قبل عام 2011، كان الاقتصاد السوري يعيش فترة من الاستقرار النسبي، حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي 60 مليار دولار مع نمو سنوي بلغ 5%. الاقتصاد كان يعتمد على ثلاثة أعمدة: الزراعة (20%)، الصناعة (27%)، والخدمات (53%). الليرة السورية كانت مستقرة عند 50 ليرة مقابل الدولار، والتضخم منخفض بين 4-5%. قطاع النفط كان يُنتج 380,000 برميل يوميًا ويُساهم في دعم العملة المحلية.
سوريا كانت تسير في طريق الإصلاحات الاقتصادية، مع بدء البورصة السورية في 2009، والتوجه نحو تحرير الاقتصاد وجذب الاستثمارات. ومع ذلك، كانت هناك تحديات مثل البطالة التي وصلت إلى 8-10%، والضعف في تنويع الاقتصاد.
لكن مع اندلاع الحرب في 2011، تدهور الوضع بشكل كارثي. الاحتياطيات الأجنبية التي كانت تُقدر بحوالي 18 مليار دولار تآكلت بسبب النزاع والعقوبات، مما أدى إلى انهيار حاد في قيمة الليرة السورية. من 50 ليرة للدولار في 2010، قفزت العملة لتتجاوز 10,000 ليرة في 2023، لتصل إلى 12,000-15,000 ليرة في أواخر 2024، رغم ثبات السعر الرسمي عند 13,050 ليرة.
في ظل هذه الظروف، أصبحت محاولات البنك المركزي لتحقيق الاستقرار النقدي أشبه بالمستحيل، إذ اصطدمت جهوده بعقبات اقتصادية وسياسية حادة، في وقت تزداد فيه معاناة المواطن السوري الذي يواجه انهيارًا في القوة الشرائية وتدهورًا في مستوى المعيشة.
الشكل 1: Central Bureau of Statistics, Syrian Arab Republic
مع انهيار العملة السورية وارتفاع تكاليف الواردات، انفجر التضخم إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تخطى 200% سنويًا في بعض الفترات، ما جعل السيطرة على الأسعار أمرًا مستحيلًا. اضطر البنك المركزي لطباعة النقود لتمويل العجز الناجم عن تدهور الإيرادات، ولكن هذه الخطوة أدت إلى تضخم مفرط وزيادة كارثية في عرض النقود، مما أسهم في انهيار قيمة الليرة.
نتيجة لهذه الأزمة، ارتفعت تكاليف المعيشة بأكثر من 800% مقارنة بما كانت عليه قبل الحرب، في حين شهدت أسعار الطعام والوقود زيادات سنوية تصل إلى 50-100% بين 2021 و2024، مما جعل تأمين الاحتياجات الأساسية تحديًا يوميًا للمواطنين. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، يعيش أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر، ما يعكس حجم الدمار الاقتصادي الهائل في سوريا.
هذه الظروف أظهرت الحاجة الملحة للاستقرار السياسي، الذي يُعد خطوة أساسية لفتح المجال أمام الاستثمارات وإعادة البناء الاقتصادي للبلاد.
مستويات الفقر
منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، انحدرت البلاد إلى هاوية الفقر بمستويات غير مسبوقة، لتصبح واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية في المنطقة. وفقًا للبنك الدولي، 90% من السكان يعيشون تحت خط الفقر الآن، مقارنة بـ 10% فقط قبل الحرب. هذا التدهور يعكس تأثير الصراع المدمر على الاقتصاد السوري، مع انهيار الناتج المحلي وتدمير البنية التحتية، فضلًا عن تدمير قطاعات حيوية مثل النفط والزراعة.
6.8 مليون شخص يعانون من الفقر المدقع وفقًا للأمم المتحدة، حيث لا يتجاوز دخلهم 1.9 دولار يوميًا. هذا التحول الجذري وضع ملايين الأسر أمام تحديات يومية لتأمين أبسط احتياجاتهم مثل الغذاء، الماء، والطاقة، التي أصبحت ترفًا بعيد المنال.
لكن الأرقام ليست مجرد إحصاءات؛ إنها شهادة حية على المعاناة التي يعيشها الشعب السوري، ما يستدعي حلولًا جذرية لإعادة الحياة لاقتصادها المنهار.
الحرب لم تدمر المدن فحسب، بل ألحق دمارًا هائلًا بـالبنية التحتية، بما في ذلك شبكات المياه، الكهرباء، والنقل، مما جعل الوصول إلى الخدمات الأساسية تحديًا يوميًا.
كانت شبكات المياه من أبرز الضحايا في الحرب السورية، حيث دمر القتال المستمر البنية التحتية في العديد من المناطق، مما جعل الحصول على مياه شرب نقية أمرًا صعبًا أو حتى مستحيلًا في بعض الأحيان. وفقًا لـ اليونيسف، تضرر نحو 60% من مرافق المياه والصرف الصحي في سوريا، ما أدى إلى ارتفاع حاد في الأمراض المنقولة عبر المياه مثل الكوليرا. ونتيجة لذلك، اضطرت الأسر لشراء المياه من مصادر غير موثوقة، مما فاقم الأعباء المالية وزاد من وطأة الفقر.
أما الكهرباء، فقد تعرضت شبكات التوزيع لأضرار جسيمة، خاصة في المناطق التي شهدت معارك طاحنة. وفقًا لـ البنك الدولي، فإن القدرة الكهربائية المتاحة لا تتجاوز 25% من الحاجة الفعلية للسكان. هذا النقص أدى إلى انقطاعات يومية طويلة، مما أثر بشدة على الحياة اليومية للسوريين، حيث لجأت العديد من الأسر لاستخدام مولدات كهربائية خاصة، ما رفع التكاليف وأثقل كاهل المواطنين الذين يعانون أصلًا من أزمات اقتصادية خانقة.
هذه الأوضاع تعكس حجم الدمار الشامل الذي طال الخدمات الأساسية في سوريا، وتُبرز الحاجة الملحة إلى جهود مكثفة لإعادة بناء البنية التحتية بما يخفف عن الشعب السوري ويعيد الأمل في حياة كريمة، حيث أن تدمير البنية التحتية، وخاصة شبكات المياه والكهرباء، عمق جذور الفقر بشكل مباشر، حيث اضطر السوريون إلى إنفاق المزيد لتلبية احتياجاتهم اليومية من المياه والكهرباء من مصادر بديلة، مما أرهق ميزانياتهم المتهالكة.
في المخيمات والمناطق الريفية، أصبحت الحياة أكثر قسوة، مع غياب شبه كامل للخدمات الأساسية، مما جعل الأوضاع المعيشية تزداد سوءًا. الفقر بلغ مستويات غير مسبوقة، وواجهت الأسر صعوبة في تأمين الغذاء، الماء، والطاقة.
غالبية السكان أصبحوا يعتمدون بشكل شبه كامل على المساعدات الإنسانية، التي أصبحت شريان الحياة الوحيد، ولكنها لا تكفي لتلبية الطلب الهائل، مما ترك ملايين السوريين في صراع يومي للبقاء وسط ظروف اقتصادية وإنسانية قاسية.
العقوبات الاقتصادية
فرض العقوبات الاقتصادية على سوريا شكّل ضربة موجعة أضافت إلى معاناة اقتصادها المترنح تحت وطأة الحرب. الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قادا موجة من العقوبات التي شملت حظر النفط السوري، تجميد الأصول المالية، حظر التجارة مع شركات وأفراد مرتبطين بالحكومة السورية، وتقليص المساعدات الاقتصادية الدولية. الهدف كان الضغط على الحكومة السورية للامتثال للمعايير الدولية، لكن التداعيات أصابت الشعب السوري بشدة.
كان قطاع الطاقة الأكثر تأثرًا، حيث أدى حظر تصدير النفط إلى انكماش كبير في الإيرادات المالية للحكومة، التي كانت تعتمد بشكل كبير على هذا المورد الحيوي. وبحسب تقرير للبنك الدولي، فقد خسر الاقتصاد السوري نحو 226 مليار دولار بسبب الحرب والعقوبات حتى عام 2016، وهو رقم يعادل أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عام 2010.
هذه العقوبات لم تؤد فقط إلى شلّ الاقتصاد، بل أيضًا أعاقت أي جهود لإعادة الإعمار. فقد حالت دون قدرة النظام السوري على الوصول إلى التمويل الخارجي، ما جعل إعادة بناء البنية التحتية المدمرة أمرًا شبه مستحيل في ظل الأوضاع الراهنة. النتيجة كانت كارثة اقتصادية وإنسانية، دفعت الملايين نحو الفقر وزادت من معاناة الشعب السوري، الذي يجد نفسه يدفع ثمن صراعات سياسية ودولية لا ناقة له فيها ولا جمل.
ماذا بعد؟!
إعادة بناء الاقتصاد السوري ستكون واحدة من أعقد المهام وأهم الأولويات أمام الحكومة السورية الجديدة والمجتمع الدولي. يتطلب هذا التحدي وضع استراتيجيات اقتصادية شاملة تهدف إلى إعادة بناء البنية التحتية المدمرة، إنعاش القطاعات الاقتصادية الحيوية، وتحقيق الاستقرار المالي الذي يعيد الثقة للداخل والخارج.
لكن قبل اتخاذ خطوات ملموسة على الصعيد الاقتصادي، لا بد من تحقيق الاستقرار الأمني والسياسي، فهو الأساس الذي ستُبنى عليه عملية التعافي. ويتطلب ذلك إنهاء النزاعات الداخلية، تعزيز الحقوق السياسية للمواطنين، وإعادة هيكلة المؤسسات الحكومية لتكون أكثر شفافية وكفاءة.
إلى جانب الجوانب الاقتصادية والسياسية، يجب معالجة الآثار الاجتماعية والنفسية العميقة التي خلفتها سنوات الحرب. تشمل هذه الجهود دعم النازحين داخليًا، ضمان عودة اللاجئين بكرامة وأمان، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأسر المتضررة.
إن النجاح في هذه المهام لا يعتمد فقط على الداخل، بل يتطلب تعاونًا دوليًا حقيقيًا يقدم الدعم المالي والتقني، ويعمل على تخفيف الأعباء عن كاهل الشعب السوري، لفتح صفحة جديدة نحو التعافي والنمو.
لإعادة بناء اقتصاد سوريا وفتح فصل جديد من التعافي، سيكون من الضروري التركيز على استعادة قطاعات رئيسية كانت تشكل عوامل أساسية في الاقتصاد قبل الحرب. في هذا السياق، يظل قطاع النفط من أبرز المحاور التي يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في دفع الاقتصاد نحو الاستقرار والنمو. قبل الحرب، كان النفط يشكل حوالي 25% من الناتج المحلي الإجمالي ويمثل المصدر الرئيسي للإيرادات الحكومية، مما يبرز أهمية استعادة هذا القطاع الحيوي.
وفقًا لتقرير وكالة الطاقة الدولية (IEA)، شهدت إنتاجات النفط السورية تراجعًا هائلًا بنسبة تزيد عن 90% خلال سنوات النزاع، حيث كان الإنتاج اليومي في 2010 يبلغ حوالي 380 ألف برميل، ليهبط إلى نحو 30 ألف برميل يوميًا في 2020. مع ذلك، فإن إعادة تأهيل حقول النفط المتضررة وتطوير البنية التحتية للنفط يمكن أن يمثل نقطة تحول كبيرة.
جذب شركات الطاقة العالمية للاستثمار في الاستكشاف والاستخراج، وتوسيع قدرات الإنتاج، يمكن أن يساهم بشكل ملحوظ في زيادة الإيرادات الحكومية بنحو 5-10% من الناتج المحلي الإجمالي على الأقل. علاوة على ذلك، فإن استعادة الإنتاج النفطي سيعمل على توفير الطاقة اللازمة للمصانع والقطاعات الاقتصادية الأخرى، مما يساعد على استعادة النشاط الصناعي ويعزز قدرة الاقتصاد على التوسع والنمو في مرحلة ما بعد الحرب.
يُعتبر القطاع الزراعي من أعمدة الاقتصاد السوري، حيث كان يشكل قبل الحرب حوالي 30% من الناتج المحلي الإجمالي ويوفر حوالي 40% من فرص العمل. لكن هذا القطاع تعرض لتدمير هائل نتيجة النزاع المستمر، مما أثر بشكل بالغ على الإنتاج الزراعي. وفقًا لبيانات منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، تراجعت محاصيل رئيسية مثل القمح والقطن بنسبة تتراوح بين 50-60%، ما أدى إلى نقص حاد في الغذاء وزيادة كبيرة في الاعتماد على المساعدات الدولية لتلبية احتياجات السكان.
إلا أن إعادة تنشيط القطاع الزراعي يمكن أن يكون حجر الزاوية لتعافي الاقتصاد السوري. من خلال دعم المزارعين بتوفير قروض زراعية ميسرة، تحديث تقنيات الري، واستعادة البنية التحتية الزراعية مثل شبكات الري والخزن، يمكن للمزارعين استعادة قدرتهم على الإنتاج.
وتُشير الدراسات إلى أن كل دولار يُستثمر في القطاع الزراعي يمكن أن يُولد من 3 إلى 4 دولارات من القيمة الاقتصادية، ما يعزز الأمن الغذائي ويقلل من الاعتماد على الواردات الغذائية. بهذه الطريقة، يمكن للقطاع الزراعي أن يُسهم في استقرار الاقتصاد ويُعزز الاستقلالية الغذائية لسوريا، مما يخلق فرصًا كبيرة في المستقبل لتحقيق تنمية مستدامة وشاملة.
إعادة بناء البنية التحتية في سوريا تُعد من التحديات الكبرى التي تواجه البلاد في مرحلة ما بعد الحرب، حيث تسببت سنوات النزاع في تدمير واسع لأهم مرافق البنية التحتية من طرق ومباني ومدارس ومستشفيات وشبكات مياه وكهرباء. وفقًا لتقرير البنك الدولي، تتجاوز التكلفة اللازمة لإعادة الإعمار أكثر من 250 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم يتطلب شراكات وتعاونًا دوليًا فعالًا.
لكن جهود إعادة الإعمار لا تقتصر على إعادة البناء فقط، بل تشمل أيضًا إعادة بناء الاقتصاد عبر استثمارات ميسرة من المؤسسات الدولية والشراكات مع القطاع الخاص. إذا تم تخصيص 20-30% من هذه المبالغ للمشاريع الأساسية مثل البنية التحتية للطاقة، المياه، النقل، والتعليم والصحة، يمكن أن تُسهم هذه الاستثمارات في خلق ملايين فرص العمل.
هذه المشاريع ستعزز الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل، وتساهم في تحسين نوعية الحياة للسوريين، مما ينعكس إيجابًا على القدرة الإنتاجية ويحفز القطاعات الاقتصادية الأخرى. وبذلك، يمكن أن تشكل هذه الجهود نواة للتعافي الكامل والازدهار المستدام في المستقبل، مع تحفيز النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية للمجتمع السوري.
نائب رئيس وحدة الاقتصاد ودراسات الطاقة