كانت زيارة الرئيس “عبدالفتاح السيسي” لجوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان هي الأولى من نوعها منذ استقلال جنوب السودان عام 2011 في ظل الزيارات المتبادلة بين البلدين، حيث قام “سلفا كير ميارديت” رئيس جمهورية جنوب السودان وبعض نوابه ووزراء ومسئولين في الحكومة بإجراء زيارات عديدة للقاهرة من جانب، وأجرى الطرف المصري أيضًا زيارات عديدة لدولة جنوب السودان على مستوى رئيس الوزراء ووزراء ومسئولين رسميين في الحكومة المصرية، بالإضافة إلى رئيس البرلمان المصري من جانب آخر، إلا أن هذه الزيارات المصرية لم ترتقِ إلى مستوى رئاسة الجمهورية قبل السادس والعشرين من نوفمبر 2020.
وتعتبر هذه الزيارة ذات أهمية استراتيجية وأمنية للجانب المصري، لاعتبارات متعددة. ومن حيث السياق المكاني، تشكل جنوب السودان إحدى دول حوض النيل ذات الجوار المباشر لكل من جمهورية السودان وإثيوبيا بما لهما من ارتباطات مهمة بالمصالح المصرية الرئيسية. ومن حيث التوقيت تأتي الزيارة مواكبة لتصاعد التوترات الناتجة عن الحرب التي تشهدها إثيوبيا في إقليم تيجراي. بهذا تطرح الزيارة الرئاسية المصرية لجوبا أسئلة مهمة بشأن تكامل الجهود بين الجانبين لتحقيق أمن واستقرار المنطقة.
أولًا- محددات العلاقات:
الموقع الجغرافي الذي يربط البلدين يفرض أهمية التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، خاصة في المجال الاقتصادي بما يجعل من تطور وازدهار البلدين بحاجة للتنسيق والتعاون الإيجابي وفق خطط المنفعة المتبادلة. حيث يشكل نهر النيل عاملًا قويًا للتعاون بين البلدين في ظل حاجة مصر للمياه من جانب، وحاجة جنوب السودان للخبرة المصرية في مجال الري والزراعة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى خلق فضاء مشترك لتحقيق صالح شعبي الدولتين. هذا بالإضافة إلى أن مصر تعتبر جنوب السودان تمثل عمق الأمن القومي المصري لمرور مياه النيل على أراضيها.
أما المحددات السياسية فتتمثل في رغبة كلا البلدين في الحصول على دعم كل منهما للآخر في المؤسسات الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى الدعم المتحقق في إطار العلاقات الثنائية. فيمكن لجنوب السودان أن تجد سندًا مصريًّا في المؤسسات الإقليمية والدولية، لا سيما في تسوية النزاع الداخلي في جنوب السودان. أما مصر فإن أزمة سد النهضة التي تشكل مسألة أمن قومي تفرض عليها التعاون مع جنوب السودان، في ظل ما يمكن أن تلعبه جنوب السودان من دور فاعل في إطار جهود دول حوض النيل لتنظيم استغلال موارد النهر على نحو يضمن الحقوق الأساسية لكافة الشعوب.
ثانيًا- مجالات التعاون:
تتعدد مجالات التعاون والعمل المشترك بين مصر وجنوب السودان بصورة كبيرة، بحيث كانت قضايا العلاقات الثنائية هي الغالبة على جدول أعمال الزيارة الرئاسية المصرية لجنوب السودان، وتتضمن هذه المجالات:
1- المجال السياسي
حيث تعتبر مصر من أوائل الدول التي قامت بإعلان الاعتراف باستقلال دولة جنوب السودان، وبمشاركة وفد رفيع المستوى من الحكومة المصرية برئاسة رئيس الوزراء المصري، بالإضافة للدور المصري السابق بشأن التوصل لاتفاق السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة والجيش الشعبي في عام ٢٠٠٥، الذي نص على حق تقرير مصير إقليم الجنوب، وهو ما ترتب عليه فور الاعتراف باستقلال جنوب السودان إقامة تبادل في العلاقات الدبلوماسية، بالإضافة إلى الزيارات الدبلوماسية المتبادلة بين البلدين التي تم رفعها بزيارة الرئيس المصري لجنوب السودان إلى مستوى الرؤساء والمسئولين الرسميين من الجانبين، وهو ما يؤشر لأهمية العلاقات بين البلدين واتجاه السياسة الخارجية المصرية لرفع مستوى العلاقات بين البلدين. أضف إلى ذلك الدور المصري في التصويت لصالح حكومة جنوب السودان في المؤسسات الإقليمية والدولية.
2–المجال العسكري
أشارت التقارير الصحفية التي غطت المؤتمر الصحفي الذي جمع رئيسي البلدين، إلى مناقشة الطرفين أجندة تتصل بالتعاون العسكري بين مصر وجنوب السودان، وتستقبل مصر وافدين من جنوب السودان في الكلية الحربية المصرية، ويتلقى ضباط من جنوب السودان تدريبات تأهيلية في المجال العسكري أيضًا. بالإضافة إلى مشاركة مصر بكوادر عسكرية ومدنية في قوات حفظ السلم الإفريقي والأممي في جنوب السودان، لا سيما في منطقة أبيي المتنازع عليها بين السودان وجنوب السودان.
3–المجال الاقتصادي والتنموي
توجد مساعٍ مصرية حثيثة لتفعيل التعاون في المجال الاقتصادي مع جنوب السودان، فمنذ استقلال جنوب السودان تم التوصل إلى عدد من الاتفاقيات الثنائية بين البلدين، من أجل إقامة المشروعات التنموية في جنوب السودان بمساعدة ودعم من قبل الحكومة المصرية والمؤسسات التنموية في مصر، خاصة في مجال الإنشاءات والبنية التحتية من خلال شركة المقاولون العرب. كما تشهد مجالات المياه والخدمات الصحية والزراعة نشاطًا واضحًا، حيث ساهمت مصر في إقامة مشاريع توفير مياه شرب نقية للمواطنين في جنوب السودان، بتنفيذ حوالي ٦ مشاريع حفر الآبار لتوفير ونقل المياه الجوفية للشرب والاستخدامات المنزلية، من ضمن ٣٠ مشروعًا لحفر الآبار الجوفية وتوفير مياه الشرب لحوالي ٥٠٠ ألف فرد في جنوب السودان. أما في الصحة فتقدم مصر المساعدات الطبية عبر القوافل الطبية، وترسل أطباء لتدريب وتأهيل كوادر من أطباء وممرضين في جنوب السودان، بالإضافة إلى فتح عيادات ومركز طبي بجوبا. وفي الزراعة يوجد عدد من المشروعات التنموية الزراعية بين البلدين في جنوب السودان، منها إقامة مشروع للزراعة الحديثة وتدريب كوادر في ذلك المجال بشكل عام من أجل الاستفادة من الخبرات المصرية في هذا الشأن.
4–المجال الثقافي
يحتلّ المجال الثقافي حيزًا كبيرًا في أجندات العلاقات التعاونية بين البلدين، والذي يأتي في شكل المنح الدراسية في إطار اتفاقات التبادل الثقافي بين البلدين، حيث تمنح مصر جنوب السودان منحًا دراسية لمرحلتي البكالوريوس والدراسات العليا، بما يعادل ٢٥٠ في مرحلة البكالوريوس و٥٠ منحة دراسية في مرحلة الدراسات العليا، وتم زيادة كل منها لتصبح ٣٠٠ و100 على التوالي، على إثر الزيارة الأخيرة لوزير التعليم العالي بدولة جنوب السودان للقاهرة برفقة وفد ضمن وزير الري والموارد المائية الجنوب سوداني.
ثالثًا- مستقبل العلاقات:
مما سبق يتضح وجود علاقة تعاونية جيدة بين البلدين في كافة المجالات، سابقة على زيارة الرئيس المصري إلى جوبا في نوفمبر 2020، إلا أن الزيارة تفتح الباب أمام تطور العلاقة مستقبلًا بين مصر وجنوب السودان في مسارين أساسيين.
يتمثل المسار الأول في تعزيز الدور المصري في تحقيق الاستقرار واستدامة السلام في جنوب السودان، خاصةً بعد أن شهدت الزيارة عقد لقاءين بين الرئيس المصري مع طرفي النزاع الرئيسيين في جنوب السودان ممثلين في “سلفا كير” رئيس الدولة، ونائبه الأول “د. ريك مشار” زعيم المعارضة (الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان في المعارضة) كلًا على حدة. وقد استهدفت هذه اللقاءات حث أطراف النزاع على ضرورة الالتزام بتنفيذ اتفاق السلام المنشط، الذي من شأنه أن يؤدي إلى تحقيق الاستقرار والسلام في جنوب السودان، وتجنيب أطراف النزاع أية احتمالات لإعادة انفجار النزاع المسلح، حتى يكون جنوب السودان الحليف القوي لمصر في مختلف الملفات الإقليمية.
أما المسار الثاني فيتمثل في إحداث نقلة نوعية في مسار التعاون الثنائي بين مصر وجنوب السودان، حيث ركزت الزيارة على جعل البلدين يعملان على تعزيز وتقوية العلاقات التعاونية بين البلدين في الجوانب السياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، بما يؤدي إلى زيادة التعاون في كيفية إدارة الموارد المائية، وإقامة مشاريع تنموية تسهم في الإدارة الرشيدة وتطوير تلك الموارد المائية التي تتمتع بها دولة جنوب السودان، من أجل تعزيز زيادة تدفق مياه النيل باتجاه مصر، ومنها وضع خطط مدروسة لكيفية استغلال الموارد المائية المهدرة في منطقة جونجلي بما يحفظ ويضمن حقوق السكان المحليين، دون إلحاق أضرار اجتماعية واقتصادية وديموغرافية في المنطقة، والتي لا يمكن تفاديها في حالة عدم ترجمة الخطط من أجل استفادة المواطن الجنوب سوداني في تلك المنطقة. وبالتالي تتحقق المنفعة المتبادلة بين البلدين، بما يفتح آفاقًا استراتيجية مشتركة تؤدي إلى تطور العلاقات بين البلدين عمقًا ومتانة في طابعها التعاوني.
باختصار، إن زيارة الرئيس “عبدالفتاح السيسي” إلى جوبا عكست حرص مصر وجنوب السودان على ضرورة تعزيز المصالح المشتركة للشعبين، وتجنب أي مسار يمكن أن يزيد من تأجيج الصراعات في المنطقة، والتركيز على ضمان اعتماد الحلول القارية في مواجهة مختلف القضايا وفي إطار أجندات التنمية المستدامة الإفريقية، وهي المبادئ التي أكدها رئيسا البلدين أثناء اللقاء الذي جمعهما في جوبا، تأكيدًا على أولوية الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية في مختلف المجالات.