الأيديولوجيا هى صورة المجتمع كما يجب أن يكون. عندما تسود أيديولوجيا فى المجتمع فإنها توحد تصورات أفراده لما يجب أن تكون عليه الأمور. تكافح المجتمعات النامية لتغيير واقع التخلف وإعادة بناء نفسها، وتساعدها الأيديولوجيا فى تحديد الأهداف وتعبئة الجهود، بينما الأيديولوجيا فى البلاد المتقدمة المستقرة تحصن الواقع القائم وتدافع عنه. تقدم الأيديولوجيا للناس إطارا يفهمون من خلاله مجتمعهم: أصله وتطوره وكيف وصل إلى حالته الراهنة وأين يتجه مستقبلا. وتقدم الأيديولوجيا إطارا يشرح كل ذلك بطريقة منطقية عقلانية خالية من التناقضات والثغرات، فتتيح للمجتمع الخروج من الأزمة حين تقع. انكسر عبدالناصر فى يونيو 1967، لكن أيديولوجيا القومية الاشتراكية المعادية للاستعمار قدمت تفسيرا لما حدث وكيفية التغلب عليه، فخرج الناس رفضا للهزيمة والتنحى. فى المجتمع يتفاوت الناس فى كل شىء، السلطة والثروة والنجاح والسعادة، والأيديولوجيا تشرح ذلك، تقترح أسبابه، وتؤسس شرعيته. ينقسم المجتمع إلى فئات وطبقات يتفاوت نصيبها من السلطة والثروة، لكنها تتكامل فيما بينها لتنتج مجتمعا يكون صحيا ناجحا بقدر ما تقدم الأيديولوجيا تبريرا مقنعا للتفاوت الاجتماعى القائم، ولشروط التدخل لمنع تجاوز التفاوتات حدودا مقبولة يتوافق عليها المجتمع وتبلورها الأيديولوجيا. يحتاج المجتمع لأيديولوجيا تبرر وجوده وتحفظ تماسكه رغم التفاوت الاجتماعى القائم حتما، ولهذا يحتاج المجتمع إلى جهاز إنتاج الأيديولوجيا الخاصة به. عندما يضعف جهاز إنتاج الأيديولوجيا تبدأ علامات التفكك على المجتمع، وعلى العلاقة بين مكوناته: الأغنياء والفقراء، الحكام والمحكومين، المحافظين والمتحررين. يحرص المجتمع على تطوير جهازه الأيديولوجى، الذى يتولى إنتاج الأفكار والتأكد من ملاءمتها واتساقها ومصداقيتها واستدامتها، فى عملية متصلة من الذهاب والعودة بين عالم الأفكار وعالم الواقع. يختلف الجهاز الأيديولوجى عن أجهزة الإعلام والترويج، التى تبسط الرسالة حتى تصل إلى عموم الناس، وتحارب معارك السياسة اليومية لإضعاف الخصوم والدفاع عن المجتمع ومؤسساته.
عدم المساواة موجودة فى كل المجتمعات، فلبعض الناس نصيب من السلطة والثروة أكبر من الآخرين. المجتمع الصحى ليس هو المجتمع الذى تنعدم فيه عدم المساواة، لكنه المجتمع الذى تقدم فيه الأيديولوجيا تفسيرا وتبريرا مقبولا لعدم المساواة الموجودة فى المجتمع. فى غياب الأيديولوجيا التى تقوم بهكذا دور ينقسم المجتمع وتنشب فيه الصراعات بين أصحاب الامتيازات والمحرومين منها. الأيديولوجيا تضع الأساس الأخلاقى للمجتمع، بما فى ذلك ما فيه من عدم المساواة. هناك تداخل كبير بين الأساس الأخلاقى والشرعية، فما هو مقبول أخلاقيا يكون شرعيا، وما هو شرعى لا بد أن يكون متوافقا مع المبادئ الأخلاقية كما تحددها الإيديولوجيا. عندما تتسع المسافة بين ما هو أخلاقى وما هو شرعى، تتحول الشرعية إلى قواعد قانونية فارغة المحتوى، فينشب الصراع فى المجتمع، رغم وجود الأيديولوجيا. فى المجتمعات القديمة تم تبرير عدم المساواة بعلو الأصل، فالنبلاء أصحاب السلطة والثروة يأتون من أصول تختلف عن عامة الناس، ولهم صفات خاصة تنتقل بينهم من جيل للذى يليه. فى مصر القديمة كان الملك متصلا بالآلهة، زاعما لنفسه بعض صفاتها، وتداخلت طبقات النبلاء والكهنة والوزراء، الذين استمدوا مكانتهم من الدين وخدمتهم للآلهة والملك الإله. انتشر التعليم والمعرفة فى المجتمعات الحديثة، وقرأ الناس الصحف والكتب، ولم يعد تبرير عدم المساواة بالدين أو النبالة مقنعا، فظهرت أيديولوجيات جديدة تبرر الأشكال المستحدثة من عدم المساواة وتضفى عليها الشرعية. عند مفترق الطرق الاجتماعى بين المجتمع التقليدى والحديث ظهرت الشيوعية التى نزعت الشرعية عن كل أشكال عدم المساواة، ونادت بتأسيس المجتمع اللاطبقي. ما حدث فى البلاد الشيوعية معروف للكافة، فباسم الشيوعية والمساواة تم تأسسيس أكثر النظم انعداما للمساواة، فانحصرت السلطة فى يد نخبة الحزب الحاكم بينما تم فرض الصمت والخضوع الكامل على كل الآخرين.المفارقة هى أن حراسة مجتمع المساواة الكاملة الشيوعى بررت الاستبداد وأقصى درجات عدم المساواة. كان هذا مقبولا، لكن فقط لبعض الوقت، فقد انهار كل ذلك فى النهاية عندما انهارت النظم الشيوعية فى شرق أوروبا قبل ثلاثين عاما، بعد أن اتسعت الهوة بين المثال والواقع، وبين ما تبشر به الأيديولوجيا وما هو قائم بالفعل. فالأيديولوجيا ليست بديلا عن الواقع، ولا هى عصا سحرية يمكنها تبرير أى واقع مهما يكن أساسه الأخلاقى متهافتا. أفلتت مجتمعات الغرب من فخ الشيوعية، وهى نفس المجتمعات التى نجحت فى تطوير أيديولوجيا جديدة لعصر ما بعد سقوط النبلاء والإقطاع.
فى بلاد الغرب سادت أيديولوجيا الجدارة والاستحقاق، ووفقا لها فإن الناس غير متساوين لأن بعضهم أكثر ذكاء من البعض الآخر، أو أنه أكثر جدية ومثابرة، وهذا هو سبب عدم المساواة وأساسها الأخلاقى، وبحيث تصبح عدم المساواة هى النظام الطبيعى للمجتمع. حملت هذه الأيديولوجيا مجتمعات الغرب طوال القرن العشرين، أما الأزمة التى يواجهها الغرب حاليا فهى فى جانب منها أزمة الأيديولوجيا الليبرالية التى لم تعد قادرة على تقديم تبرير أخلاقى للأشكال والدرجات الجديدة من عدم المساواة فى مجتمعات الغرب.