في السابع عشر من فبراير 2022، أعلن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” رسميًا انسحاب قوة “برخان” الفرنسية وقوة “تاكوبا” الأوروبية من مالي، وإعادة انتشارها في دول أخرى بمنطقة الساحل الإفريقي بغرب إفريقيا، ولا سيما في النيجر، مُبررًا ذلك بعدم توافر العوامل السياسية والقانونية لاستمرار عمل هذه القوات. وعلى الجانب الآخر، طالبت الحكومة المالية فرنسا بسحب قواتها على الفور دون تأخير. وجاء ذلك نتيجة تدهور العلاقات بين البلدين منذ الإطاحة بالحكومة المنتخبة عام 2020. ومع ذلك، فقد تفاقمت الأزمة الدبلوماسية وبلغت ذروتها بطرد السفير الفرنسي “جويل ماير” من مالي، ووصلت إلى نقطة اللا عودة وتم تجاوز الخطوط الحمراء خلال الشهور الأخيرة، نتيجة حالة الخلاف بشأن التعاقد مع مجموعة “فاجنر” الروسية، وتأخر موعد العملية الانتخابية في فبراير 2022، وتمديد الفترة الانتقالية حتى عام 2025.
مراحل مُتتالية.. الخطة الزمنية لعملية الانسحاب التدريجي
أشار “ماكرون” إلى أن عملية الانسحاب قد تستغرق مدة تتراوح من أربعة إلى ستة أشهر من خلال تحديد الخطوط الرئيسية وشروط العمل المشترك لعملية إعادة التنظيم القوات بحلول يونيو 2022، وأصدرت فرنسا وكندا اللتان تقودان فرقة عمل “تاكوبا”، بيان الانسحاب بالتنسيق المُشترك مع الجيش المالي، حيث ستقوم فرنسا بإغلاق القواعد العسكرية في شمال مالي بمناطق جوسي، وميناكا، وجاو، بعد تقليص عدد القوات في ديسمبر 2021 من قواعد كيدال وتيساليت وتمبكتو، ومن المتوقع تقليص الوجود العسكري الفرنسي لحوالي 2500-3000 جندي بحلول عام 2023.
وإلحاقًا بالسابق، تُوجد صعوبات لوجستية في عملية انسحاب القوات، وخاصةً مع بداية موسم الأمطار، مما يعيق هذه العملية، ومن ناحيةٍ أخرى، هناك ضرورة لنقل جميع المعدات الطبية ومخزونات الذخيرة برًا من خلال توفير عشرات المركبات المدرعة، وتعزيز الجسور الجوية بين جاو في شمال مالي ونيامي في غرب النيجر، لتجنب الهجمات الإرهابية المُحتملة على القوافل، ولكن يحتاج ذلك عامًا على الأقل من عمليات المسح اللوجستية لإزالة جميع المعدات التي استغرق تركيبها عشر سنوات، حيث تعتبر الطريقة الوحيدة هي العودة برًا إلى البلدان الساحلية بسبب صعوبة العبور من خلال منطقة الحدود الثلاثة (ليبتاكو جورما) بين دول مالي، والنيجر، وبوركينافاسو.
وستعتمد فرنسا على قواتها السابقة المتواجدة في دول السنغال، وساحل العاج (كوت ديفوار)، والجابون، لتقديم الدعم لهذه البلدان في مُكافحة الإرهاب، وستظل الدول الأوروبية الأخرى أيضًا منخرطة في أدوار مثل تقديم المشورة والمساعدة للقوات المحلية، فضلًا عن مرافقتها أثناء العمليات العسكرية. وفي هذا الصدد، تلعب ساحل العاج دورًا مهمًا باعتبارها شريكًا تاريخيًا لباريس، حيث تستضيف 950 جنديًا فرنسيًا، وفي عام 2021 افتتحت أكاديمية دولية لمُكافحة الإرهاب في أبيدجان (عاصمة ساحل العاج) بهدف تدريب القوات المُسلحة لبلدان المنطقة على عمليات مُكافحة الإرهاب. وعلاوةً على ذلك، دفعت فرنسا لتعزيز مُبادرة “اكرا”، وهي إطار إقليمي يجمع دول بنين، وبوركينافاسو، وساحل العاج، وغانا، وتوجو، بالتوازي مع مجموعة الساحل الخمس (G5)، التي تضم دول مالي، وتشاد، وبوركينافاسو، والنيجر، وموريتانيا.
النيجر.. موقع بديل لإعادة انتشار القوات الفرنسية والأوروبية
تُقدم النيجر العديد من المزايا مُقارنةً بجيرانها، ولا سيما مالي وتشاد وبوركينافاسو، بالنسبة للتموضع الجديد للقوات الفرنسية، حيث تحتاج فرنسا حليفًا موثوقًا فيه، وقد قامت وزيرة الجيوش الفرنسية “فلورنس بارلي” في سبتمبر 2021 بلقاء رئيس النيجر “محمد بازوم”، للنقاش حول إعادة تموضع قوة برخان وتاكوبا في النيجر. وكذا، منذ البداية احتلت النيجر مكانة استراتيجية، حيث يتواجد العنصر الجوي لقوة برخان و800 جندي فرنسي، وتتمركز جميع الأصول الجوية، بما في ذلك الطائرات ميراج والطائرات بدون طيار في النيجر.
وستعمل هذه القوات بجانب جهود سلطات النيجر للحفاظ على السلام والأمن والدفاع في منطقة الحدود الثلاثة كأولوية مُطلقة من خلال تبادل المعلومات الاستخبارية، والقيام بعمليات مُشتركة وتغيير أساليب القتال عن بعد، مثل استخدام الطائرات بدون طيار، وستكون القواعد الجديدة قريبة من مناطق (ميناكا، وجاو) في شمال شرق مالي. ولكن، من ناحيةٍ أخرى، توجد مُعارضة للوجود الفرنسي، بما في ذلك القاعدة الفرنسية في دوسو بجنوب شرق النيجر، نتيجة تدهور الوضع الأمني وجرائم القتل في منطقة تيلابيري بغرب النيجر.
ارتدادات مُتشابكة
يُثير انسحاب القوات الفرنسية من مسرح العمليات في مالي، وإعادة هيكلة قوة برخان وتاكوبا، بحلول 30 يونيو 2022، تداعيات قاتمة وامتداد التهديدات الأمنية على المنطقة، وهناك ضرورة لتعزيز التعاون الإقليمي لتجنب التصعيد الجهادي المُحتمل، وتفاقم المخاطر على جميع الدول المجاورة، في ظل انكشاف المناطق الحدودية، ومخاطر الهشاشة وإفرازاتها على تهديد المصالح الأوروبية، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
• السيولة الأمنية: سيترك الانسحاب فراغًا أمنيًا وتحديات إضافية لمالي والبلدان المجاورة، وتُشارك دول شمال إفريقيا مخاوف مماثلة، وتحديدًا الجزائر خارج حدودها الجنوبية، مع تدهور الوضع الأمني في وسط وشمال مالي، ولا تزال منطقة كيدال بشمال مالي تحت سيطرة الجماعات الإرهابية، وخاصةً التابعة لتنسيقة حركات أزواد (CMA)، وتأثيراتها على السكان المحليين، وتداعيات أبعاد الامتدادات الإثنية والتشابك مع أنشطة هذه الجماعات في منطقة الحدود الثلاثة. وفي هذا السياق، تعرض معسكر “موندورو” في وسط مالي لهجوم عنيف في الرابع من مارس 2022، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 27 جنديًا، بالقرب من حدود بوركينافاسو، وتعتبر أكبر حصيلة للهجمات الإرهابية منذ بداية عام 2022.
• تعزيز الحوار مع الجماعات المُسلحة: في ظل عدم تحقيق قوة برخان نجاحًا كبيرًا في مُكافحة الإرهاب، جعل بعض قادة الجماعات الإرهابية مثل “أمادو كوفا” مُغادرة فرنسا لمالي شرطًا لبدء محادثات السلام، ولكن أبدت فرنسا معارضتها لأي نهج تفاوضي مع هذه الجماعات. على العكس من توصيات المنتديات الوطنية للسلام، ومنها مؤتمر الحوار الوطني الشامل، والتي اقترحت مراجعة اتفاق السلام والمصالحة لعام 2015، الذي ينص على إعادة انتشار الجيش المالي المُعاد تشكيله من خلال دمج المقاتلين السابقين من الحركات المُسلحة، وفصل قضية الطوارق عن الجماعات الإرهابية بإشراك الجماعات المحلية لقيادة القتال ضد الجهاديين، وكان من المفترض أن يُمهد الاتفاق الطريق لإنهاء الحرب في مالي، لكن لم يؤتِ نتائجه بعد.
وفي هذا المنظور، سيكون الانسحاب بمثابة حافز لبدء الحوار والتفاوض مع الجماعات المُسلحة في إطار بحث الحكومة الانتقالية في مالي جميع الحلول الممكنة والبدائل المتاحة للاستيعاب الحوار مع هذه الجماعات لوضع حد للإرهاب، وقد اقترح الإمام “محمود ديكو” ذلك على حكومة مالي في ظل خبرة بعض الزعماء الدينيين والقادة الاجتماعيين بتسهيل الإفراج عن الرهائن. وفي أكتوبر 2020، تم الإفراج عن “صوفي بترونين”، آخر رهينة فرنسية محتجزة في العالم، والمعارض المالي “سوميلا سيسي”، واثنين من الرهائن الإيطاليين مقابل الإفراج عن مائتي جهادي، وفوضت الحكومة المالية عبر وزير الشئون الدينية، في 19 أكتوبر 2021، المجلس الإسلامي الأعلى لإجراء مفاوضات مع هذه الجماعات بقيادة إياد أغالي وأمادو كوفا.
• مخاوف بشأن استمرارية بعثات حفظ السلام: تعمل بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) وبعثات التدريب التابعة للاتحاد الأوروبي في مالي، جنبًا إلى جنب مع القوات المالية، حيث ستواصل فرنسا تقديم الدعم الجوي والطبي لبعثة (مينوسما) خلال الأشهر المقبلة قبل عملية الانسحاب، لكن هذا الانسحاب يمكن أن يُمهد الطريق للقوى الأوروبية الأخرى مثل بريطانيا وألمانيا للتخلي عن أدوارها في مهام حفظ السلام والدعم المالي والفني للاتحاد الأوروبي في إطار سياسة الأمن والدفاع، ومدى قبول بعثات يوتم ومينوسما ( EUTM – MINUSMA) لأن يتم تأمينها من قبل قوات المرتزقة والقوات المُسلحة المحلية، وربما ستضطر هذه البعثات إلى إعلان انسحابها خلال الفترة المقبلة.
واتصالًا بالسابق، أثار إعلان الانسحاب ردود فعل في ألمانيا، حيث قالت وزيرة الدفاع “كريستين لامبرخت” إنها تشك في استمرار تعاون ألمانيا مع بعثة التدريب التابعة للاتحاد الأوروبي في مالي، وليس من المستبعد أن ينسحب الجيش الألماني إذا لم يتم ضمان حماية الجنود، ومغادرة الوحدات الأوروبية (إنجلترا وألمانيا والسويد) على المدى المتوسط، كما قررت السويد سحب قواتها المُشاركة في بعثة (مينوسما) عام 2023، قبل انتهاء مدة التفويض في مايو 2024. وكذا أعلنت الدنمارك في السابع والعشرين من يناير 2022، سحب قواتها من فرقة عمل تاكوبا.
• الانخراط الروسي: يُعتبر دخول روسيا مؤشرًا خطيرًا، حيث لا يوجد تعاطٍ جاد في مكافحة الإرهاب، وهذه المتغيرات تُعزز هذا الاتجاه، حيث تحتكر فرنسا موارد هذه الدول، ودخول دول أخرى سيتعارض مع مصالحها في المنطقة، وتوجد علامات استفهام بشأن قدرة قوات “فاجنر” الروسية على ملء هذا الفراغ، في ظل وجودها في إفريقيا الوسطى منذ خمس سنوات قبل وصولها إلى ليبيا. وقد تلجأ نيجيريا أيضًا إلى “فاجنر” سواء لمواجهة التهديدات الأمنية أو الإرهابية، حيث تعمل فرنسا على احتواء نفوذ روسيا ومواجهة الاستثمارات الصينية في المنطقة. وكذا، ترغب الدول الغربية في تخفيف النفوذ الروسي المُحتمل في المنطقة من خلال الحفاظ على وجودها في البلدان المجاورة لمالي، مع تزايد حالة الغضب الشعبي للوجود الفرنسي والترحيب بالوجود الروسي، وبرز ذلك في رفع علم روسيا في الاحتجاجات التي نُظمت خلال الفترة الأخيرة.
وفي الأخير، يجب الدمج بين مُقاربات الدبلوماسية والتنمية والدفاع والأمن في مُقاربة شاملة من خلال زيادة قدرة قوات الأمن المحلية، وتزويد الجيوش الوطنية بمُعدات حديثة لتتبع الجماعات الإرهابية ومُواجهة أنشطة العصابات الإجرامية في المناطق الجغرافية الصعبة، ومُعالجة الأزمات المُركبة، مع الاشتباك العسكري الفرنسي الجديد بانسحاب برخان وشركائها من شمال مالي، وعملية إعادة تنظيم قواتها في البلدان المُهددة بعدوى الجماعات الإرهابية. وهناك ضرورة لتعزيز القدرات الدفاعية للبلدان الساحلية، العالقة بين التهديدات الإرهابية من الشمال في الساحل الإفريقي، وتنامي القرصنة البحرية من الجنوب في خليج غينيا بغرب إفريقيا.
باحث أول بوحدة الدراسات الأفريقية