المقاومة حق مشروع، هذا أمر لا جدال فيه. المقاومة هى دفاع الشعب تحت الاحتلال عن النفس. الحق فى المقاومة هو الامتداد الطبيعى لحق الدولة فى الدفاع عن النفس، والتعبير المنطقى عن حق الشعوب فى تقرير المصير. غير أن الأساس النظرى والأخلاقى السليم لا يكفى للوصول إلى الهدف وتحقيق النصر.فقوة غاشمة لا تستند إلى أى حق أو مبدأ قانونى أو شرعى أو أخلاقى، لكنها تطبق تكتيكات عملية سليمة سيكون بإمكانها تحقيق النصر ضد قوة تستند لكل مبادئ الأخلاق والقانون، لكنها تطبق تكتيكات خاطئة.
محاكمة المقاومة وتقييمها تتم على مستويين. أولا مستوى المبادئ والأخلاق والضمير، للبرهنة على اننا إزاء مقاومة عادلة تستند إلى الحق والقانون والأخلاق. ثانيا مستوى النتائج العملية، فالشعوب لا تقاوم لكى تستمتع بممارسة حقها المكفول والشرعى فى المقاومة، إنما من أجل النصر والتحرر، وصولا إلى القضاء على الأسباب الموجبة للمقاومة ذاتها.
حق الشعوب تحت الاحتلال فى الدفاع عن النفس هو حق لا مساومة فيه، لكن كل عملية من عمليات المقاومة هى تطبيق مستقل لهذا الحق، تستحق تقييما خاصا بها، يدرس الهدف، والتوقيت، وتقدير ردود الفعل، والمكاسب المتوقعة، والخسائر المحتملة. عندما نتساءل عن حسابات المكسب والخسارة فى طوفان الأقصى فإننا لا نتساءل عن المقاومة كمبدأ وحق لا يخضع فى حد ذاته لحسابات المكسب والخسارة، ولكننا نسأل عن هذه العملية المحددة، والتى ستكون منطقتنا بعدها مختلفة تماما عما كانت قبلها.
الإنسان كائن عقلانى، يسعى لزيادة مكاسبه، وهو عندما يقوم بمبادرة ما، فإنه يتوقع أن يكون بعدها أفضل حالامما كان عليه قبلها. فكيف ينطبق هذا على طوفان الأقصى، وما هى حسابات قادة المقاومة عندما قرروا القيام بهذا الهجوم الكبير؟ نحن لا نعرف مدى تطابق المشهد الذى نراه فى قطاع غزة بعد شهر من طوفان الأقصى مع ما خطط له قادة حماس. أكثر من عشرة آلاف شهيد، ونزوح أكثر من ثلثى سكان القطاع، وتدمير المئات من المنازل والمنشآت، فيما مازال القصف والقتل مستمرين. الوضع فى غزة كارثى بكل المقاييس، ولا يمكن بأى معيار اعتبار غزة الآن أفضل مما كانت عليه قبل الطوفان. هل حماس الآن فى وضع أفضل مما كانت عليه قبل «طوفان الأقصى»؟ كانت حماس تحكم غزة، وتبنى ترسانة عسكرية، وتحفر شبكة أنفاق، وتطلق الصواريخ فى مناسبات مختارة، وتتطلع إلى مد نطاق سلطتها للضفة الغربية. الآن أصبحت رءوس قادة حماس مطلوبة، وأصبح إنهاء حكم الحركة فى القطاع هو الهدف المباشر لإسرائيل والولايات المتحدة وكل المعسكر الغربى.
لا الشعب الفلسطينى ولا منظمة حماس أفضل حالا الآن مما كانا عليه قبل الطوفان. الرابح الوحيد فى هذه المجازر المتوالية هو حل الدولتين الذى أعيد له الاعتبار كمخرج وحيد من هذا الصراع الدامى. لكن هل يحظى حل الدولتين بتأييد حماس؟ وماذا لو تحقق حل الدولتين لكن بعد إضعاف واستبعاد حماس، فهل هذا هو ما خططت حماس له، وهل اختارت حماس التضحية بنفسها من أجل دولة فلسطينية يحكمها خصومها فى رام الله؟ هل خططت حماس لإشعال حريق إقليمى كبير، ينضم له حلفاء معسكر المقاومة، فيما تنهار السلطة فى رام الله تحت ضغط الجماهير، فيتحقق انقلاب استراتيجى فى ميزان القوة لصالح معسكر المقاومة؟ التصريحات القادمة من طهران والضاحية تؤكد أن أحدا لم يستشرهم فى هذا الأمر، وأن هذا يعفيهم من إلقاء أنفسهم فى الحريق المشتعل. فهل خيب الحلفاء توقعات حماس؟ هل نجحت عملية طوفان الأقصى بأكثر مما كان مخططا لها، وأكثر مما تمناه قادة حماس؟
هل خططت حماس لمفاجأة جيش إسرائيل على الجانب الآخر من الحدود، لكنها لم تجد هناك سوى شبه جيش، وفوجئت بالطرق نحو البلدات والمستوطنات مفتوحة، فقتلت وأسرت من الجنود والمدنيين بأكثر مما خططت له؟ هل خططت حماس لأسر عدد من الجنود يكفى لتحرير الأسرى الفلسطينيين فى سجون الاحتلال عن طريق المبادلة، لكنها انتهت وفى يدها أكثر من مائتين من الأسرى العسكريين والمدنيين، بما يفوق كثيرا حاجتها للمقايضة؟ هل خططت حماس لخطف جنود إسرائيليين، فوجدت الطريق مفتوحا للبيوت والمزارع والمراقص، فاجتهد المهاجمون الفلسطينيون كل وفق تصوراته، فترك بعضهم الأسرى المدنيين يفلتون، فيما قام البعض الآخر بأسرهم أو قتلهم؟ لقد كان المشهد على الجانب الإسرائيلى من الحدود فوضويا تماما بسبب الغفلة المذلة التى كان عليها جيش إسرائيل. إن مشهد الأسيرة المنقولة على موتوسيكل، والآخرين المحمولين على سيارة عسكرية إسرائيلية تم الاستيلاء عليها بمعرفة شبان من غير كوادر حماس العسكرية، إنما مدنيون فلسطينيون وصلتهم أخبار الحدود المفتوحة والجيش الغائب، فاندفعوا يعبرون عن غضب السنين المتراكم، حتى إن بعضهم احتفظ بأسراه فى حوزته. هل انتهى الأمر بحماس وتحت يدها حصيلة كبرى من الأسرى المدنيين، فكان هذا نصرا كبيرا، لكن ليوم واحد فقط، بعده تحول هؤلاء إلى عبء كبير؟ سيمر وقت طويل قبل أن نعرف ما جرى يوم السابع من أكتوبر الماضى. يكفى الآن آن نعلم أنه فى ظروف الصراع فإنه مهما كانت الحسابات دقيقة فإن الأخطاء والمصادفات المفزعة واردة، وأنه ليس لأحد فى هذه المنطقة أن يأمن قبل أن يحصل الفلسطينيون على وطن ودولة. هذه هى القيمة الكبرى «لطوفان الأقصى».