تصاعدت الاشتباكات القبلية في ولاية النيل الأزرق جنوب السودان، خلال الأيام الأخيرة، لتضاف إلى ما تشهده البلاد من عنف تصاعدت وتيرته في الأشهر الأخيرة؛ بما يهدد الأمن والاستقرار السوداني، ويعصف بجهود إحلال السلام، الذي أسّس له اتفاق السلام السوداني. فقد أدت الاشتباكات بين قبيلتي البرتي والهوسا في النيل الأزرق إلى ارتفاع أعداد القتلى والجرحى إضافة إلى نزوح الآلاف، بما يزيد من مخاوف ارتفاع نطاق العنف، وسط إدانات بتقاعس السلطات عن احتواء استباقي للعنف، مع تصاعد مؤشرات العنف والخطاب العدائي في وقت سابق.
وقد أثارت تلك الأحداث بدورها تساؤلات عديدة حول محركات تلك الأحداث ودوافعها، وما يرتبط بها من سياق وعوامل مختلفة، وأخيرًا الاستجابات ومواقف الأطراف المختلفة.
مسلسل العنف
وقعت الاشتباكات الأخيرة بين أبناء قبيلة البرتي والهوسا في مناطق: قيسان، والرصيرص، وبكوري، وأم درفا، وقنيص بولاية النيل الأزرق، حيث تمّ حرق 16 محلًا تجاريًا، ومقتل ما يزيد على 31، وإصابة ما يزيد على 150 آخرين، علاوة على نزوح ما يزيد على 15 ألفًا آخرين، بينما كشف ممثل لجان مقاومة الرصيرص حسن العاقب عن تهجير (200 ألف مواطن) من قراهم إلى المناطق المجاورة بسبب الاشتباكات في الولاية، وهي الأعداد نفسها التي أكدها عضو لجان مقاومة الدمازين، بما دفع السلطات المحلية لفرض حظر التجول، وإغلاق الطرق المؤدية للرصيرص والدمازين عاصمة الولاية، حتى تتمكن السلطات من استعادة الأمن.
أما الاشتباكات التي وقعت بين قبائل الهوسا والبرتي في منطقة قيسان الحدودية مع إثيوبيا، والتي تقع على بعد 1000 كم من جنوب شرق العاصمة الخرطوم، إضافة إلى الرصيرص الواقعة على الضفة الشرقية للنيل الأزرق ويربطها جسر بالدمازين عاصمة الولاية؛ فقد جاءت مدفوعة بالخلاف بين أبناء القبيلتين، بسبب مطالبة قبيلة الهوسا بأن تكون لهم إدارة أهلية، بينما رفضت قبيلة البرتي ذلك المطلب؛ باعتبار أن الإدارة الأهلية تكون لأصحاب الأرض، وهم أصحابها وليس الهوسا.
ووفقًا لبيان الحركة الشعبية لتحرير السودان – جناح مالك عقار، وهي الحركة التي وقّعت على اتفاق السلام ممثلة عن ولاية النيل الأزرق، بعد تخلّف حركة عبدالعزيز الحلو الناشطة في كردفان عن الانضمام للاتفاق، وقعت تلك الاشتباكات على خلفية تنظيم قبيلة “الهوسا” مؤتمرًا تم فيه اختيار قيادة أهلية لإدارة شئون القبيلة، وهو الأمر الذي رفضته الإدارات الأهلية في الولاية. وقد تدخل حاكم الولاية لاحتواء التوترات بين الإدارات الأهلية وقبيلة الهوسا، وأوضح لهم أن هناك قرارًا صادرًا من وزارة الحكم الاتحادي يقضي بإيقاف تصديق الكيانات الأهلية إلى حين انعقاد مؤتمر نظام الحكم. كما أن التصديق على أي إدارة أهلية هو من صميم قانون الإدارة الأهلية، وتحت إشراف وزارة الحكم الاتحادي وإدارات الحكم المحلي بالأقاليم والولايات.
في هذا السياق، برز مكون تحت مسمى “أحفاد السلطنة الزرقاء”، الذي عقد اجتماعات متواصلة مع الإدارة الأهلية بالنيل الأزرق. وتم عقد مؤتمر تحت إشراف “أحفاد السلطنة الزرقاء”، وتقدم بجملة من المطالب التي يصب جزء منها في التعبئة العنصرية ونشر خطاب الكراهية وغيرها من المطالب التعجيزية، مثل طرد مجموعة إثنية، ونزع الرقم الوطني منها، ونزع أراضيهم الزراعية، وهي المطالب التي رفضتها حكومة الإقليم وفقًا لمسئوليتها تجاه جميع سكان الإقليم، وفسر البعض ذلك انحيازًا لطرف، وتم استخدامه للكسب السياسي، وفقًا لبيان الحركة.
فقد اتهم بيان الحركة “أحفاد السلطنة الزرقاء” بلعب دور سلبي أدى إلى تأجيج الأوضاع، حيث أدى تدخل عناصر من حركة مسلحة غير موقعة على اتفاق السلام، متحالفة مع قيادات سياسية في الداخل مختلفة الرؤية مع الحركة الشعبية، إلى اندلاع العنف. ونفت الحركة الاتهامات الموجهة إليها بدعم أبناء قبيلة الهوسا بالسلاح، انطلاقًا من رغبة عقار في كسب دعم شعبي، فقبيلته التي ينحدر منها “الإنقسنا” معروفة بعددها القليل، وفقدت بعض عناصرها في الحروب التي خاضتها سابقًا.
المواقف وردود الفعل
تباينت ردود الفعل ما بين إدانة العنف والدعوة للتهدئة وبسط الأمن وفرض هيبة الدولة، وفي هذا السياق جاءت ردود الفعل على النحو التالي:
أعلنت القوات المسلحة السودانية، تشكيل لجنة لتقصي الحقائق بشأن أحداث العنف التي شهدتها ولاية النيل الأزرق وأودت بحياة العشرات، وذلك بعد اجتماع لجنة الأمن والدفاع برئاسة رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان. وقررت اللجنة الفنية لمجلس الأمن والدفاع في السودان تعزيز القوات الأمنية الموجودة في منطقة النيل الأزرق. حيث أعلنت اللجنة إرسال تعزيزات أمنية من القوات النظامية من الخرطوم للعمل بشكل محايد، يتفادى الاستقطابات الإثنية والعرقية بالمنطقة، وإنهاء النزاع القبلي المسلح. ونشرت السلطات قوات الدعم السريع لتحقيق الاستقرار في المنطقة. كما فرضت حظر تجول ليلي، وحظرت التجمعات في بلدتي الرصيرص والدمازين حيث وقعت الاشتباكات.
وعلى الرغم من إعلان حاكم ولاية النيل الأزرق أحمد العمدة قرارًا بحظر التجول والمواكب لمدة شهر في الولاية، وكذلك نشر السلطات للقوات للسيطرة على الأوضاع الأمنية؛ إلا أنها إجراءات غير كافية، حيث طالب مسئول محلية الرصيرص عادل العقار بقوات إضافية للسيطرة على الوضع، كما طالب الحكماء والعقلاء بمخاطبة الناس من أجل التهدئة، مشيرًا إلى لجوء المواطنين لقسم الشرطة لحمايتهم.
وفي السياق ذاته، طالب ممثل الأمم المتحدة في السودان، فولكر بريتس، بـ”إجراءات ملموسة للسير نحو تعايش سلمي”، داعيًا إلى “وقف الأعمال الانتقامية”. كما طالبت لجنة أطباء السودان المركزية وزارة الصحة الاتحادية “بالتدخل العاجل، وضرورة فتح جسر جوي مع الولاية، لتلبية معينات العمل وإجلاء المرضى الذين يحتاجون إلى خدمات علاجية متقدمة. وحث عضو مجلس السيادة مالك عقار، وكالات الأمم المتحدة لتقديم مساعدات إنسانية عاجلة للأعداد المتزايدة من المتأثرين بالنزاع الجاري، مشيرًا إلى أن الإمكانيات الحالية بولاية النيل الأزرق غير كافية لتلافي الآثار التي خلفها النزاع.
وقال وجدي صالح، الناطق باسم المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير ورئيس اللجنة القانونية، “إن الاشتباكات الدائرة في ولاية النيل الأزرق، مصنوعة ومخطّط لها بغرض إثارة القلاقل والنعرات وتهديد الأمن العام”. وتابع، بالإضافة إلى ذلك “هناك قوى سياسية منها جماعات الإسلام السياسي وقوى الانقلاب تريد مقايضة الشعب السوداني وفق معادلة الأمن مقابل التخلي عن التحول الديمقراطي”، وطالب بعدم تسييس الاشتباكات القبليّة، وإلا سيدفع السودان بأكمله ثمن هذه النزاعات التي ستنتشر. فيما قال عضو تحالف الحرية والتغيير “الميثاق الوطني” البشري الصائم، إن الاشتباكات التي تندلع في أقاليم مختلفة تنبع من مساعي القبائل والعناصر المسلحة لفرض سيطرتها على المكونات الاقتصادية.
فيما حمّل حزب المؤتمر الشعبي المسئولية لتباطؤ تنفيذ اتفاق السلام وبطء العملية السياسية، حيث إن المضي قدمًا في إجراءات المرحلة الانتقالية وانتخاب الممثلين عن الشعب، يرسي دعائم الحكم الاتحادي وينظم علاقات ونظم الإدارات الأهلية والقبلية بما يعزز النسيج الاجتماعي ويستفيد من التعدد الثقافي والاثني والعرقي في إدارة التنوع ويوجه سائر الطاقات لبناء الوطن الواحد بعيدًا عن خطاب العداء والكراهية والعنصرية.
ووصف رئيس حزب الأمة مبارك المهدي ما يحدث في النيل الأزرق من مواجهة وقتل بين البرتي والهوسا بالمؤسف جدًا، وترحم على الضحايا. وأشار إلى أن ما يحدث هو إحدى نتائج أخطاء اتفاق جوبا وإدارة الفترة الانتقالية بتعيين أحد منسوبي حركة مسلحة ليس لديه أي سند قاعدي، فذهب إلى تغيير الهيكل الإداري الأهلي التاريخي حتى يجد لنفسه ناخبين، كما طالب بإعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال في ولاية النيل الأزرق فورًا لحقن الدماء، وإعفاء الوالي، وتعيين والٍ من السلك الإداري للضباط الإداريين.
وعلى المستوى الشعبي، قام أبناء قبيلة الهوسا بتسيير مسيرات في ولاية القضارف، كما أغلقت مجموعة من قبيلة الهوسا، اليوم الاثنين، الطريق الواصل بين منطقة القضارف والعاصمة الخرطوم، للتنديد بما حدث لأبناء قبيلتهم، كما طالب المتحدث باسم الهوسا هارون الطاهر المجلس السيادي بسرعة معاقبة الجناة والاقتصاص للشهداء حتى لا تكون مثل هذه الأعمال سببًا في حدوث تدهور أمني بالبلاد. وكانت مجموعات من قبيلة الهوسا وضعت أمس حواجز في عدة شوارع بكسلا، مع دعوات للاعتصام بالمدينة تضامنًا مع أبناء القبيلة في النيل الأزرق، كما أغلق المحتجون أيضًا جسر القاش في كسلا الذي يربط القادمين من خارج الولاية إليها.
كما قام أبناء الهوسا بتشكيل لجنة مركزية عليا من أبناء الهوسا لإدارة أزمة النيل الأزرق، وخلال لقائهم رئيس مجلس السيادة طالب أعضاء اللجنة بالآتي:
الوقف الفوري للقتل الممنهج في الإقليم.
توفير الحماية اللازمة والعاجلة للمواطنين العزل.
إرجاع المهجرين إلى قراهم ومساكنهم مع توفير الحماية لهم.
إجلاء الجرحى والمصابين إلى الخرطوم للعلاج.
إرسال المساعدات الإنسانية الضرورية العاجلة للمتأثرين بالأحداث.
مناشدة اللجنة جميع منظمات المجتمع المدني المحلية والإقليمية بتقديم المساعدات والإيواء والغذاء للمهجرين جراء هذه الأحداث.
مناشدة اللجنة جميع أبناء الهوسا في كل الولايات بالتحلي بأقصى درجات ضبط النفس.
وبعد توقيع اتفاق السلام بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة 2020، تصاعدت أعمال عنف متفرقة في عدة أنحاء من السودان، بما في ذلك المناطق الساحلية الشرقية وغرب دارفور، حيث يعد العنف القبلي في السودان مشكلة متجددة تحتاج إلى معالجات جذرية وليس فقط إجراءات مؤقتة، إذ من الصعب السيطرة على الاضطرابات والحيلولة دون تجددها دون معالجة أسبابها، وإيجاد حالة من التوافق تلتزم بموجبها جميع الأطراف بعدم اللجوء إلى العنف، والتواصل عبر آليات محددة لحل الإشكالات بطرق سلمية وغير عنيفة، بما في ذلك آليات فعالة لضمان عدم استخدام الخلافات القبلية في إطار الصراعات السياسية في البلاد، وإنفاذ خطة عمل وطنية لحماية المدنيين، وضمان سيادة القانون.
ويثير ارتفاع عدد القتلى والجرحى مخاوف من اتساع نطاق العنف في الولاية التي عانت تاريخيًا من العنف القبلي بجانب ولايتي كردفان ودارفور. ولا تنحصر مخاوف العنف في السودان فقط في الاشتباكات التي تشهدها ولاية النيل الأزرق ولا ارتفاع عدد ضحاياها، بل تمتد بواعث تلك المخاوف لكافة العوامل المحيطة بحالة السلام الاجتماعي في السودان؛ مع تعثر كافة جهود إحلال السلام، وسوء الأوضاع الاقتصادية واتساع نطاق الانقسام المجتمعي وتعثر العملية السياسية، ومن ثم عرقلة جهود إنفاذ اتفاق السلام والترتيبات الأمنية، التي كان يفترض بها أن تكون خطوة في معالجة مظالم الماضي من ثمّ المضيّ قدمًا في تحقيق التنمية في إطار عملية سياسية جديد ناجحة خلال المرحلة الانتقالية.