تحل اليوم الذكرى السادسة والثلاثون لاسترداد طابا واستعادة آخر جزء من الأراضي المصرية. وقبل إلقاء الضوء على ذكرى استرداد طابا، لا بد أن نوضح أن المشارك في كتابة هذه السطور كان عضوًا في اللجنة القومية العليا لطابا، وشارك في كافة المفاوضات التي تمت على مدار عدة سنوات بين القاهرة وتل أبيب.
وتبلغ مساحة منطقة طابا حوالي 1200 متر، وقد انسحبت إسرائيل بشكل نهائي من سيناء دون الانسحاب من طابا، حيث قررت إسرائيل إتمام انسحابها النهائي في 25 أبريل 1982 طبقًا لما كان متفقًا عليه، ولكنها أعلنت أنها سوف تستثني منطقة طابا الواقعة على رأس خليج العقبة من الانسحاب، بدعوى أن علامة الحدود التي توضح موقع طابا (وهي العلامة 91) غير واضحة المعالم، وغير موجودة داخل الأراضي المصرية.
وهنا بدأت تظهر مشكلة طابا، وهو ما بدأت التعامل معه الدولة المصرية بكل جدية، وحرصت الدولة المصرية على ألا تؤدي هذه المشكلة إلى عدم إتمام الانسحاب النهائي من سيناء، فوافقت على الانسحاب عدا طابا طالما هناك آلية حل مستقبلية منصوص عليها في المعاهدة. وتُعتبر مفاوضات طابا من أطول المعارك الدبلوماسية والسياسية، فهي تعد معركة العصر حيث تعتبر أول تسوية من نوعها في الشرق الأوسط حول نزاع حدودي بين إسرائيل ودولة عربية عن طريق التحكيم الدولي، وهو ما يصفه أحد المؤرخين “بأنه أطول ماراثون وثائقي في تاريخ القضايا الحدودية”.
ضربت الدولة المصرية أروع الأمثلة في الالتزام بمعاهداتها الدولية باعتبارها شرعية دولية، حيث التزمت الدولة المصرية بمعاهدة السلام 1979 الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، وتحديدًا المادة السابعة التي تضمنت أن الخلافات بين الدولتين يتم حلها عن طريق المفاوضات، وإذا لم يتيسر ذلك فيتم الحل عن طريق التوفيق أو تُحال للتحكيم، وهو ما يدل على أن الدولة المصرية دائمًا تتبنى الحوار وعدم اللجوء لتسوية النزاعات عسكريًا، وتجعل السلام خيارًا استراتيجيًا، مما يُعد أحد المبادئ الرئيسية للسياسة الخارجية المصرية. وهو ما تحقق في النهاية في اللجوء للتحكيم بعد استنفاد طرق المفاوضات والتوفيق، وهو ما يدل على مثابرة المفاوض المصري من أجل إرجاع كل حبة رمل من الأراضي المصرية.
ولا بد ونحن نتذكر تلك الذكرى العظيمة لاسترداد طابا أن نبين الدور العظيم للمفاوض المصري، حيث إنّ التفاوض مع الجانب الإسرائيلي هو معركة قانونية وسياسية ودبلوماسية شديدة الشراسة، حيث يتمتع المفاوض الإسرائيلي بالجدال والتركيز على الشكليات من أجل الابتعاد عن الهدف الرئيسي وهو استعادة طابا، وكان الإسرائيليون يعلمون أن طابا أرض مصرية، وأن مزاعمهم لا أساس ولا سند لها من تاريخ أو جغرافيا.
تشكلت في مايو 1985 لجنة على أعلى مستوى عُرفت باسم اللجنة القومية العليا لطابا، وكانت مهمتها الرئيسية إعادة طابا للسيادة المصرية، وبعد عدم نجاح وسيلتي التفاوض والتوفيق لجأت مصر وإسرائيل للتحكيم، وكان ذلك عن طريق عمل وطني بامتياز، فهي تعد قضية قومية تآلف وتناغم فيها كافة القوى السياسية والعسكرية والعلمية والقانونية، وتشاركت فيه كافة مؤسسات الدولة سواء القوات المسلحة ووزارة الخارجية والمؤسسات القانونية والعلمية وذلك لإثبات حق مصر في طابا واستعادتها عن طريق التحكيم الدولي، وكانت الدولة المصرية تريد مسارًا محددًا في التحكيم لا يبعد عن الهدف المنشود وهو استعادة طابا، وهو ما ظهر في السؤال المصري لهيئة التحكيم في تحديد مواقع علامات الحدود وخاصة العلامة 91 المتعلقة بطابا دون التعرض بأي شكل من الأشكال لخط الحدود الثابت في الخرائط والاتفاقيات الدولية والتي كانت إسرائيل تريد تعديله لصالحها.
فكان استرداد طابا عن طريق المفاوضات والتحكيم مسألة حياة أو موت، فلم يكن أمام المفاوض المصري إلا خيار واحد هو أن تنتهي العملية التفاوضية بإعادة طابا إلى السيادة المصرية، ولا يوجد أي اختيار آخر مطروح، فنجح المفاوض المصري في تحييد الطرف الأمريكي الذي كان متواجدًا خلال عملية التفاوض وإبعاده عن التحيز للجانب الإسرائيلي، فالعملية التفاوضية لاسترداد طابا بيان على قوة وصبر وبراعة ومثابرة المفاوض المصري وتغلبه على كل الصعاب مهما كان حجمها، فهي ملحمة خالدة لن ينساها التاريخ المصري الحديث والتي سُجلت بحروف من نور.
وأبرزت اتفاقية التحكيم الدولي بشأن طابا هذه الجهود، حيث أظهرت تفوق الكفاءات الدبلوماسية والقانونية والعسكرية المصرية على كل المناورات التي قام بها الجانب الإسرائيلي، وهو ما أدى إلى حسم الأمر لصالح الدولة المصرية، وأصدرت هيئة التحكيم حكمها في 27 سبتمبر 1988 بأحقية مصر في طابا، وانسحبت إسرائيل من طابا، ورُفع العلم المصري على طابا في 19 مارس 1989 مما يؤكد معنى واحدًا هو أن الدولة المصرية على مدى الزمان لم ولن تفرط في حقوقها، وما لا يؤخذ بالقوة يؤخذ بالمفاوضات والتحكيم.
شهادة للتاريخ
سوف أحاول في هذه السطور الوقوف على بعض الدروس المستفادة من هذه المناسبة الوطنية الكبيرة، وكيف يمكن أن نستثمرها حاليًا، فلم يكن رفع علم مصر على أرض طابا مجرد إجراء احتفالي، بل كان تأكيدًا على أن الدولة المصرية لا تُفرط في حقوقها مهما كان الثمن، وهي قادرة على انتهاج كافة الأساليب التي تحقق لها هذا الهدف، وهذه هي الرسالة الواضحة التي يجب أن تعيها جميع الدول التي يمكن أن تتشكك ولو للحظة في أن مصر يمكن أن تتهاون أو تفرط في حقوقها.
وفي الوقت الذي نحتفل فيه بالذكرى السادسة والثلاثين لتحرير طابا فإننا يجب أن نستذكر اليوم بكل فخر وإعزاز شهداءنا الأبرار الذين روت دماؤهم الزكية أرض سيناء الطاهرة، كما يجب أن نتذكر أعضاء اللجنة القومية العليا لطابا الذين لقوا وجه ربهم راضين مرضيين، فكل هؤلاء قد سطروا بأرواحهم ملحمة تحرير سيناء واسترداد طابا.
وإذا انتقلنا إلى الواقع الحالي فلا بد أن أُشير إلى أن هذه الذكرى الغالية تأتي في وقت تواجه فيه الدولة المصرية مجموعة من التحديات الجسيمة ارتباطًا بالتطورات المتسارعة على المستويين الإقليمي والدولي، ولا سيما في المجالات الاقتصادية، مما يعني أن هناك ضرورة لأن نسترجع أهم العوامل التي ساهمت في نجاح مصر في استرداد طابا، وكيف يمكن أن نستلهم هذا النجاح وهذه التجربة المتفردة في التغلب على كافة الصعاب التي تواجهها مصر خلال هذه المرحلة.
ولعل أهم الدروس التي يجب أن أؤكد عليها في ذكرى عودة طابا أن مصر قادرة على قهر أية صعاب يمكن أن تتعرض لها إذا ما أخذنا في الاعتبار العوامل الرئيسية التالية:
العامل الأول: أن الإرادة السياسية تمثل الطريق الرئيسي لحل أية مشكلات يمكن أن تتعرض لها الدولة.
العامل الثاني: أنّ تكامل موقف الشعب المصري مع موقف القيادة السياسية يعد ضرورة قصوى من أجل أن تكون الدولة كلها على قلب رجل واحد في مواجهة التحديات التي تواجهها الدولة.
العامل الثالث: ضرورة التنسيق الدائم بين كافة مؤسسات الدولة من أجل أن يتم التعامل مع أية أزمة تتعرض لها البلاد طبقًا لخطة شاملة يتم تنفيذها طبقًا لطبيعة الظروف على الأرض.
العامل الرابع: أهمية أن يكون الإعلام جزءًا لا يتجزأ من منظومة الدولة، وشرح كافة القضايا والمخاطر التي تواجهها دون تهوين أو تهويل، مع توضيح طبيعة الدور المنوط القيام به من جانب كل من الدولة والشعب، وكيف يمكن أن يكون الشعب بمثابة حائط الصد الأول في هذه المواجهة.
وإذا كان لي أن أوجه رسالة لشباب مصر الواعي فإني أقول لهم إنهم بالفعل عماد المستقبل، وإن عليهم استخلاص العبر والدروس المستفادة من مثل هذه البطولات والملاحم الوطنية، وأن عليهم أن يعلموا أن العمل الجاد هو أقصر طريق لتحقيق الإنجازات المطلوبة، وأنه بجهودهم المخلصة سوف تتبوأ مصر المكانة التي تستحقها بين الدول الكبرى.
وبهذا استعادت مصر بدماء وجهد وعرق وفكر المخلصين من أبنائها خلال الحرب والسلام والتفاوض أرضها المحتلة، فمثلما كانت حرب أكتوبر نهاية لأسطورة التفوق العسكري الإسرائيلي، كانت معركة استرداد طابا تحطيمًا لأسطورة تفوق الدهاء الإسرائيلي. كما كان قرار المحكمة ترجمة صادقة تؤكد أن الانتصار الذي حققه الجيش المصري العظيم في أكتوبر 1973 تم استكماله بفضل الله من خلال استعادة آخر قطعة أرض غالية حاولت إسرائيل أن تضمها إليها بدون أي وجه حق.
فلا يضيع حق وراءه مطالب يحسن الدفاع عنه.
دكتور القانون الدولي العام