دخلت علاقة مالي مع روسيا مرحلة جديدة مع بدء عمليات الفيلق الأفريقي وانسحاب “فاجنر” رسميًا، بعد سجل مختلط في ساحة المعركة والتي جاءت بتكلفة مدنية هائلة، وقد تزامن مع التغييرات في التكتيكات الأمنية، شراكات روسية- مالية جديدة في قطاعي الطاقة والتعدين. يأتي التقارب المتنامي بين باماكو وموسكو في خضم تحولات جيوسياسية متسارعة، وسياق إقليمي مضطرب في منطقة الساحل الأفريقي، وبرزت مالي في أولى مسار التحركات الروسية في هذه المنطقة، منذ بدء باماكو إعادة النظر في تحالفاتها القديمة، وفك الارتباط مع فرنسا، وانتهاج سياسة تنويع الشركاء، وبناء هُوية جيوسياسية جديدة متجذرة في الاستقلال الاقتصادي والتضامن الإقليمي والتعاون متعدد الأقطاب، وأفرزت هذه التحولات مجموعة من الارتدادات على مالي داخليًا وخارجيًا، وسيتم توضيح ذلك تاليًا:
1. استمرار الفترة الانتقالية بقيادة “آسيمي جويتا”
وافق المجلس الوطني الانتقالي في 3 يوليو 2025، على مشروع قانون يمنح رئيس المرحلة الانتقالية الجنرال “آسيمي جويتا” تفويضًا رئاسيًا لمدة خمس سنوات، قابلة للتجديد؛ حيث تمهد هذه الخطوة الطريق أمام “جويتا” لقيادة مالي حتى عام 2030 على الأقل، على الرغم من تعهده في البداية بالعودة إلى الحكم المدني في مارس 2024. كما أوصى المجلس نفسه الذي قاطعته معظم المجموعات السياسية بحل الأحزاب السياسية وتشديد شروط تأسيسها. وفي وقت لاحق، أعلن المجلس العسكري الانتقالي في 13 مايو 2025 حل جميع الأحزاب والمنظمات السياسية كخطوة إصلاحية في اتجاه “إعادة التأسيس” التي دخلت فيها البلاد منذ عام 2020. ردًا على هذه الإجراءات، تأسس حزب معارض جديد “جبهة المقاومة الوطنية” للمطالبة بالعودة إلى النظام الدستوري، وضرورة وضع حد للمرحلة الانتقالية في البلاد. بالتالي، قد تعمل هذه الخطوات على إرباك المشهد الداخلي بما في ذلك تفاقم حدة التوترات السياسية، وتصعيد مسار التحديات الأمنية. بالإضافة إلى ذلك، احتمالية “عدوى الانتقال” لدول الجوار، في استنساخ إجراءات مشابهة، بما قد يعقد من فرص العودة القريبة إلى الانتقال المدني الديمقراطي.
2. تنامي نفوذ التنظيمات الإرهابية وتصاعد معدلات العمليات الإرهابية
استغلت التنظيمات الإرهابية حالة الاضطراب السياسي والسيولة الأمنية في منطقة الساحل، في توسيع مناطق نفوذها وعملياتها، مع اتجاه متصاعد لهذه التنظيمات في الابتعاد عن المواجهات المباشرة مع القوات العسكرية، وتفضيل الهجمات المفاجئة وأساليب المضايقة، واستخدام التكتيكات الجديدة ولا سيما الطائرات بدون طيار المسلحة أو الانتحارية لتنفيذ الهجمات. على سبيل المثال، أصبحت جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” التابعة لتنظيم القاعدة، الجماعة الإرهابية الأكثر نفوذًا في المنطقة التي تتمركز في شمال ووسط مالي، ووفقًا لتقارير أممية، تُشكل الجماعة التهديد الأكبر في المنطقة؛ حيث تعتمد على استراتيجية “العنف والسياسة” بشن هجمات انتقامية ضد القوافل العسكرية والمدنيين على السواء. في الوقت نفسه، تقدم نفسها كنموذج بديل للدولة، وأنشأت “حكومات ظل” من خلال توقيع اتفاقيات مع المجتمعات المحلية مقابل التأمين والحماية، وبموجب هذه الاتفاقيات تسمح للجماعة بنشر أفكارها المتطرفة وترسيخ شرعيتها، واكتساب الدعم المحلي في هذه المجتمعات.
بالإضافة إلى ذلك، تعمل الجماعة على توسيع رقعة مناطق عملياتها، بل تتمدد في مناطق جديدة في مالي وبوركينا فاسو، مع هدفها في ترسيخ وجودها في السنغال وموريتانيا، في ظل تحرك مسلحي الجماعة عبر الحدود، وتقع أجزاء من الحدود بالقرب من منطقة العمليات المتداخلة بين تنظيم أنصار الإسلام، وكتيبة مآسينا التابعة لجماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”؛ حيث تعمل الأولى في منطقة ليبتاكو-غورما على الحدود بين الدول الثلاث (مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو). بينما تعمل كتيبة مآسينا في شمال وغرب بوركينا فاسو ووسط وجنوب وغرب مالي.
3. تفاقم حدة التوترات والتصعيد الصامت بين مالي والجزائر
تضافرت مجموعة من العوامل في تأجيج حدة التوترات بين مالي والجزائر، في مقدمتها العمليات السابقة لمجموعة “لفاجنر” الروسية قرب حدود الجزائر، وهو ما اعتبرته الجزائر تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي؛ حيث يظل هاجس الجزائر الأمني مرتبطًا بشكل وثيق بما يحدث في شمال مالي، في ضوء التحولات والتعقيدات المتشابكة على الأرض، واتجاه الجماعات الإرهابية والجماعات الانفصالية من متمردي الطوارق وحركات الأزواد إلى تشكيل “تحالفات مناوئة” للجيوش والحكومات الوطنية. علاوة على ذلك، الاتهامات المتبادلة بالتدخل في الشئون الداخلية؛ إذ تتهم مالي الجزائر بدعم الإرهاب والحركات الانفصالية داخل حدودها. فيما تنتقد الجزائر نهج مالي في التمسك بالخيار العسكري، وانهيار اتفاق السلام والمصالحة لعام 2015. وفي سياق أوسع، تتفاقم حدة التنافس والسباق الإقليمي بين الجزائر والمغرب في تعزيز علاقاتهما مع دول كونفدرالية الساحل بتقديم مبادرات عابرة للحدود في مجالات البنية التحتية، على سبيل المثال المبادرة الأطلسية المغربية التي تهدف إلى تسهيل التجارة، والحد من العزلة الجغرافية، وتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة في هذه الدول.
4. إعادة هيكلة الوجود العسكري الروسي (دخول الفيلق الأفريقي ومغادرة فاجنر)
أعلنت مجموعة فاجنر الروسية انسحابها الكامل من مالي، في 6 يونيو 2025، بعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف من العمليات العسكرية في القتال ضد الجماعات الإرهابية والمتمردين في البلاد معلنة “إنجاز المهمة” من خلال الإشارة إلى استعادة الحكومة المالية السيطرة على المراكز الإقليمية، والقضاء على قادة الجماعات الإرهابية. على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدتها في هذه العمليات، واستمرار حدة الهجمات الإرهابية، وتوسع الجماعات الإرهابية في جنوب وغرب البلاد وحول العاصمة باماكو.
في الوقت الذي يواصل فيه الكرملين نقل مسئولية عملياته العسكرية في أفريقيا رسميًا إلى الفيلق الأفريقي الخاضع لإشراف وزارة الدفاع الروسية (حوالي 70-80% من أعضاء الفيلق هم من قدامى محاربي فاجنر)، بما يضمن استمرار وجود القوات الروسية، وبعد سقوط نظام “بشار الأسد”، وتراجع البنية التحتية العسكرية الروسية في سوريا، أصبحت القواعد الليبية أساسية لبسط النفوذ الروسي في أفريقيا والشرق الأوسط؛ حيث توفر منطقة شرق ليبيا ممرًا للإمداد اللوجستي لعناصر الفيلق الأفريقي في دول كونفدرالية الساحل (مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو). على عكس فاجنر، التي كانت تعمل كجهة فاعلة مستقلة، يتبنى الفيلق الأفريقي نهجًا أكثر محدودية ومؤسسية، فهو يقدم الدعم اللوجستي، والتدريب العسكري، والتعاون الاستخباراتي بدلاً من الانخراط في القتال المباشر في الخطوط الأمامية.
في خضم هذا المشهد، عملت روسيا بموازاة الحرب الأوكرانية على توسيع وجودها العسكري في أفريقيا من خلال تسليم أسلحة متطورة إلى مناطق الصراعات في أفريقيا، وتجاوزًا للعقوبات التي فرضتها الدول الغربية، تستخدم موسكو سفن الشحن لإرسال دبابات ومركبات مدرعة ومدفعية وغيرها من المعدات عالية القيمة إلى غرب أفريقيا؛ حيث وصلت شحنة كبيرة من المركبات المدرعة وغيرها من المواد إلى باماكو بعد شحنها عبر ميناء كوناكري الغيني في يناير2025، ووفقًا للتقارير المتداولة، قد تُعزز هذه الخطوات عمليات الفيلق الأفريقي. في الوقت نفسه، ثمة تحديات أبرزها، التمرد في شمال مالي من جبهة تحرير أزواد الانفصالية، وجماعات منافسة من تنظيمي القاعدة وداعش المنحدرين من المجتمعات العربية، والطوارق والفولاني. بجانب ذلك، تصاعد وتيرة الهجمات الإرهابية على أهداف تابعة للقوات المسلحة المالية والأهداف الروسية، على سبيل المثال هجوم جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” في الأول من يونيو 2025، على قاعدة بولكيسي العسكرية بوسط مالي قرب الحدود مع بوركينا فاسو، والذي أودى بحياة أكثر من 30 جنديًا ماليًا، وانسحاب القوات المالية، حسبما أفادت التقارير. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت جبهة تحرير أزواد الانفصالية في 14 يونيو 2025، عن إسقاط طائرة حربية تابعة للقوات المسلحة المالية قرب مدينة جاو، وجاءت هذه الحادثة بعد يوم واحد فقط من إعلان الجبهة مسئوليتها عن عملية عسكرية أسفرت عن مقتل العشرات من عناصر الفيلق الأفريقي، وإصابة آخرين.
قد تُجبر التعقيدات المركبة على الأرض، قوات الفيلق على القيام بمهام قتالية إضافية وأكبر حجمًا متجاوزة الهدف المعلن بالتركيز على مهام التدريب والمشورة، وما يرجح هذا الاتجاه هو التدفق الأخير للأسلحة الروسية إلى البلاد. بالتالي، سيكون الفيلق الأفريقي الجديد مجرد تغيير في الاسم لفاجنر دون أي تطورات إيجابية في واحدة من أسوأ الأوضاع الأمنية في البلاد منذ أكثر من عشر سنوات.
5. توسيع مجالات التعاون الثنائي وتعزيز الشراكات الاستراتيجية بين باماكو وموسكو
تشهد العلاقات بين موسكو وباماكو اتجاهًا تصاعديًا إيجابيًا، على الرغم من انخفاض مستويات التبادل التجاري، وقد خلقت زيارة “جويتا” لموسكو في 23 يونيو 2025، فرصًا واعدة في مجالات التعاون المستقبلي مثل الاستكشافات الجيولوجية، وتنمية الموارد المعدنية، والطاقة، والخدمات اللوجستية. وفي إطار الزيارة، تم التوقيع على عددٍ من الاتفاقيات في قطاعات التجارة والاقتصاد، ومناقشة مشروع بناء محطة نووية للأغراض السلمية بالتنسيق مع شركة “روساتوم” الروسية. بجانب ذلك، بناء مصفاة ذهب جديدة بدعم روسي، باعتبارها خطوة استراتيجية نحو استعادة السيطرة على الثروة المعدنية للبلاد وتقليل الاعتماد على المصافي الأجنبية، ويجري تطوير هذه المنشأة، التي تبلغ طاقتها 200 طن، في منطقة سينو، بالقرب من العاصمة باماكو، بحصة أكبر للحكومة المالية، وبدعم فني ومالي من مجموعة “يادران” الروسية وشركة استثمار سويسرية، وستقوم المنشأة بمعالجة جميع إنتاج مالي من الذهب وتحويله إلى سبائك ذهبية قبل تصديره. بالإضافة إلى ذلك، لا تهدف المصفاة فقط إلى زيادة الإيرادات، بل تهدف أيضًا إلى سد الثغرات في سلسلة تهريب الذهب، وتعيد وضع البلاد على خريطة الذهب العالمية، وترسيخ مكانة المنشأة كمركز إقليمي لتكرير الذهب لدول الجوار مثل بوركينا فاسو.
تأتي هذه التحركات مع تحول أوسع في منطقة الساحل بصعود “نزعة قومية الموارد”، ولا تعتبر خطوة مالي منعزلة؛ حيث تتبنى عديد من حكومات دول الساحل موجة جديدة من تأميم الموارد، ومراجعة قوانين التعدين، وإعطاء الأولوية للإثراء المحلي. بجانب ذلك، أدخلت بوركينا فاسو والنيجر، إصلاحات لفرض المعالجة المحلية للمعادن، وتعزيز حصص الدولة في مشاريع التعدين، ورفضت هذه الدول ما وصفته بعقود من الاستغلال الاستعماري الجديد من قبل القوى الغربية والشركات متعددة الجنسيات. كما تشكل هذه التحولات جزءًا من استراتيجية ناشئة في المنطقة تسعى إلى إضافة قيمة إلى الموارد الطبيعية محليًا وإعادة توجيه الإيرادات نحو البنية الأساسية المحلية وبناء الدولة. وفي حالة مالي، تحركت الحكومة المالية أيضًا لإعادة التفاوض على تراخيص التعدين، وزيادة حصة الحكومة في مشاريع الموارد، وتقليص نفوذ الشركات الغربية.
حاصل ما تقدم، تعتبر مالي بوابة للتحركات الروسية في منطقة الساحل الأفريقي بشكل أوسع؛ حيث أتاحت العلاقات الوطيدة بين باماكو وموسكو، مساحة كبيرة لترسيخ نفوذها في المنطقة، وتعتبر هذه التحركات حلقة في سلسلة من جهد استراتيجي لتجاوز النفوذ الغربي في أفريقيا، وتأكيد مكانتها كقوة عظمى متجددة، في ظل استغلال حالة الفراغ الناجم عن انسحاب فرنسا والقوى الغربية الأخرى، وتحول التحالفات التقليدية، والتوازنات الإقليمية والدولية الجديدة، مع توجهات دول المنطقة إلى سياسة تنويع الحلفاء وإقامة شراكات بديلة، للخروج عن دائرة “الوصاية” وبناء علاقات قائمة على الاحترام المتبادل، في منطقة باتت واحدة من أكثر مناطق العالم تفجرًا للإرهاب والتطرف العنيف.
باحث أول بوحدة الدراسات الأفريقية