع عمل مؤسسات الوفاق، وهي دعوة مُحملة برسائل توسيع الحضور والنفوذ بسير العمل المالي والاقتصادي، ومن المُتوقع أن ينتهي هذا الاجتماع بوضع آلية إشرافية على أنشطة إدارة عوائد النفط، بما يتضمن سلطة أوسع للسراج أو من سيفوضه للرقابة على عمليات المصرف المركزي.
وفي النهاية يمكن القول إن تصاعد الصراع على إدارة عوائد النفط الليبي سيجدد ويفاقم على ما يبدو الأزمة الإنسانية التي تشهدها الدولة المأزومة، ولكن في هذا التوقيت لن يشكل حل هذه الإشكالية أمرًا ذا حظوة؛ فالدول الكبرى تحقق لها فتح المنشآت والصادرات التي توقفت لأشهر متتالية، وهذا ما يهمها، أما تجميد أرصدة النفط حتى إتمام الانتخابات وإعادة بناء مؤسسات الدولة فهو خيار بالغ التعقيد، سيقود إلى مشهد ليبي متوتر قد يُعطل أية تقدمات بل وقد يُسقط ما جرى إنجازه.