أزمة الشرق الأوسط هى محصلة لأزمة الدولة العربية. لدينا بناء نسميه النظام الإقليمي. البناء مبنى بأحجار، كل منها يمثل دولة مستقلة. يبقى البناء قائما طالما كانت وحدات بنائه قوية صلبة، تدعم نفسها، وتساند بعضها البعض، فالاعتماد المتبادل لا غنى عنه للوحدات التى يتكون منها أى بناء. عندما أصاب التحلل الأحجار،الدول، عجز البناء كله عن الصمود، تفكك حجر منه، فتداعى ما يجاروه من أحجار، وفى النهاية تعرض البناء، أى النظام الإقليمى كله، للانهيار.
المشرق العربى هو أضعف حلقات النظام الإقليمى الشرق أوسطى، فالدول فيه ضعيفة مفككة، بسبب الدرجة الكبيرة من الاصطناع التى ميزت عملية ولادتها. فى الدول المولودة طبيعيا تنشأ حركات وقوى اجتماعية وسياسية تناضل من أجل بناء الدولة المستقلة، فتكافح من أجل توحيدها، ومن أجل انتزاعها من سيطرة إمبراطوريات وقوى استعمارية. لم يحدث شىء من هذا فى المشرق العربى، فلم يكن هناك طلب اجتماعى وسياسى من قوى محلية أصيلة ناضلت من أجل قيام أى من الدول الموجودة الآن فى المشرق العربي. تأسست الدولة فى المشرق العربى وفقا لاتفاق عقده الاستعماران الفرنسى والبريطانى لرسم خريطة المنطقة واقتسامها، فنشأت دول العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، التى تحولت بسرعة إلى إسرائيل. بين الدول الخمس يوجد ثلاث دول فاشلة، لا تنفرد فيها الدولة بالحق فى احتكار السلاح، ودولة واحدة صامدة بموارد قليلة، تحت ضغوط هائلة، فى مواجهة مخاطر وجودية، وهناك أخيرا دولة احتلال استيطانى، طردت وهمشت السكان الأصليين، وتحافظ على بقائها وراء حائط حديدى متسلحة بقوة عسكرية مفرطة، وإن كان البعض يراها أوهن من بيت العنكبوت، ويتطلع لتحقق وعد إلهى بزوالها.
تأسست الدولة فى المشرق العربى، لتبدأ بعد ذلك عملية البحث عن هوية لها، وانتقاء تاريخ واصطناع سردية تقدم سببا لوجود الدولة، ولرسم حدودها بهذه الطريقة وليس بأى طريقة أخرى، ولجمع كل هؤلاء السكان ضمن إطار سياسى واحد.
الدولة المصطنعة فى المشرق العربى ليست ظاهرة ينفرد بها هذا الجزء من العالم، فأغلب دول المستعمرات السابقة فى إفريقيا وآسيا تم رسم حدودها باصطناع مشابه يعكس مصالح القوى الاستعمارية. مع هذا فإن المستوى من الإخفاق الذى تعانيه الدولة العربية المشرقية يندر أن تجده بهذه الحدة فى إقليم آخر، اللهم إلا فى بعض بلاد إفريقيا بالغة الفقر.
يميز الدولة فى المشرق العربى، ويعمق أزمتها، تعرضها لضغوط من أسفل وضغوط أخرى من أعلى، ويتفاعل النوعان من الضغوط معا لإضعاف الدولة المشرقية واستدامة أزمتها. من أسفل تنقسم المجتمعات العربية إلى جماعات فرعية ذات هويات أضيق من نطاق الدولة الوطنية، ولا تشاركها هويتها الوطنية. تاريخ العلاقة بين كثير من هذه الجماعات هو تاريخ صراعى، لم تتركه هذه الجماعات على بوابة الدولة الوطنية، فدخلتها محملة بشكوك ومخاوف وعداوات وثارات.الحديث هنا يدور عن قبائل وعشائر وطوائف ومذاهب لم تتح لها الفرصة لكى تندمج بشكل سلمى طوعى بناء فى مجتمع الدولة الوطنية حديث التشكل، فلم تتعامل معه ككيان يتمتع بشرعية سياسية وأخلاقيه تبرربقاءه، وإنما كترتيب مؤقت توظفه لتعظيم مصالحها، ولإدارة صراعاتها القديمة. لقد تم إجبار هذه الجماعات الفرعية على الدخول إلى فضاء الدولة الوطنية المستحدث قسرا، فلم تدخله متضامنة مع شركاء الوطن لبناء جماعة وطنية ودولة تمثل كل أهلها، وإنما دخلته من أجل تسوية صراعات ومخاوف الماضى، فأصبحت السيطرة المنفردة على جهاز الدولة هى الجائزة التى يتسابق على الفوز بها ممثلو عشائر وطوائف مشرقية، وبدلا من دولة الحقوق المتساوية لكل المواطنين، نشأت دول طائفية وعشائرية تخفت وراء رايات أيديولوجية وشعارات مخادعة.
ضغوط الهويات الفرعية تحت مستوى الدولة ظاهرة معروفة فى دول المستعمرات حديثة الاستقلال، والتى نجح كثير منها فى التغلب على هذه الضغوط عبر ترسيخ الدولة الوطنية، وتحويلها إلى مركز جذب غير طارد، يمارس سلطة رشيدة، تحتوى ولا تستبعد، وتوزع الثروة بطريقة عادلة، وتحل المنازعات بين المكونات سلميا وفقا لقوانين يجرى تطبيقها بنزاهة. هذا هو الفارق بين ماليزيا وإندونيسيا مثلا، وبين ما جرى فى دول المشرق العربى. لم يكن فى دول المشرق تيارات ثقافية وحركات سياسية تتمحور حول الهوية والدولة الوطنية، إنما كانت هناك تيارات عابرة لحدود الدولة، تحلق فوقها، مروجة لهويات فوق مستوى الدولة الوطنية، عروبية وإسلامية. تيارات القوميين العرب والبعث والإخوان وتيارات الإسلام السياسى المختلفة، كلها تيارات تنظر للدولة الوطنية باحتقار، لأنها فى رأيها أصغر مما ينبغى، وباعتبارها انتقاصا من دولة الأمة العربية الواحدة، أو دولة الخلافة الإسلامية الشاملة.
نزعت التيارات العروبية والإسلامية الشرعية عن الدولة الوطنية من أعلى، فيما كانت العشائر والقبائل والطوائف تنخر فى أساسها من أسفل. المفارقة هى اتساع نطاق الضرر مع انتقال عدوى الاحتقار والتعالى على الهوية والدولة الوطنية من موطنها الأصلى فى المشرق إلى مناطق عربية أخرى لها ميراث دولة وهوية وطنية راسخة. فى كل الأحوال كانت الهوية والدولة الوطنية هى الضحية الأولى لهذه الحيل الأيديولوجية والسياسية، وإن ظلت الدولة الوطنية المغدورة فى المشرق العربى هى المثال النموذجى لإخفاق الدولة العربية ومأزقها. الدولة الوطنية هى الحل لأزمات المجتمعات والدول والإقليم، ومازال ممكنا تدارك ما فشلنا فيه طوال عقود سابقة.