كما هي عادته، فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العالمَ بإعلانه تنفيذ ضربة جوية وصفها بأنها “ناجحة” على 3 من أبرز المواقع النووية في إيران. وأكد ترامب أن العملية العسكرية الأمريكية التي تعتبر الأولى من نوعها، في إطار مساندة إسرائيل في حربها على إيران، كانت “ناجحة جدًا”. ورغم تقليل إيران على المستوى الرسمي من فاعلية الضربة على مستوى القضاء على برنامجها النووي، إلا أن الضربة الأمريكية مثلت نقلة نوعية لمسار التصعيد الراهن الذي بدأ يوم الجمعة 13 يونيو 2025، على اعتبار أن هذه العملية تمثل إعلانًا رسميًا عن انخراط الولايات المتحدة بشكل مباشر في الحرب الجارية بين إيران، فضلًا عن أن الضربة تطرح تساؤلات بخصوص تداعياتها على مستوى انخراط المجموعات المسلحة الموالية لإيران في المنطقة في التصعيد الجاري وخصوصًا تنظيم الحوثي في اليمن، ارتباطًا بكون هذا السيناريو هو إحدى الأدوات التي كانت تلوح بها إيران للرد على أي انخراط أمريكي في الحرب الجارية.
أولًا- ملامح التعامل الحوثي مع التصعيد:
كان ملاحظًا في ثنايا جولة التصعيد الراهنة بين إيران وإسرائيل، أن تنظيم الحوثي في اليمن تعامل بشيء من التحفظ تجاه هذا التصعيد، وهو الموقف الذي كان على الأرجح يرتبط بحسابات خاصة بالتنظيم، خصوصًا مع اتفاق التهدئة الأخير مع واشنطن، فضلًا عن ربط التنظيم انخراطه في التصعيد الجاري بتدخل الولايات المتحدة، بالإضافة إلى حالة من الارتباك التي طغت على إيران في أعقاب الاغتيالات التي جرت للعديد من القادة العسكريين في أعقاب العمليات الإسرائيلية المفاجئة في 13 يونيو 2025. وفي هذا الإطار يُمكن الإشارة إلى مجموعة من السمات والمحددات الرئيسية التي قد تحكم مسار التعاطي الحوثي مع الضربة الأمريكية الأخيرة لإيران:
1- تحذيرات استباقية من الحوثيين للولايات المتحدة: كان تنظيم الحوثي في اليمن قد حذر عبر بيان للمتحدث العسكري باسم التنظيم يحيى سريع، قبل الضربات الأمريكية بساعات، قد حذر باستهداف السفن والبوارج الأمريكية في البحر الأحمر، إذا شاركت الولايات المتحدة في الهجوم مع إسرائيل ضد إيران، مجددًا التأكيد على “موقف التنظيم الثابت في رفض العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان وسوريا وأي بلد عربي أو إسلامي يتعرض للعدوان”، وفق تعبيره.
ويبدو أن هذا التلويح الحوثي بالتصعيد وهو التصريح المباشر الأول في ثنايا دورة التصعيد الراهنة، كان محاولة للضغط على الولايات المتحدة، عبر التلويح بفكرة التصعيد، بعد تصريحات “ترامب” بخصوص مهلة الأسبوعين أمام إيران. وبشكل عام يعكس هذا الموقف الحوثي من جانب رهانًا على قدرة إيران على الصمود في مواجهة العمليات الإسرائيلية دون تدخل الولايات المتحدة، خصوصًا بعد المؤشرات على استعادة إيران حالة التوازن الخاصة بها والأخذ بزمام المبادرة بما يقلل من الحاجة إلى استنزاف ورقة التصعيد الحوثي حاليًا، ومن جانب آخر يعكس هذا الموقف وجود تقديرات حوثية كانت تذهب إلى عدم إقدام الولايات المتحدة على هذا التصعيد قبل المهلة التي حددها “ترامب”.
2- استمرار حالة التضامن السياسي مع إيران: في أول رد فعل وتعليق يُمكن القياس عليه فيما يتعلق بموقف الحوثيين من الضربات الأمريكية الأخيرة على إيران، علق عضو المكتب السياسي لـ”الحوثيين” وعضو مجلس شورى التنظيم حزام الأسد، على الهجمات الأمريكية التي استهدفت المنشآت النووية الإيرانية، محذرًا إسرائيل والولايات المتحدة من تبعات هذه الضربة، وكتب “الأسد” في حسابه على منصة “إكس”: “على واشنطن تحمل تبعات هذا الهجوم”. ويأتي هذا التصريح كاستمرار لحالة “التضامن والدعم السياسي من قبل الحوثيين لإيران”، وهي الحالة التي تعني قصر الانخراط في التصعيد الجاري على المستويات السياسية والإعلامية والدعائية، دون إقرانها بمواقف تصعيدية عسكرية، ما تجسد في كافة التصريحات التي صدرت عن قادة الحوثيين خلال فترة التصعيد الإيراني الإسرائيلي.
ولعل من الملاحظات المهمة في هذا السياق، أنه بمتابعة مسار التعامل الحوثي مع التصعيد الإسرائيلي الإيراني، فإن النشاط العملياتي للتنظيم اليمني كان أكبر من حيث المستوى الكمي والكيفي تجاه إسرائيل، قبيل اندلاع الحرب الإيرانية الإسرائيلية، وحتى الخطاب الإعلامي والسياسي للتنظيم، يُلاحظ أنه تجنب الإفصاح بشكل واضح عن مسارات تعامله مع التصعيد الإسرائيلي، بما يشي بحالة من التحفظ وربما التخبط النسبي في مواجهة الحالة التي فرضتها هذه الحرب.
3- تجاهل الحوثيين محاولة اغتيال رئيس أركان التنظيم: في ثنايا التصعيد الإسرائيلي ضد إيران، نفذت إسرائيل محاولة اغتيال رئيس هيئة الأركان العامة للقوات التابعة لجماعة الحوثيين، محمد عبد الكريم الغماري، وجاءت هذه الغارات الإسرائيلية في اليمن بالتزامن مع غارات أخرى في إيران، وقد ارتبطت أهمية هذه العملية بمجموعة من الاعتبارات الرئيسية: أولها أن هذه هي العملية الأولى الإسرائيلية تجاه الحوثيين منذ بدء التصعيد الإسرائيلي الإيراني، وثانيها أن هذه العملية هي الأولى أيضًا على مستوى محاولة اغتيال إسرائيل لقيادات حوثية، وثالثها أن العملية جاءت لتحقيق أحد أمرين، فإما أن إسرائيل وصلتها معلومات استخباراتية بخصوص قيادات حوثية فأرادت عدم تضييع الفرصة، أو أنها أرادت -عبر العملية- جر الحوثيين إلى التصعيد إلى جانب إيران، بما يدفع الإدارة الأمريكية نحو التدخل في التصعيد الراهن.
لكن اللافت أن تنظيم الحوثي وعلى عكس نمط “الفعل ورد الفعل” السابق الذي كان سائدًا منذ انخراط التنظيم اليمني في تداعيات عملية طوفان الأقصى، من خلال العمليات في البحر الأحمر والعمليات ضد إسرائيل، تجنب التصعيد العملياتي ضد إسرائيل ردًا على العملية، واكتفى بتكذيب السرديات الإسرائيلية الخاصة باغتيال رئيس أركانه، على المستوى الإعلامي، بما عبر عن حالة من التخبط نتيجة تخوف التنظيم من اختراق استخباراتي إسرائيلي محتمل، فضلًا عن التخوف من مغبة وتداعيات أي تصعيد غير محسوب.
ثانيًا- محددات مسار التصعيد الحوثي
في ضوء السمات والتطورات السابق الإشارة إليها يُمكن القول إن العنصر الذي كان يُلوح به تنظيم الحوثي للانخراط في التصعيد الراهن، متمثلًا في التدخل الأمريكي المباشر، قد تحقق بالفعل، الأمر الذي يستدعي الإشارة إلى مجموعة المحددات التي ستحكم تعاطي التنظيم مع المرحلة المقبلة، وذلك على النحو التالي:
أ- طبيعة رد الفعل الإيراني على التصعيد الأمريكي: أحد المحددات الرئيسية التي سوف تحكم مسار التعامل الحوثي مع التصعيد الأمريكي الأخير، سوف يكون مرتبطًا إلى حد كبير بطبيعة المقاربة التي ستتبناها إيران تجاه التصعيد الأمريكي، وذلك في ضوء بعض الاعتبارات الرئيسية، أولها أن الحوثيين كسائر المجموعات الموالية لإيران في المنطقة، تخضع في توجهاتها وتحركاتها السياسية والعملياتية لطبيعة المقاربة الإيرانية وأنماط التوظيف، وثانيها أن التنظيم رغم الضربات الأمريكية البريطانية العديدة التي تم شنها ضده خلال الأشهر الأخيرة، لا يزال وفق العديد من التقديرات يملك بعض القدرات العسكرية النوعية التي تؤهله للعب دور في إطار المقاربة التصعيدية المحتملة لإيران، وثالثها أن النظرة والتقديرات الإيرانية قد تذهب إلى أن إعادة فتح جبهة الحوثيين، قد توفر متنفسًا لتخفيف الضغط على جبهة الداخل الإيراني.
جاء رد الفعل الإيراني الأوّلي على الهجمات الأمريكية على المنشآت النووية كمحاولة للتقليل من هذه الضربات ونتائجها، وفي هذا السياق أشار التفلزيون الإيراني إلى أن “منشآت نطنز وفوردو وأصفهان النووية، التي أعلنت الولايات المتحدة استهدافها أُخليت منذ فترة”، وهو نفس ما شدد عليه المستشار الاستراتيجي لرئيس البرلمان الإيراني، فضلًا عن وكالة الأنباء الرسمية الإيرانية.
ويعكس رد الفعل الإيراني حتى اللحظة مجموعة من الدلالات المهمة، خصوصًا ما يتعلق بالسعي لاحتواء أثر هذه الضربات الأمريكية الأخيرة، لكن المؤكد حتى مع رد الفعل “الهادئ” إيرانيًا أن طهران سوف تلجأ إلى الرد على الأقل لحفظ ماء الوجه، لكن لا يُرجح أن تذهب طهران إلى تصعيد واسع النطاق في إطار ما يمكن تسميته بـ “الانتحار العسكري”، بمعنى أن إيران قد تلجأ إلى بعض السيناريوهات الرئيسية، بما في ذلك تفعيل ورقة الوكلاء لاستهداف نسبي للمصالح الأمريكية والقواعد العسكرية في المنطقة على غرار ما حدث عقب اغتيال قاسم سليماني، فضلًا عن محاولة كسب الوقت والشروع في إنتاج أسلحة نووية، والانسحاب من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، استنادًا لقناعة تنامت لدى دوائر صنع القرار في إيران بأن امتلاك السلاح النووي – على غرار حالة كوريا الشمالية – بات ضرورة استراتيجية للردع.
ب- بنك الأهداف الخاص بالتنظيم: في إطار الاحتمالية الكبيرة للجوء إيران إلى ورقة الأذرع الإقليمية كأحد أنماط وأدوات التعاطي مع التصعيد الأمريكي الأخير، جنبًا إلى جنب مع توجيه ضربات نوعية ليس فقط لإسرائيل ولكن للولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة، يبدو أن تنظيم الحوثي وحال التسليم بهذه الفرضية سوف يكون لديه مجموعة متنوعة من بنك الأهداف، بدءًا من بنك الأهداف الخاص بالداخل الإسرائيلي في مناطق الجنوب والشمال والوسط (بعد أن أثبتت الحرب قدرة التنظيم على استهداف كافة المناطق الإسرائيلية)، فضلًا عن عودة التنظيم إلى استهداف السفن والملاحة البحرية في البحر الأحمر، بما يُنذر بعودة عمليات “القرصنة البحرية” وربما توسعها، وفي هذا السياق لا يُستبعد أن يتم استعادت المشاهد والتحركات التي حدثت من قبل الحوثيين في 2019 و2020، عندما تم استهداف بعض دول الجوار.
ج- إقدام الولايات المتحدة على مهاجمة الحوثيين: يظل أحد التساؤلات المهمة مرتبطًا بطبيعة الجهة التي ستُقدم على الخطوة الاستباقية في مسار التصعيد المحتمل، ويبدو أن الولايات المتحدة وفي ضوء التقديرات الاستخباراتية التي ستذهب على الأرجح إلى احتمالية تصعيد الحوثيين مجددًا في منطقة البحر الأحمر، قد تذهب إلى تنفيذ عمليات استباقية ضد التنظيم اليمني، في مسعى لردع التنظيم عن أي تحركات تصعيدية، لكن هذه الخطوة المحتملة من قبل الولايات المتحدة سوف تفرض على الحوثيين “حتمية التصعيد”، وذلك لاعتبارات عديدة، أولها أن التنظيم وفي ضوء الانخراط الأمريكي المباشر في الحرب يرى بالأساس حتمية التصعيد في إطار سياسة الدعم والإسناد لإيران، وثانيها أن التنظيم سوف يسعى إلى الحفاظ على درجة من الردع المتبادل مع كلًا من الولايات المتحدة وإسرائيل، وثالثها أن هذا التحرك الأمريكي المحتمل سوف يوفر للحوثيين ذريعة ومبرر للتدخل في ثنايا التصعيد الراهن.
د- حسابات خاصة بتجربة التصعيد الحوثي: سوف يستند الحوثيون في أي تصعيد محتمل خلال المدى المنظور، إلى بعض الحسابات الداخلية، خصوصًا ما يتعلق بالسعي لترميم الجبهة الداخلية والبيئة الحاضنة في مناطق سيطرة التنظيم، على قاعدة شعارات “مواجهة أمريكا وإسرائيل والإمبريالية العالمية” وهي الشعارات التي يستثمر فيها التنظيم كثيرًا، كما أن التنظيم يرى أن عنصر الاختراق والانكشاف الاستخباراتي الذي حدث في حالة حزب الله اللبناني وحالة إيران نفسها لم يتحقق فيما يتعلق به، ما يتيح له هامش كبير من التحركات التصعيدية دون التخوف من هذا الانكشاف.
كذلك يجب الإشارة إلى أن تنظيم الحوثي اكتسب خلال السنوات الماضية ثقة كبيرة في قدرته على الصمود في وجه التحالفات المناوئة له، في ضوء تجربته مع التحالف الذي شكلته السعودية عام 2015، وكذا تجربته مع التحالفات التي تم تشكيلها في البحر الأحمر عقب عملية طوفان الأقصى وانخراط التنظيم في التصعيد الذي تبعها، حيث يرى التنظيم أن هذه التحالفات لم تستطع عمليًا كسر شوكته، واستطاع استيعاب كافة الضربات العنيفة التي تلقاها، وهو عنصر سيحفز التنظيم على الانخراط في التصعيد الجاري.
ختاما، يمكن القول إن الشرط الحوثي الضمني للانخراط في التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران، قد تحقق بالفعل عقب الضربات الأمريكية الأخيرة، مع التسليم بفرضية أن إحدى الأدوات الرئيسية التي ستلجأ لها إيران في مواجهة هذا التصعيد الأمريكي، يتمثل في تفعيل ورقة الوكلاء في المنطقة، لكن درجة وحدود هذا التصعيد المحتمل من قبل الحوثيين سوف تكون مرتبطة إلى حد كبير بطبيعة المقاربة الإيرانية للرد، وما إن كانت إيران ترمي إلى “الانتحار العسكري” أم أنها سترمي إلى حفظ ماء الوجه وتعزيز الموقف التفاوضي على قاعدة رفع التصعيد، كذلك سوف تكون درجة صلابة التنظيم وقدرته على مقاومة الضربات المحتملة التي سيتلقاها، فضلًا عن حفاظه على عدم الاختراق الاستخباراتي، عوامل محددة ستحكم ماهية التصعيد الخاص به.
باحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية