يعد السودان –المطل على البحر الأحمر- أحد أهم الدول التي تسعى إسرائيل لضمها إلى دائرة العلاقات الإبراهيمية الجديدة، وأحد تطبيقاتها الأمنية وهو منتدى النقب للأمن الإقليمي.
أولا: دوافع إسرائيل للتطبيع مع السودان
تواجه إسرائيل عدة تحديات أمنية تتعلق بالتطورات الداخلية والخارجية السودانية. دفعت تلك التحديات إسرائيل لتسريع عجلة التطبيع مع السودان.
- اللاجئين السودانيين والأفارقة.
يهرب الآلاف من اللاجئين من جنسيات أفريقية مختلفة، وعلى رأسها الجنسية السودانية إلى إسرائيل سنويًا. اضطرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ يوليو 2017 تقديم تصاريح إقامة مؤقتة (مدتها 6 أشهر فقط قابلة للتجديد) لهؤلاء اللاجئين، مع البحث السياسي في إمكانية إعادتهم إلى بلدانهم الأم.
لا زال السودان لا يصدر مواطنيه الطالبين للجوء إلى إسرائيل فقط بل يعد ممرًا أساسيًا لمرور الآلاف من اللاجئين القادمين من إثيوبيا وإريتريا والصومال. لذلك كان من الضروري أن تبحث إسرائيل عن صيغة أمنية توافقية مع السودان لتحييد هذا التحدي الأمني.
- القاعدة الروسية والبحر الأحمر
تنظر إسرائيل بعين القلق إلى التقارب الروسي الإيراني، خاصة بعد أن عدته الولايات المتحدة “مؤشرًا مهددًا”، لذلك بات تلويح السودان وخاصة محمد دقلو (قائد قوات الدعم السريع)، هو ملمح خطورة وليس طلبا يمكن التساهل معه.
كذلك يعد السعي الإسرائيلي الحثيث بضم السودان إلى منتدى النقب للأمن الإقليمي، انعكاسًا لرغبة إسرائيل في الوجود في البحر الأحمر والتنسيق بشأن الحضور الروسي والإيراني العسكري.
يترائى التقدير لدى إسرائيل والقيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط “سنتكوم”، أنه كلما زاد الصراع الإسرائيلي-الإيراني أصبح هناك احتمال بتحول البحر الأحمر إلى مسرح عمليات إيرانية معادية لإسرائيل، علاوة على أن الحضور الروسي في البحر الأحمر قد يصاحبه تعزيز حضور عسكري إيراني في المنطقة. ويستدل على تلك المؤشرات بالإشارة إلى إبحار غواصة استراتيجية أمريكية واستقرارها في أعماق البحر الأحمر بعد حدثين وهما: إطلاق الصواريخ من لبنان وسوريا على إسرائيل، ورسو سفينة روسية على موانئ السعودية.
- الوصول إلى غرب أفريقيا
تعتبر إسرائيل احتدام الوضع الأمني على الحدود بين السودان وتشاد بالإضافة إلى أفريقيا الوسطى، تحديًا أمنيًا يعقبه هجرة الآلاف من اللاجئين الأفارقة إلى إسرائيل.
اتبعت إسرائيل استراتيجية جديدة تُدعى “الأمن الغذائي مقابل مكافحة الإرهاب”، مؤداها أن تقدم إسرائيل استثمارات في السودان وتشاد وغيرها من الدول الأفريقية، مقابل تحييد الأخطار الأمنية التي تسببها التنظيمات الإرهابية عبر مكافحتها بالأسلحة والتدريبات الفنية الإسرائيلية.
تستهدف إسرائيل من خلال هذه الاستراتيجية الوصول إلى دول غرب أفريقيا، بعد نجاح التجربة في السودان وتشاد مما يحفز الدول الأخرى على التطبيع مع إسرائيل، مثل مالي والنيجر وموريتانيا والسنغال.
ثانيا: طبيعة التعاطي الإسرائيلي مع خريطة المشهد السوداني
تنقسم المؤسسات السياسية والأمنية في إسرائيل إلى معسكرين اثنين رئيسيين في التعاطي مع الملف السوداني. المعسكر الأول، يشمل مجلس الأمن القومي، ومكتب رئيس الوزراء، ووزارة الخارجية. في حين يمثل الموساد معسكرا بذاته في التعاطي مع الملف السوداني.
لا يتقارب الفريقان الإسرائيليان في وجهات النظر؛ نتيجة التعقد العميق الذي يغلف المشهدين السياسي والأمني في السودان. إذ يوفر قائد الجيش السوداني عبد الفتاح برهان بعضًا من الضمانات السياسية والأمنية لإسرائيل، على عكس قائد قوات الدعم السريع “محمد دقلو” الذي يتماس في بعض النقاط السلبية مع إسرائيل. على الرغم من ذلك، يقدم الموساد الإسرائيلي رهانًا سياسيًا وأمنيًا على قوات الدعم السريع على أساس بعض الاعتبارات الجاري توضيحها.
ويرجع هذا التنافس في أحد عوامله إلى أن هناك شبكة من رجال الأعمال في قطاعات الاتصالات، والأمن السيبراني، والزراعة كانوا ضباطًا سابقين في الموساد، وهم على علاقة بأمراء الحرب في أفريقيا وبالتحديد في دول الصحراء.
- موقف إسرائيل من عبد الفتاح برهان:
قبل عودة نتانياهو إلى الحكم مرة أخرى في إسرائيل، كان يسيطر على المؤسسات الأمنية الإسرائيلية تنافسًا خفيًا بهدف السيطرة على ملف التطبيع مع الدول الأفريقية وبالتحديد دولتي السودان والمغرب.
يراهن مجلس الأمن القومي الإسرائيلي ووزارة الخارجية الإسرائيلية، على عبد الفتاح البرهان كونه القائد الأول للقوات السودانية، والذي بيده التصديق على وثيقة التطبيع مع إسرائيل، ومتماشيًا مع التقارب مع الولايات المتحدة.
لا يتبنى البرهان موقف التقارب مع روسيا وفتح المجال أمام إنشاء قاعدة روسية تطل على البحر الأحمر، بل يتبنى التقارب مع الولايات المتحدة من أجل رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، وضخ الاستثمارات في الاقتصاد السوداني المتهالك، والسماح بشراء أسلحة تعزز من قوة الجيش السوداني الضعيف نسبيًا أمام قوات الدعم السريع.
أما فيما يتعلق بعلاقة السودان بجيرانه من الدول الأفريقية، فإن عبد الفتاح البرهان يضمن لإسرائيل استراتيجية سياسة خارجية ناجحة مع دول مثل التشاد، وأفريقيا الوسطى. إذ تستطيع إسرائيل أن تخترق مثلث دول السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى عبر استراتيجية الأمن الغذائي مقابل مكافحة الإرهاب، ويستدل عليه في زيارة وزير خارجية إسرائيل بعد يومين فقط من إتمام اللقاء الذي جمع البرهان والرئيس التشادي (فبراير 2023)، وهي الزيارة التي لم تجري بتنسيق مع محمد دقلو وأعلن عن عدم علمه بها.
- موقف إسرائيل من محمد دقلو:
تتنامى المؤشرات التي تدل على دعم الموساد الإسرائيلي لقائد قوات الدعم السريع “محمد دقلو”، مثل تسريب نبأ منح الموساد الإسرائيلي أجهزة تجسس لـ “دقلو” بغرض اختراق اتصالات قادة في الجيش السوداني، (رغم نفي دقلو لهذا الخبر). وكذلك زيارة دقلو لإسرائيل مرتين في عامي 2020 و2021 ولقائه بضباط من الموساد.
وفي 2021، تلقت حكومة بينيت-لابيد في إسرائيل اتصالات تعبر عن استياء سوداني واضح بسبب اللقاءات السرية التي يجريها الموساد مع محمد دقلو. واعتبر البرهان وحمدوك هذه الاتصالات حينها تآمرًا من «الموساد» على السلطات الشرعية في السودان.
يدرك الموساد القوة النسبية التي تحيط بقوات الدعم السريع مقارنة بالجيش السوداني، الذي يفقد السيطرة في الغرب حيث إقليم دارفور المشاطئ لحدود تشاد وجنوب ليبيا. وتجدر الإشارة إلى أن محمد دقلو يسهل للموساد لقاء المجلس الرئاسي الانتقالي في تشاد سرًا.
كما أن فرص عقد اتفاق سلام بين محمد دقلو وقادة الفصائل المسلحة المتعددة مثل “الحلو” و”عبد النور” جيدة، تمكن تحقيق فرص نجاح لفرض هدوء واستقرار أمني في غرب السودان.
تلقت إسرائيل تنسيقًا سياسيًا أمريكيًا، وذلك عقب تسرب الأخبار التي تكشف اتصالات الموساد مع قوات الدعم السريع على حساب الجيش الإسرائيلي، وطلبت واشنطن من إسرائيل فتح اتصالات مكثفة مع المكون المدني في السودان. لذلك يرى الموساد أن حجم التفاهم الذي يربط محمد دقلو بالمكون المدني، أكبر من التفاهم الذي بين عبد الفتاح برهان والمدنيين السودانيين. وعليه، تستطيع إسرائيل ضمان اتصال ناجح مع المدنيين عبر العلاقة الوثيقة التي تربط الموساد ومحمد دقلو.
ثالثا: مسارات الحركة الإسرائيلية المحتملة
- اتصف الموقف الإسرائيلي والتعاطي مع ملف السودان بـ “التنافس الداخلي” في إسرائيل بين الموساد من جهة، ورئاسة الوزراء ومجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية من جهة أخرى، خاصة في ظل حكومة بينيت-لابيد.
- لا يمكن وصف هذا التعاطي الإسرائيلي في الوقت الحالي في ظل حكومة نتانياهو بـ “التنافس”؛ نتيجة التقارب الحاصل بين رئيس الموساد ونتانياهو، وذات التقارب والتفاهم بين نتانياهو و “إيلي كوهين” وزير خارجية إسرائيل، أما مجلس الأمن القومي فهناك تفاهم في وجهات النظر بين رئيسه “تساحي هانجبي” ونتانياهو، خاصة بعد أزمة الإصلاح القضائي في إسرائيل.
- تتراكم مجموعة من المؤشرات التي تمنح إسرائيل صفة “اللاعب المركزي” في وساطة محتملة في المشهد السوداني الأخير في حال أعلنت إسرائيل عن ذلك.
- تحتل إسرائيل مكانة جيدة لدى رئيس المجلس الانتقالي “عبد الفتاح برهان”، وقائد قوات الدعم السريع من خلال الموساد.
- لا يتبقى لإسرائيل سوى كسب علاقة جيدة مع المكون المدني في السودان، الذي يرفض التطبيع مع إسرائيل بدون حل القضية الفلسطينية. يستدل على ذلك حرص محمد دقلو على وصف التقارب مع إسرائيل بـ “العلاقات” وليس “التطبيع”، على عكس موقف البرهان الذي ينادي بالتطبيع المباشر مما أفقده بعض الشعبية الداخلية في الشارع السوداني.
- لذلك من المرجح أن تكثف إسرائيل اتصالات على مستويين رسمي وسري مع قيادات المكون المدني.
تستفيد إسرائيل من إعلان الوساطة بين الأطراف السودانية من أجل تحقيق الأهداف (في الوقت الحالي) التي ارتسمت في الدوافع سابقة الذكر، وهي:
- فرض الهدوء والاستقرار الأمني في أرجاء السودان، خاصة من ناحية الحدود الإثيوبية، وحدود تشاد، مما يتطلب الكثير من التنسيق الأمني مع القادة العسكريين.
- فتح تنسيق أمني مكثف بشأن حدود السودان المطلة على البحر الأحمر؛ لتحييد خطر حضور إيراني عسكري.
باحث بوحدة الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية