سبق منح الثقة للحكومة الليبية الجديدة برئاسة “فتحي باشاغا”، 10 فبراير الجاري، خطوة تشريعية هامة تؤسس للمرحلة المُقبلة، ألا وهي اعتماد مجلس النواب “خارطة الطريق البرلمانية” وتضمينها بالإعلان الدستوري بتمرير تعديله (12)، الذي يمثل تأطيرًا لملامح الانتقال المُقبل في (11) مادة تُنظم عملية صياغة دستور دائم أو قاعدة دستورية مؤقتة للبلاد، بالإضافة لمنهجية إصدار قوانين الاستفتاء والانتخابات العامة المُقبلة، بجانب إعادة تشكيل المفوضية العليا للانتخابات.
دستور دائم أم قاعدة مؤقتة؟
رسم التعديل الـ(12) ثلاثة مسارات تستهدف الوصول لأساس دستوري، اثنان منها تصل إلى إقرار دستور دائم، ومسار واحد ينتهي بإقرار قاعدة دستورية مؤقتة، ويمكن استعراض تلك المسارات فيما يلي:
المسار الأول: تشكيل “لجنة تعديل مشروع الدستور الدائم”
يأخذ هذا المسار بطرح مشروع الدستور الذي صاغته “الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور” للاستفتاء الشعبي، بعد تعديل المواد الخلافية التي يتضمنها. وتضمن التعديل تفصيلًا لعملية تعديل المواد الخلافية بمشروع الدستور قبل طرحه للاستفتاء، حيث حدد ضوابط تشكيل ومهام والإطار العام لعمل اللجنة، وهي كالآتي:
1- التشكيل: تضم اللجنة نحو (24) عضوًا من الخبراء والمتخصصين، يمثلون الأقاليم الجغرافية التاريخية الليبية الثلاثة (برقة، وطرابلس، وفزان) بالتساوي، أي بواقع (8) أعضاء من كل إقليم. على أن يتم اختيار أعضاء اللجنة من قبل مجلسي النواب والدولة، بالمناصفة بينهما، مع مُراعاة التنوع الثقافي عند اختيار المشاركين باللجنة. كما أتاح التعديل للجنة الاستعانة بمن تراه مناسبًا؛ في سبيل إنجاز مهمتها.
2- المهام: حدد التعديل الـ(12) مهمة اللجنة الرئيسية بأنها “مراجعة المواد محل الخلاف في مشروع الدستور المُنجز من قبل الهيئة التأسيسية وإجراء التعديلات الممكنة عليه”، وبذلك فهي مُناطة بتحديد مواد الخلاف ومعالجتها بما تراه من سُبل، إلى جانب مهمتها الأولية المُتصلة بانتخاب هيئة رئاسة لها، رئيس ونائب للرئيس ومقرر، ووضع لائحة داخلية مُنظمة لعملها.
3- الإطار العام: أقرت المادة (4) من التعديل الدستوري مدينة “البيضاء” مقرًا رئيسيًا للجنة؛ نظرًا للرمزية التي تمثلها المدينة في عملية صياغة الدستور وأنها مقر الهيئة التأسيسية، كما أجازت المادة ذاتها عقد اجتماعات اللجنة بأية مدينة أخرى. ومن حيث التوقيتات، يُفترض أن تعقد اللجنة أول اجتماعاتها خلال (15) يومًا من تاريخ التعديل، أي قبل 26 فبراير الجاري، وتؤدي مهمتها الأولية، ثم تنجز مهمتها الرئيسية “إجراء التعديلات” خلال الـ(45) يومًا من عقد أول اجتماع لها، أي بحد أقصى 13 إبريل المُقبل. وإذا أتمت اللجنة تلك المهام في سياقها الزمني المُحدد فسيُحال مشروع الدستور المُعدل لمفوضية الانتخابات ليُطرح للاستفتاء، ويُعتمد كدستور دائم للبلاد، حال جرى التصويت عليه بـ”نعم” بنسبة (50+1) بكل إقليم من الأقاليم الجغرافية التاريخية.
المسار الثاني: إعادة التعديل عبر “الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور”
أقر التعديل الدستوري إعادة مشروع الدستور إلى “الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور” لتقوم بتعديله مرة أخرى، إذا لم يحصد التعديل المُقترح من “لجنة تعديل مشروع الدستور الدائم” الأغلبية المطلوبة لتمريره، أي حقق أقل من (50% +1) في كل إقليم من الأقاليم الليبية الثلاثة، أو إذا جاءت نتيجة الاستفتاء على ذات المُقترح بـ “لا” مُحققةً للأغلبية المطلوبة.
وحال تحقق أيٍّ من الاحتمالين السابقين، فستتولى الهيئة مهمة إعادة تعديل مشروع الدستور الدائم من جديد، خلال مدة لا تتجاوز (60) يومًا من تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء الأول. وإذا أتمّت الهيئة مهمتها في سياقها الزمني المُحدد، فسيُحال مشروع الدستور المُعدل لمفوضية الانتخابات ليُطرح للاستفتاء مرة ثانية، ويُعتمد كدستور دائم للبلاد، حال جرى التصويت عليه بـ “نعم” بنسبة (50+1) بكل إقليم من الأقاليم الجغرافية التاريخية.
المسار الثالث: تشكيل “لجنة صياغة قاعدة دستورية مؤقتة”
نص التعديل الدستوري على إمكانية وضع قاعدة دستورية مؤقتة، عبر لجنة يشكلها مجلسا النواب والدولة، وهذا المسار سيكون البديل لتعثُر المسارين السابقين، فإذا لم تُنجز “لجنة تعديل مشروع الدستور الدائم” أعمالها خلال الإطار الزمني المحدد لها فستتولى “لجنة صياغة قاعدة دستورية مؤقتة” تلك المهمة، وإذا لم تُنجز “الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور” أعمالها خلال الإطار الزمني المحدد لها، أو جاءت نتيجة الاستفتاء الثاني على التعديل المُقترح منها بـ “لا”، فسيتم حل “الهيئة التأسيسية” وتتولى “لجنة صياغة قاعدة دستورية مؤقتة” تلك المهمة أيضًا.
وقد نظم التعديل الـ(12) عملية تشكيل ومهام “لجنة صياغة قاعدة دستورية مؤقتة”، حيث أسند تشكيلها إلى مجلسي النواب والدولة، وتتمحور مهمتها في وضع القاعدة الدستورية المؤقتة بالتوافق بين المجلسين، على أن تنجز عملها خلال مدة أقصاها (30) يومًا من تاريخ انتهاء مهلة عمل “لجنة تعديل مشروع الدستور الدائم” و”الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور” دون إحالتهما لمقترحاتهما للمفوضية للاستفتاء عليها، أو من تاريخ اعلان نتيجة الاستفتاء الثاني على مُقترح الهيئة التأسيسية بـ “لا”.
وأقر التعديل الدستوري أن تكون القاعدة الدستورية المؤقتة سارية لدورة رئاسية-برلمانية واحدة، ويلتزم بذلك مجلسا النواب والدولة. فيما سيُحال مشروع الدستور المُنجز من “الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور” إلى السلطة التشريعية المنتخبة للنظر فيه، حيث ستتولى مهمة إقرار الدستور الدائم للبلاد.
سياقات حاكمة
يعكس جوهر التعديل الدستوري الـ(12) اتجاهًا لمعالجة القضايا والإشكاليات التي طالما مثلت محفزًا للصدام ومثارًا للخلاف بين الأطراف المتنافسة في ليبيا على مدار السنوات الـ11 الماضية، فكان التعديل واضحًا في نصه على مناطقية التمثيل بالاستحقاقات المُقبلة، والإقرار بالاحتكام للتوافق بين مجلسي النواب والدولة في إدارة هذه المرحلة، وغيرها من السياقات التي سترسم تفاعلات المشهد الليبي خلال الأشهر المُقبلة، ومن بينها:
- مناطقية التمثيل: اعتمد التعديل الدستوري مبدأ “التمثيل المناطقي” كمعطى أساسي بترتيبات المشهد الانتقالي الجديد؛ إذ وضع تمثيل الأقاليم الجغرافية التاريخية الثلاثة، بنغازي وطرابلس وفزان، كمعيار تنظيمي لمجريات المرحلة المٌقبلة. فنجد “لجنة تعديل مشروع الدستور” موزعة بالتساوي بين ممثلي الأقاليم الليبية، رغم اشتراط كونهم من الخبراء والمختصين، ولم يغفل التعديل الإشارة إلى وجوب مراعاة التنوع الثقافي، وهو مدخل آخر لمعالجة إشكاليات التمثيل المناطقي بالحالة الليبية.
كما تجلى اعتماد مناطقية التمثيل بالمرحلة القادمة في اشتراط التعديل أن يحظى مشروع الدستور الدائم بأغلبية (50%+1) بكل إقليم من الأقاليم الثلاثة، وهو ما يضع “لجنة التعديل” و”الهيئة التأسيسية” أمام ضرورة تقديم مواد الدستور القادم بصيغة تحظى بقبول كافة المكونات والمناطق الليبية؛ كونها صارت شرطًا حتميًا لقبول ما ستطرحه للاستفتاء على الشارع، وأن الوزن النسبي للأقاليم الثلاثة بعملية إقرار مشروع الدستور ستكون متساوية.
- الاحتكام للتوافق: تُظهر نصوص التعديل الـ(12) وجود اتفاق ضمني بين لجنتي خارطة الطريق في مجلسي النواب والدولة على الاحتكام للتوافق بينهما في إدارة المشهد الانتقالي، وهو ما يُعد عودةً لما أسسه الاتفاق السياسي بينهما (الصخيرات 2015)، ولكن بصيغة دستورية واضحة وفي قضايا محددة. ومن أبرزها صياغة التشريعات المُنظمة للاستفتاء والانتخابات العامة، وعملية إعادة تشكيل المفوضية الوطنية العليا للانتخابات وتصحيح وضعها القانوني.
بالإضافة لمهمة تشكيل “لجنة تعديل مشروع الدستور الدائم”، والتي ستكون بالمناصفة بين المجلسين، وهي أول خطوة نحو تقديم مشروع دستور دائم لاستفتاء الشعبي، كما أن فشل إنجاز مهمة اللجنة المذكورة والهيئة التأسيسية سيقود لخطوة إقرار قاعدة دستورية مؤقتة، وهذه الخطوة أيضًا التي ستتطلب توافق المجلسين؛ لإنقاذ المرحلة الانتقالية السادسة في ليبيا.
- التأطير الزمني: جاء التعديل الدستوري الأخير مُركزًا على ترسيم الحدود الزمنية لكل مسارات خارطة الطريق، حيث يُقدر ألا تتجاوز تلك المرحلة سقف الـ (14) شهرًا من تاريخ اعتماد التعديل الدستوري الـ(12)، أي إنه في غضون إبريل 2023 سيكون الليبيون قد أقروا دستورهم الدائم أو قاعدة دستورية مؤقتة، وذهبوا للانتخابات العامة رئاسية-برلمانية.
وتجدر الإشارة إلى أن المسار الأول الخاص بـ “لجنة التعديل” لا يتجاوز الـ (60) يومًا، وهو الإطار الزمني ذاته لعمل “الهيئة التأسيسية” بالمسار الثاني، فيما لا يتجاوز عمل “لجنة القاعدة المؤقتة” مدة الـ (30) يومًا، أي إن مجمل الإطار الزمني لتلك اللجان لا يتجاوز (150) يومًا أي خمسة أشهر، فيما تمثل الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية، وهي مُقدرة بنحو (270) يومًا أي تسعة أشهر، مدة ضرورية لتنقيح منظومة مصلحة الأحوال المدنية وسجلات الناخبين بمفوضية الانتخابات، وهي فترة أبدت المصلحة والمفوضية قدرتهما على اختزالها إذا توفرت لهما المخصصات والتأمين اللازم.
وإجمالًا، يمكن القول إن المشهد الليبي في ضوء التعديل الدستوري الـ(12) يمر بمنعطف بالغ الأهمية للخروج من دورات الصراع المتعاقبة والمراحل الانتقالية المتتالية، والتي دخلت فيها الأزمة بهذا التعديل النسخة السادسة للانتقال منذ احتجاجات فبراير 2011. ووفقًا لما تم ترسيمه من مسارات وما يقترن بها من سياقات حاكمة، فإن المساعي المبذولة الآن تعكس رغبةً في مُعالجة الإشكاليات التي أهدرت فرص التعافي الليبي لنحو (11) عامًا، ويرتهن نجاح “خارطة الطريق البرلمانية” بمدى قدرة الأطراف الداخلية المتنافسة تقليديًا على التوافق لتتمكن من مواجهة الفاعلين الجدد المؤثرين بمستقبل التسوية في الدولة المأزومة.