تُعَدّ الأزمات الصحية أحد أكثر التداعيات إلحاحًا للحرب في قطاع غزة، حيث شهدت البنية الصحية تدميرًا واسعًا، بدءًا من المستشفيات ومراكز الرعاية الأولية، وصولًا إلى نقص حاد في الأدوية والمعدات الطبية الأساسية. إضافة إلى تفاقم التحديات الصحية نتيجة التكدس السكاني، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، والقيود المفروضة على الحركة، كل تلك العوامل أثرت بشكل مباشر في الحالة الصحية للسكان وجودة الرعاية الصحية المتاحة.
في ظل هذا السياق المعقد، برزت الحاجة الملحّة إلى استراتيجيات فاعلة لإعادة إعمار القطاع الصحي، لا تقتصر فقط على إعادة بناء المرافق، بل تشمل أيضًا تعزيز القدرات البشرية، وضمان استدامة الخدمات الصحية، وتحسين الصحة النفسية من جرّاء الصدمات المتكررة. لذلك، تتطلب عملية إعادة الإعمار نهجًا شاملًا ومتكاملًا يربط بين التقييم الدقيق للأضرار الحالية، وتحديد احتياجات السكان الصحية، وتطوير سياسات فاعلة ومستدامة.
ويهدف هذا المقال إلى تقييم الأضرار الصحية في قطاع غزة بشكل شامل، واستكشاف سبل إعادة الإعمار التي تعيد الأمل للنظام الصحي.
تحليل الوضع الراهن
تحظى المنشآت الطبية بالحماية بموجب قوانين النزاع المسلح (LOAC)؛ حيث تنص المادة 12 من البروتوكول الإضافي الأول الملحق باتفاقيات جنيف لعام 1977 –وهي المعاهدة الأكثر حزمًا التي تنظم استخدام العنف في أثناء النزاع المسلح- على أنه “يجب احترام الوحدات الطبية وحمايتها في جميع الأوقات ولا يجوز أن تكون هدفًا للهجوم.” وعلى الرغم من ذلك، فقد وظفت دولة الاحتلال في مزاعمها استخدام حماس لتلك المستشفيات كدروع بشرية، مستغلة الاستثناءات الخاصة في القوانين الدولية التي تبيح الهجمات على المنشآت الطبية في حالة استخدام المقاتلين المرفق الطبي للاختباء فيه. وقد خلص تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان الصادر بعنوان “الهجمات على المستشفيات خلال تصعيد الأعمال العدائية في غزة” في الفترة من السابع من أكتوبر 2023 إلى 30 يونيو 2024، أنه تم تنفيذ 136 ضربة على 27 مستشفى و12 منشأة صحية أخرى؛ مما أسفر عن سقوط عدد كبير من الضحايا في أوساط الأطباء والممرضين والطواقم الطبية إضافة الى مدنيين آخرين وألحق أضرارًا بالغة بالبنى التحتية المدنية، إن لم يتم تدميرها بشكل كامل.
ووفقًا للتقرير المحدث لوزارة الصحة الفلسطينية بتاريخ 25 يناير 2025، فقد أسفر العدوان على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، والاستهداف المباشر للقطاع الصحي، عن خروج 22 مستشفى من الخدمة، بينما استمرت 14 مستشفى فقط في العمل بشكل جزئي من إجمالي 36 مستشفى في عام 2022. وبالتالي انخفض عدد الأسّرة في المستشفيات بالقطاع من 2536 سريرًا في عام 2020 إلى ما يقرب من 1847 سريرًا عام 2024 حسب منظمة الصحة العالمية.
المصدر: مركز المعلومات الصحية الفلسطيني، الإدارة العامة للسياسات الصحية والتخطيط
وتعاني 93% من المستشفيات المتبقية من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية ونقص المعدات والتمويل، إضافة إلى تحديات أخرى مثل عدم استقرار الطاقة الكهربائية والافتقار الكافي لسلسلة التبريد وهو أمر ضروري لحفظ الأمصال والأدوية، والافتقار إلى العديد من مصادر المياه الصحية ومعدات السلامة الشخصية للكوادر الطبية. في هذ السياق، حذرت الأونروا من نفاذ ما لا يقل عن 60 نوع من الأدوية في مرافقها الصحية التي تبلغ 22 عيادة في قطاع غزة بحلول نهاية العام الجاري.
المصدر: منظمة الصحة العالمية “مارس 2024”
وأفاد التقرير الصادر عن منظمة الصحة العالمية ضمن إطار نظام المعلومات الصحية للطوارئ (HeRAMS)، والذي يهدف إلى تقييم ورصد الخدمات الصحية في قطاع غزة بتاريخ ديسمبر 2024، أنه قد تم تدمير 12 نقطة تقديم الخدمات الصحية التشغيلية، أي منشآت الرعاية الصحية الأولية، من أصل 75 نقطة وأن 48% فقط من تلك النقاط تعمل الآن بشكل جزئي.
المصدر: منظمة الصحة العالمية ديسمبر 2024
وبسبب تدمير غالبية مراكز الصحة الأولية وعدم إمكانية الوصول للعديد منها، بالإضافة إلى نقص المعدات والأدوية بها، يواجه مرضى “الأمراض غير السارية” أخطارًا صحية جمة نتيجة عدم حصولهم على العلاج والرعاية الصحية المطلوبة بالإضافة إلى مرضى السرطان والذي يتم سنويًا تشخيص أكثر من 2000 حالة منهم 100 حالة من الأطفال.
حالات الأمراض غير السارية المسجلة في المراكز الصحية بقطاع غزة حتى عام 2024 | |
الحالة المرضية | عدد المرضى |
مرضى غسيل الكلى | 1100 |
مرضى الاضطرابات النفسية | 485000 |
مرضى ارتفاع ضغط الدم | 225000 |
مرضى القلب والأوعية الدموية | 45000 |
مرضى السكري | 71000 |
المصدر: التقرير الصحي السنوي فلسطين – اصدار 2024
أما فيما يخص الكوادر الطبية، فوفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد الأطباء ما يقرب من 5211 طبيب عام 2021 في قطاع غزة، وقد استهدفت قوات الاحتلال الطواقم الطبية بشكل مباشر حيث بلغ عدد الشهداء من الكوادر الطبية في قطاع غزة 1060 شهيدًا، كما تم اعتقال أكثر من 310 آخرين من أفراد القطاع الطبي، إضافة إلى تدمير أكثر من 130 سيارة إسعاف.
هل يمكن إعادة إعمار القطاع الصحي في غزة مرة أخرى؟
على الرغم من التحديات الهائلة، فقد أكدت مفوضية الأمم المتحدة أن النظام الصحي في غزة لم ينهر، وإن كان قد تأثر بشدة. ويمكن تفسير هذا الصمود من خلال النظر بعمق في وضع القطاع الصحي على مدار العقدين الماضيين. حيث تعرض مرارًا لهجمات عسكرية إسرائيلية في الأعوام 2008، 2014، و2021، والتي خلفت آثارًا مدمرة على مختلف جوانب الحياة، وخاصة القطاع الصحي. ولفهم قدرته على النهوض مجددًا، من الضروري استعراض السياق التاريخي لكل من هذه الهجمات وتحليل آثارها المباشرة وغير المباشرة.
الهجمات المتكررة على النظام الصحي | حجم الخسائر | التقدير المادي للخسائر |
2008 -2009 الحرب على غزة “عملية الرصاص المصبوب” | تضررت 34 منشأة صحية (8 مستشفيات – 26 عيادة للرعاية الصحية الأولية) قتل 16 من العاملين في المجال الطبي واصابة 22 آخرون.منظمة الصحة العالمية | ———————— |
الحرب على غزة “2014” | تضررت 17 مستشفى من أصل 32 مستشفى منها 6 مستشفيات دمرت بشكل كلي و 50 مركز صحي وعيادة. | 24,000,000 دولار |
جائحة كورونا | ضغطت جائحة كورونا على النظام الصحي في غزة بسبب نقص المعدات والكوادر الطبية وازدياد عدد الحالات المصابة التي وصلت إلى 704136 إصابة | ———————- |
الحرب على غزة “2021” | نقص في 45% من الأدوية الأساسية، و31% من المستهلكات الطبية، و65% من مواد المختبرات. | 12,869,276 دولار |
رغم الأضرار الجسيمة التي لحقت بالقطاع الصحي في تلك السنوات، فإن النظام الصحي في غزة أظهر قدرته على المرونة والصمود بسبب عدة عوامل أسهمت في استمرارية تقديم الخدمات الصحية منها؛ الاستجابة الفورية بعد الهجمات والتي تمثلت في لجوء الكوادر الطبية إلى تحويل المنشآت التي لم تدمر بصورة كلية إلى مراكز طوارئ لاستيعاب أكبر قدر من المواطنين بعد الهجمة. إضافة إلى التنسيق الفاعل بين وزارة الصحة والمؤسسات الأهلية والدولية لضمان توزيع الموارد بشكل فاعل وعادل. وبدء القطاع الصحي بتصنيع بعض الأدوية والمستلزمات الأساسية محليًا لتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية. لا سيما الاعتماد بشكل مباشر على الدعم الدولي والإقليمي من منظمات دولية “منظمة الصحة العالمية – الأونروا – الصليب الأحمر” وتقديم بعض الدول العربية مساعدات طبية عاجلة، بما في ذلك إرسال فرق طبية متخصصة للمساعدة في علاج المصابين.
كل تلك العوامل المذكورة أعلاه، نتج عنها نظام صحي يتسم بالمرونة والتكيف مع الصعوبات حيث أفاد تقرير البنك الدولي المعنون “مشروع تحسين كفاءة القطاع الصحي الفلسطيني ودعم قدرته على الصمود” الصادر في مارس 2023، بأن النظام الصحي في قطاع غزة قد تحسنت مؤشراته رغم التحديات؛ حيث بلغت مستويات التغطية الصحية للأمهات والأطفال مستويات مماثلة مقارنة مع البلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى الأخرى. كما أن معدل وفيات الأمهات ما بعد الولادة، البالغ 48 وفاة لكل 100,000 ولادة حية، يُعد أقل من المعدلات في معظم البلدان الشبيهة.
كما أظهرت البيانات تحسنًا وتقدمًا ملحوظًا في وضع التغذية لدى الأطفال حيث أشارت بيانات المسح الفلسطيني العنقودي متعدد المؤشرات في عام 2020-2019 أن حوالي ما نسبته 9% من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من قصر القامة، و2% يعانون من نقص الوزن، و1% يعانون من الهزال، بينما بلغت هذه النسب للفئة العمرية نفسها في العام 2010 حوالي 11% و4% و3% على التوالي.
وبناءً على ما سبق، واستنادًا إلى قدرة القطاع الصحي في غزة على الصمود، يمكن التطلع إلى سيناريو مستقبلي واعد يتمثل في تحسين البنية التحتية الصحية وتعزيز كفاءة القطاع الطبي من خلال خطط عاجلة بجانب خطة رئيسية لإعادة الاعمار تكون مدتها ” من ثلاث إلى خمس سنوات”، مدعومةً دوليًا وإقليميًا ومحفوفة بالاستقرار السياسي النسبي.
ولتحقيق ذلك، يجب العمل على تأمين تمويل مستدام، وفتح قنوات جديدة للإمدادات الطبية، إضافة إلى تأهيل الكوادر الطبية بشكل متواصل.
المراجع:
الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، الإحصاء الفلسطيني يصدر بيانًا صحفيًا بمناسبة اليوم العالمي للصحة، مايو 2023.
مؤسسة الدراسات الفلسطينية مقال بعنوان: تدمير القطاع الصحي في قطاع غزة، 2024.
وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى: تقرير بعنوان نزاع غزة 2014.
معهد أبحاث السياسات الاقتصادية (ماس)، ورقة خلفية: تحديات إعادة الإعمار والانعاش الاقتصادي في قطاع غزة، 2014.
الأمم المتحدة، مكتب تنسيق الشئون الإنسانية، تقرير حماية المدنيين الأسبوعي لقطاع غزة، 2009.
مركز المعلومات الصحية الفلسطيني، الإدارة العامة للسياسات الصحية والتخطيط، التقرير الصحي السنوي، 2017.
مركز المعلومات الصحية الفلسطيني، الإدارة العامة للسياسات الصحية والتخطيط، التقرير الصحي السنوي، 2023.
الأمم المتحدة لحقوق الانسان، تقرير موضوعي: الهجمات على المستشفيات خلال تصعيد الأعمال العدائية في غزة من أكتوبر 2023: بونيو 2024، إصدار ديسمبر 2024.
منظمة الصحة العالمية، هيرامز الأرض الفلسطينية المحتلة / غزة، لمحة عامة، ديسمبر 2024.
الأمم المتحدة، مجلس الأمن يبحث الهجمات على القطاع الصحي في غزة، يناير 2025.
الأمم المتحدة، التخطيط لإعادة إعمار وإنعاش قطاع غزة بعد الحرب، ابريل 2024.
البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، تقرير بعنوان: تقييم الأضرار المؤقت لقطاع غزة، مذكرة موجزة، مارس 2024.
وزارة التربية والتعليم العالي، الكتاب الإحصائي السنوي لمؤسسات التعليم العالي الفلسطينية، 2023.
وزارة الصحة الفلسطينية، تقرير محدث بعنوان: آثار العدوان الإسرائيلي على فلسطين، من 7 أكتوبر: 6 يناير 2025.
الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، كتاب فلسطين الإحصائي السنوي، ديسمبر 2020.