شهدت المدن الكينية مظاهرات حاشدة في جميع أنحاء البلاد على مدى الأسابيع القليلة الماضية، اندلعت الشرارة الأولى لهذه الاحتجاجات يوم 18 يونيو على خلفية رفض الكينيين لمشروع قانون المالية الجديد للعام 2024/ 2025، لما تضمنه من زيادة في الضرائب على مختلف السلع والخدمات.
وتصاعدت الاحتجاجات بشكل خاص منذ يوم 25 يونيو، بعد إقرار البرلمان للقراءة الثالثة لمشروع القانون المثير للجدل، بأغلبية 195 صوتًا مقابل 106 أصوات، ونتيجة لذلك هاجم المحتجون مبنى البرلمان وأضرموا النيران في أجزاء منه، وأدت الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن إلى مقتل ما يقرب من 40 فرد، وإصابة 361 آخرين. ما دفع الرئيس الكيني “وليام روتو” لسحب قانون المالية، والاستعاضة عنه بخطة تقشفية تهدف إلى تقليل الإنفاق الحكومي لتقليل العجز في الموازنة.
ماذا يحدث في كينيا؟ – تفاصيل قانون المالية الجديد
في ظل وجود فجوة تمويلية تصل إلى 7.6 مليارات دولار في موازنة كينيا 2024/2025، لجأت حكومة روتو إلى سلسلة واسعة من الزيادات الضريبية على مختلف السلع والخدمات كوسيلة لزيادة الإيرادات الحكومية بنحو 2.7 مليار دولار، وتقليل اعتماد كينيا على الاقتراض لتمويل ميزانيتها، بما في ذلك ضرائب على سلع أساسية مثل المنتجات البترولية والخبز والزيوت النباتية، وضريبة قيمة مضافة بنسبة 16%، وضريبة بيئية على المنتجات التي تعد ضارة بالبيئة، مثل مواد التعبئة والتغليف والبلاستيك والإطارات، بالإضافة إلى زيادة الضرائب على تحويل الأموال عبر الهاتف المحمول، وضرائب على استخدام الإنترنت، وضريبة سنوية جديدة بنسبة 2.5% على السيارات، إلى غير ذلك. ما من شأنه أن يزيد من أسعار بعض السلع الأساسية، ويرفع من تكاليف المعيشة على الكينيين الذين يعانون ارتفاع تكاليف المعيشة بالفعل.
قوبل مشروع قانون المالية برفض وانتقادات واسعة، خاصة من فئة الشباب من الجيل Z -المولودين بين عامي 1997 و2012-، الذين نظموا احتجاجات عبر الإنترنت، مع بداية عرض مشروع القانون على البرلمان في مايو، تحت شعار #RejectFinanceBill2024 على مواقع التواصل الاجتماعي مثل TikTok وX، وبدرجة أقل فيسبوك، قبل أن تنتقل الاحتجاجات إلى أرض الواقع في 18 يونيو، وتتصاعد بعد ذلك في إطار حركة أطلق عليها اسم “7 أيام من الغضب” خلال الفترة من 21 يونيو إلى 27 يونيو، وامتدت الاحتجاجات إلى ما يقدر بنحو 35 مقاطعة من مقاطعات كينيا البالغ عددها 47 مقاطعة، بما في ذلك دائرة روتو الانتخابية في إلدوريت.
في غضون ذلك، طالب آلاف المتظاهرين المشرعين برفض مشروع قانون المالية لعام 2024، ورغم الاحتجاجات، أقر البرلمانيون مشروع قانون المالية في قراءته الثالثة بأغلبية 195 صوتًا مقابل 106 أصوات، وذلك قبل أن يعلن روتو سحبه يوم الأربعاء 26 يونيو. وعلى الرغم من قيام روتو بإعلان سحب قانون المالية، استمرت الاحتجاجات وتصاعدت مطالب المتظاهرين من إسقاط قانون المالية إلى المطالبة باستقالة روتو، والقصاص للقتلى، وإطلاق سراح المعتقلين.
أثارت هذه الاضطرابات قلق المجتمع الدولي، حيث دعا البيت الأبيض إلى الهدوء، وقال سفراء ومفوضون سامون من 13 دولة، بينهم بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وألمانيا، في بيان مشترك إنهم يشعرون بقلق عميق إزاء أعمال العنف التي تشهدها كينيا خلال الاحتجاجات الأخيرة المناهضة للضرائب، ودعوا إلى ضبط النفس من جميع الأطراف. وكذا أعرب رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي محمد عن “قلقه العميق” إزاء الخسائر في الأرواح، وحث جميع الأطراف المعنية على التزام الهدوء والامتناع عن المزيد من العنف.
حكومة روتو- استجابات سريعة لكن غير مُرضية
لم يدرك روتو في بداية الأمر أبعاد الأزمة، وظن أنها مجرد تظاهرات على الإنترنت تقودها مجموعة من الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 عام، ولن يكون لها تأثير يُذكر في سير خطته لاعتماد قانون المالية الجديد الذي يتضمن مجموعة واسعة من الضرائب على مختلف السلع والخدمات، خاصة وأن الاحتجاجات في كينيا عادة ما كان يتم الدعوة لها من قبل القادة السياسيين، الذين يقبلون التوصل إلى تسويات عن طريق التفاوض، ولكن على غير المتوقع، استطاع الشباب من الجيل Z، الذين لم يكن لهم قيادة معروفة أو انتماء محدد، نقل احتجاجاتهم إلى أرض الواقع، وشهدت المدن الكينية احتجاجات واسعة، لم تقف حدود مطالبها عند التراجع عن مشروع قانون المالية، وإنما امتدت لتهدد وجود روتو في الحكم. ما أجبر روتو على التعامل مع الأمر بجدية أكثر، ودفعه لاتخاذ عدد من الإجراءات الرئيسية في محاولة لاحتواء الأزمة، تضمنت هذه الإجراءات ما يلي:
- تعديل مشروع قانون المالية: مع بداية التظاهرات عرض روتو تعديل مشروع قانون المالية وإسقاط بعض الضرائب المخطط لها، بما في ذلك الضرائب على الخبز والسيارات والزيوت النباتية والنقل والسكر والخدمات المالية، فضلًا عن إلغاء الضريبة البيئية المقترحة على المنتجات المصنعة محليًا.
وكان من المتوقع أن تؤدي التنازلات بشأن زيادات الضرائب إلى فجوة قدرها 200 مليار شلن كيني (1.55 مليار دولار) في ميزانية 2024/2025 وتتطلب خفض الإنفاق. لكن المحتجين قالوا إن التنازلات لم تكن كافية واستمروا في احتجاجهم لحين إلغاء مشروع القانون بأكمله.
- التراجع نهائيًا عن قانون المالية: في خطاب متلفز ألقاه يوم الأربعاء 26 يونيو، رضخ روتو لضغوط المتظاهرين، وتراجع خطوة إلى الوراء، معلنًا إنه لن يوقع على مشروع قانون المالية المثير للجدل الذي أدى إلى الاحتجاجات، ليصبح قانونًا، وأنه سوف يعود إلى البرلمان مع التوصية بحذف جميع بنوده. جاء ذلك بعد أن اقتحم المتظاهرون المعارضون لمشروع القانون البرلمان الكيني في 25 يونيو، بعد الموافقة على مشروع القانون في القراءة الثالثة بأغلبية 195 صوتًا مقابل 106.
وفي حين رحب العديد من المتظاهرين بتراجع روتو، لم يكتفِ البعض بذلك، وتعهدوا بمواصلة التظاهرات لحين استقالة روتو، والقصاص لزملائهم الذين قتلوا في التظاهرات. - إعلان خطة تقشفية: بالتزامن مع سحب مشروع قانون المالية، ستتحول السياسة المالية لكينيا من زيادة الإيرادات إلى خفض النفقات، حيث أعلن روتو يوم الجمعة 28 يونيو أن الحكومة ستعمل على اتباع إجراءات تقشفية -بدءًا بخفض ميزانية الرئاسة ومخصصات المقاطعات، بالإضافة إلى الحد من الإنفاق على الخدمات الحيوية والأساسية، والتركيز على الإنفاق التشغيلي.
وخلال مؤتمر صحفي في نيروبي يوم الجمعة 5 يوليو 2024. أعلن روتو تفاصيل أكثر حول خطته تضمنت خفض 1.39 مليار دولار من الميزانية واقتراض الفرق، وذلك من خلال القضاء على 47 شركة حكومية ذات وظائف متداخلة أو مكررة، وتقليل 50% من عدد المستشارين الحكوميين، والتقاعد الإلزامي عند بلوغ 60 عامًا، وتعليق شغل مناصب كبار الأمناء الإداريين في الحكومة، وعدم استخدام أموال الحكومة لتشغيل مكاتب السيدة الأولى وزوجة نائب الرئيس وأمين عام مجلس الوزراء.
بالإضافة لذلك، تضمنت خطة روتو تعليق مشتريات الحكومة من المركبات الجديدة لمدة عام، باستثناء وكالات الأمن، كما تم تعليق جميع السفر غير الضروري لموظفي الدولة والمسئولين العموميين، إلى جانب العديد من الإجراءات الأخرى، وذلك للمساعدة في معالجة العجز المالي الحادث نتيجة التراجع عن فرض الضرائب الجديدة، فضلًا عن تعيين فريق عمل مستقل لإجراء تدقيق شامل للدين العام للبلاد بما يسهم في إدارته بشكل مستدام.
- وأخيرًا، دعوة للحوار: في محاولة لاسترضاء المتظاهرين وكبح جماح غضبهم، تعهد روتو ببدء حوار مع الشباب الكيني والهيئات المهنية والدينية، من خلال مبادرة متعددة القطاعات تسعى إلى إيجاد حلول للقضايا التي تواجه البلاد، وبدأ أولى خطوات الحوار الفعلي يوم الجمعة 5 يوليو من خلال مشاركته في مناقشة صوتية مباشرة عبر “X Spaces”، حضرها 163 ألف مشترك.
الجذور الاقتصادية للأزمة – الأسباب
لم يكن قانون الضرائب الجديد سوى الشرارة التي انطلقت منها الاحتجاجات، بينما تساعد العديد من القضايا الأساسية التي لم يتم حلها في تفسير قوة وحجم هذه الاحتجاجات المناهضة لمشروع قانون المالية، تتمثل أبرز هذه القضايا في:
- ارتفاع الدين العام، وضغوط صندوق النقد
يبلغ الدين السيادي الكيني حوالي 70% من الناتج المحلي الإجمالي، وتتضاعف أعباء الديون بفعل أسعار الفائدة العالمية المرتفعة، حيث يزيد عبء الدين العام في كينيا عن 82 مليار دولار، ويذهب أكثر من نصف الإيرادات الحكومية التي تحصلها كينيا إلى خدمة الديون، الأمر الذي يعوق قدرة البلاد على دعم مشاريع التنمية الضرورية للنمو، ويدفع البلاد نحو حالة من عدم الاستقرار، فضلًا عن مخاطر التخلف عن سداد الديون.
في غضون ذلك، تجدر الإشارة إلى أن حجم الدين العام في كينيا تزايد بشكل ملحوظ بين عامي 2021 و2023، من 7.3 تريليونات شلن كيني في يناير 2021 إلى نحو 11.2 تريليون شلن (82.1 مليار دولار) في ديسمبر 2023، وكانت الزيادة الأكبر بعد تولي روتو للحكم.
شكل (1): الدين العام في كينيا 2021-2023 بمليار شلن كيني
Source: Statista
وتتعرض حكومة روتو لضغوط من صندوق النقد الدولي، الذي حث نيروبي على تنفيذ الإصلاحات من أجل الوصول إلى التمويل. وهو ما يمثل مصدرًا آخر لغضب الكينيين نتيجة اعتقادهم بأن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي هما اللذان يتخذان القرارات الاقتصادية في كينيا، ويعملان على تآكل سيادتها واستقلالها.
ومع ذلك، لم تكن القروض وحدها هي التي أوصلت كينيا إلى مأزقها المالي الحالي، حيث تضررت البلاد بشدة من جائحة كوفيد-19، وعانت أيضًا من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، فضلًا عن التأثيرات السلبية للفيضانات وفترات الجفاف الناجمة عن تغير المناخ، مما أضر بشدة اقتصاد البلاد.
- انتشار الفساد
يرجع هذا الغضب الذي يقود الاحتجاجات في كينيا، في جزء منه، إلى الشعور بالغضب من سرقة الموارد العامة، والفساد المنتشر في الدولة على كل المستويات، مما يؤثر سلبًا على حياة الكينيين؛ حيث أدى الفساد إلى تباطؤ النمو الاقتصادي في كينيا، مما أدى إلى تحويل الأموال بعيدًا عن الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية، واستنزاف الموارد التي كان من الممكن استثمارها في خدمات أساسية مطلوبة بشدة، فضلًا عن دوره في إعاقة التنمية الاقتصادية في البلاد وتقييد أداء الحكومة.
في هذا السياق، تقدر لجنة الأخلاقيات ومكافحة الفساد أن كينيا تخسر حوالي 6 مليارات دولار سنويًا بسبب الفساد، وتشير في تقريرها إلى ارتفاع نسبة الأشخاص الذين أبلغوا عن دفع رشاوي من 55.9٪ في عام 2021 إلى 64٪ في عام 2022، بينما يصنف مؤشر مدركات الفساد السنوي لمنظمة الشفافية الدولية كينيا في المرتبة 126 من بين 180 دولة في عام 2023.
شكل (2): وضع كينيا في مؤشر مدركات الفساد خلال الفترة من 2012 – 2023
المصدر: منظمة الشفافية الدولية، مؤشر مدركات الفساد.
وتشير بيانات المؤشر إلى حصول كينيا على 31 درجة في عام 2023، وذلك ارتفاعًا من 27 درجة عام 2012، مما يعني تحسين نتائجها بشكل عام في المؤشر، ولكنها لا تزال تعاني مستويات مرتفعة من الفساد.
وعلى الرغم من أن هذا الفساد هو نتاج عقود مضت، فإن الشباب مصاب بإحباطات واسعة النطاق بسبب فشل الرئيس ويليام روتو في الوفاء بوعوده الانتخابية بمعالجة الفساد، فضلًا عن أنه في ظل ما يتضمنه قانون المالية من زيادة الضرائب، فإن 44.5% من الكينيين يعتبرون مسئولي الضرائب فاسدين، وفقًا للبيانات الصادرة عن مؤسسة “أفرو باروميتر” البحثية.
- ارتفاع معدل بطالة الشباب
تمثل البطالة بين الشباب في كينيا مشكلة بشكل خاص بالنسبة للشباب، الذي يعاني بالفعل من الجزء الأكبر من البطالة في البلاد، فبينما يستقر معدل البطالة الإجمالي عند 5.5%، نجد أن نسبته بين الشباب من عمر 15 -24 عامًا تصل إلى نحو 13.35% في عام 2022، وتعد كينيا بذلك أعلى دولة في مجموعة شرق أفريقيا في معدل بطالة الشباب، بينما يقدر اتحاد أصحاب العمل الكيني أن معدل البطالة بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و34 عامًا في البلاد يصل إلى 67%.
يتضح حجم الأزمة بالنظر لكون كينيا دولة شابة بأغلبية ساحقة، وما يقرب من 70% من سكانها -البالغ عددهم حوالي 55 مليون نسمة- هم تحت سن 34 عامًا؛ مما يعني أن ما يقرب من نصف سكان كينيا عاطلون عن العمل، وهو ما يفسر إلى حد كبير حجم الإحباط والغضب والسخط الذي يشعر به الشباب الكيني، الذين صوت العديد منهم لصالح روتو قبل عامين، فقط عندما قال إنه سيخلق مليون وظيفة جديدة، لكنهم يشعرون الآن بأن الوعود التي قطعت لهم قد تعرضت للخيانة وأن مستقبلهم قد سُرِق.
- انتشار الفقر
أصبحت كينيا دولة متوسطة الدخل من الشريحة الدنيا في عام 2014، ومع ذلك، لا تزال تعاني من مستويات مرتفعة من الفقر؛ مما يزيد من غضب الكينيين، خاصة وأن الضرائب التي كان ينتوي روتو زيادتها يدفع تكلفتها الفقراء في الأساس.
شكل (3): نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مدقع في كينيا خلال الفترة من 1992 إلى 2021
المصدر: البنك الدولي
وفقًا للبنك الدولي يعيش ما يزيد عن 19 مليون كيني في فقر مدقع، على أقل من 1.9 دولار يوميًا، بما يعادل حوالي 36% من سكان كينيا، بينما يتخطى هذه النسبة 70% من السكان الذين يعيشون على أقل من 3.2 دولارات يوميًا.
وعلى الرغم من تحقيق كينيا لمعدل نمو اقتصادي وصل إلى حوالي 5.4% في عام 2023، فإن سوء الإدارة إلى جانب الزيادة السكانية تبتلع المنافع الاقتصادية المحققة، وتصعب من تحقيق هدف الحد من الفقر.
- ارتفاع تكاليف المعيشة
مثّل الارتفاع الحاد في أسعار السلع الأساسية، وخاصة الغذاء والوقود، محفزًا للاحتجاجات في كينيا. وفي هذا السياق، أثار مشروع قانون المالية حفيظة الشباب الكيني نظرًا لتضمنه على زيادات ضريبية على كل شيء بدءًا من الدخل والوقود إلى السلع الأساسية مثل الخبز والبيض والزيوت، ما يُنبئ بمزيد من الارتفاع في تكاليف المعيشة ومزيد من الضغوط لشعب يعيش 36% منه في فقر مدقع، ونصف قوته العاملة تقريبًا عاطلة عن العمل.
- إحباط الشباب من وعود روتو الانتخابية
إلى جانب الأسباب المذكورة، ربما كانت الوعود التي قدمها روتو في حملته الانتخابية قبل عامين عاملًا مساعدًا على ارتفاع نسبة سخط الشباب الكيني وغضبه من روتو الذي قدم نفسه باعتباره مرشحًا عن الطبقة الفقيرة، ووعد بأنه سيخلق مليون فرصة عمل جديدة، فضلًا عن وعوده بالضرائب التصاعدية، والقضاء على الفساد، ولكنهم يشعرون الآن أن الوعود التي قطعت لهم قد تعرضت للخيانة وأن مستقبلهم سُرق.
- الدور الفاعل لوسائل التواصل الاجتماعي
لعبت وسائل التواصل الإجتماعي الدور الأبرز في بدء وتحريك الاحتجاجات، حيث بدأت في الأساس من خلال دعوات قادها الشباب الكيني على وسائل التواصل الإجتماعي، هذا بالإضافة إلى دورها في نشر الشائعات التي ساهمت في تأجيج الأزمة، ففي ظل السياق الفوضوي للعنف الذي شهدته شوارع العاصمة الكينية، بدأت الشائعات تنتشر على نحو متزايد، خاصة فيما يتعلق بتعامل قوات الأمن مع المتظاهرين، وما تم نشره من مقاطع فيديو مضللة تفيد وقوع مذبحة -مزعومة- للمدنيين في جيثوراي، وهي ضاحية سكنية تقع على بعد 14 كيلومترًا شمال شرق وسط نيروبي؛ مما أدى إلى تأجيج الغضب العام وتأجيج الوضع الذي كان متوترًا بالفعل.
التداعيات الناجمة عن الاحتجاجات
أدت الاحتجاجات الواسعة في كينيا إلى حدوث عدد من الآثار والتداعيات على المستوى المحلي والإقليمي، يتمثل أبرزها في ما يلي:
- خسائر في الأرواح والممتلكات
أدت الاشتباكات الدامية مع الشرطة في نيروبي، خاصة بعد اقتحام المتظاهرين لموقع البرلمان، إلى وقوع خسائر بشرية في صفوف المحتجين، وتشير التقارير الرسمية الصادرة عن هيئة حقوق الإنسان الوطنية في كينيا إلى أنه فيما يتعلق بالاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، قُتل 39 شخصًا وأصيب 361 آخرون، فضلًا عن وجود 32 حالة “اختفاء قسري أو غير طوعي” و627 حالة اعتقال للمتظاهرين، خلال الفترة من 18 يونيو إلى 1 يوليو 2024. وتشير تقارير إعلامية إلى إن عدد القتلى والمختفين الذي أعلنته اللجنة الوطنية الكينية لحقوق الإنسان قد يكون أقل من الأرقام الحقيقية، ولكن لا يوجد أدلة على ذلك.
وبالإضافة إلى الخسائر في الأرواح، نهبت الحشود مجمع البرلمان في وسط نيروبي وأضرمت النيران فيه جزئيًا، كما اشتعلت النيران لفترة وجيزة في مكتب حاكم نيروبي، وأضرمت النيران في المركبات المتوقفة أمام المحكمة العليا في كينيا، القريبة من قاعة المدينة. وكذا تم استهداف منازل وشركات البرلمانيين الذين أيدوا زيادة الضرائب، مما أدى إلى خسائر كبيرة.
- زيادة الضغوط الاقتصادية
على الرغم من أن الضغوط الاقتصادية التي تعاني منها كينيا كانت هي المحرك الحقيقي وراء الاحتجاجات الحالية، فإن الوضع الاقتصادي بعد الاحتجاجات لن يكون أفضل حالًا عن قبلها، بل على العكس من ذلك، فمن المتوقع أن تزداد الضغوط الاقتصادية نتيجة لاتساع فجوة التمويل بعد إلغاء قانون المالية الجديد، والذي سيتم تمويل جزء منه عن طريق زيادة الاقتراض، وبالتالي زيادة حجم الديون، فبدلًا من اقتراض 600 مليار شلن المخططة، ستحتاج حكومة روتو إلى اقتراض 170 مليار شلن إضافي (حوالي 1.3 مليار دولار) لسد العجز، مما يعني أن كينيا ستضطر إلى اقتراض حوالي 800 مليار شلن (6.3 مليارات دولار أمريكي).
فضلًا عن الضغوط الناتجة عن اتباع السياسة التقشفية التي أعلن عنها روتو لتقليل الإنفاق الحكومي وتخفيف الضغط على ميزانية الدولة، وأشار روتو إلى إن إسقاط قانون المالية من شأنه أن يؤثر في توظيف 46 ألف مُعلّم في المرحلة الإعدادية، الذين كانوا يعملون بعقود مؤقتة، فضلًا عن التأثير السلبي في توفير الرعاية الصحية، وتخفيض دعم مزارعي الألبان وقصب السكر والقهوة، بما في ذلك سداد الديون المستحقة على مصانعهم وجمعياتهم التعاونية كما كان مخططًا له، مما سيؤدي بالتبعية إلى زيادة الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة على المواطنين الكينيين.
- خسائر انقطاع الإنترنت
شهدت كينيا يوم الثلاثاء 25 يونيو، في ظل الاحتجاجات التي تزامنت مع تصويت البرلمان على مشروع قانون المالية، انقطاعًا في خدمة الإنترنت على الرغم من أن هيئة الاتصالات الكينية كانت قد بددت في وقت سابق المخاوف من احتمال حدوث انقطاع، وأرجعت شركة “سفاريكوم”، أكبر مشغل لشبكات الاتصالات في كينيا، تباطؤ خدمة الإنترنت إلى انقطاع كابلين بحريين، بينما يُشكك المحتجون وعدد من جماعات المجتمع المدني في هذا الادعاء ويتهمون حكومة روتو بتعمد قطع الإنترنت في هذا التوقيت. وتشير التقديرات إلى أنه مقابل كل ساعة من قطع الإنترنت بشكل كامل، تخسر كينيا حوالي 1.8 مليار شلن من ناتجها المحلي الإجمالي، ووفقًا لمنظمة NetBlocks العالمية لإدارة الإنترنت، تتسبب ساعة من تعطيل “X” (تويتر سابقًا) في خسارة حوالي 462 مليون شلن كيني.
- تداعيات إقليمية
تلعب كينيا دورًا بالغ الأهمية في منطقة شرق ووسط أفريقيا، سواء على المستوى الاقتصادي أو في دعم الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة، فعلى الصعيد الاقتصادي، تعتمد العديد من دول المنطقة، مثل أوغندا ورواندا وبوروندي وجنوب السودان، سواء بشكل كامل أو جزئي، على ميناء مومباسا، في حركة تجارة البضائع، وفي ظل الاحتجاجات الأخيرة، انخفضت الحركة إلى كينيا عبر المدن الحدودية خوفًا من وقوع خسائر كبيرة في البضائع والسلع في أثناء نقلها.
وفي ظل استمرار الاحتجاجات ستتكبد دول المنطقة خسائر يختلف حجمها باختلاف درجة اعتماد الدولة على كينيا، ففي أوغندا، سيكون للاحتجاجات في كينيا تأثير كبير، حيث يمر حوالي 90% من واردات أوغندا من النفط عبر كينيا، بينما يأتي 10% فقط عبر تنزانيا، وأي تأخير في النقل قد يؤثر في أسعار الوقود في البلاد، مما قد يؤدي بدوره إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية الأخرى.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، تلعب كينيا دورًا نشطًا في محاولة حل النزاعات والحفاظ على الاستقرار في المنطقة، خاصة في إثيوبيا والسودان وشرق الكونغو، فضلًا عن دورها في قوات حفظ السلام في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية والصومال، وبالتالي فإن استعادة السلام والحفاظ على الاستقرار في كينيا هو جزء لا يتجزأ من الحفاظ على استقرار منطقة شرق ووسط أفريقيا.
ختامًا، ألقت الاحتجاجات على مشروع قانون المالية الجديد الضوء على العديد من التحديات الاقتصادية التي تواجه الكينيين، وعكست حالة عدم الرضا لديهم عن سياسة روتو الاقتصادية؛ مما يستدعي مزيدًا من الحكمة من حكومة روتو للتعامل مع الأزمة، والمواءمة بين تحقيق مطالب المحتجين وتهدئة الشباب الكيني من جهة، وضمان الاستقرار الاقتصادي والسياسي في كينيا من جهة أخرى، مع ضرورة التعامل مع الأسباب الحقيقية لاندلاع هذه التظاهرات ومعالجتها.