بعد مرور أقل من أسبوع على توليه منصبه الجديد أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، قام علي لاريجاني خلال الفترة (11 – 13 أغسطس 2025) بجولة إقليمية شملت العراق ثم لبنان. وقد أعقبت الزيارة انتهاء الحرب الإيرانية الإسرائيلية في يونيو 2025 وتزامنت مع تزايد احتمالات عودة الحرب بين طهران وتل أبيب مرة أخرى، مع تصاعد التحديات بشأن ملف طهران النووى. ففي السياق نفسه، أتت الزيارة الإيرانية في وقت تستعد فيه الجمهورية الإسلامية داخليًا لجولة جديدة من المواجهة مع إسرائيل -وربما الولايات المتحدة- عن طريق إجراء تغييرات في أجهزتها الأمنية وإنشاء “مجلس الدفاع الوطني” الجديد، وخارجيًا في ظل سعيها لإعادة تأهيل وكلائها المسلحين، خاصة في لبنان الذي يحاول -على غرار العراق- نزع سلاح الوكيل الإيرانى لديه الممثل في “حزب الله”. وفي ضوء ذلك، نتطرق فيما يلي لأهداف زيارة علي لاريجاني إلى كلٍ من العراق ولبنان، والنتائج المتوقعة من هذه الجولة الإقليمية.
أولًا- دلالات الزيارة
يشير قيامُ الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، بجولة إقليمية شملت العراق ولبنان إلى ما يلي:
- الأهداف الأمنية الخالصة للجولة الخارجية: يؤكد دفعُ إيران بعلي لاريجاني، بصفته أمينًا عامًا للمجلس الأعلى للأمن القومي في البلاد، للقيام بهذه الجولة إلى الأهداف الأمنية الخالصة لهاتين الزيارتين الإقليميتين، خاصة وأنهما جاءتا إلى بلدين تتغلب فيهما الأهدافُ الأمنية لإيران على ما سواها من أهداف سياسية أو اقتصادية. وقد يشير ذلك إلى حساسية اللحظة الآنية التي تمر بها إيران بعد مرورها بحرب مباشرة استمرت لأيام مع إسرائيل ولأول مرة منذ تأسيس النظام في عام 1979. إذ يعني هذا أن الجانب الأمني يسيطر في الوقت الحالي على تحركات إيران الإقليمية، التي تسعى فيه إلى الاستعداد جيدًا لجولة جديدة محتملة من الحرب مع إسرائيل.
- تصعيد المحافظين إلى الواجهة في إيران: لقد عززت التحولات الأمنية والاستخباراتية الأخيرة في إيران، إلى جانب تشكيل “مجلس الدفاع الوطني” في البلاد، تصعيد المحافظين إلى واجهة المشهد السياسي في إيران، والذي كان من زواياه إسناد المهام السياسية الخارجية في الوقت الراهن إلى شخصية محافظة مثل علي لاريجاني. فقد قام لاريجاني حتى الآن بأهم الزيارات الخارجية للجمهورية الإسلامية بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل والتي شملت زيارته إلى روسيا في 20 يوليو 2025 ولقاءه مع الرئيس فلاديمير بوتين، إلى جانب زيارتيه الأخيرتين إلى العراق ولبنان. وفي الوقت نفسه، يمثل إنشاء “مجلس الدفاع الوطني” في طهران تصعيدًا أيضًا للجانب العسكري على المشهد الحالي في إيران، وهو ما يأتي اتساقًا مع التوقعات الإيرانية لاندلاع موجة جديدة من المواجهات العسكرية مع إسرائيل خلال الأيام المقبلة.
- استئثار المؤسسات الأمنية بالتفاهمات الخارجية في المرحلة الحالية: يتصل هذا الأمر اتصالًا وثيقًا بمسألة تصعيد المحافظين إلى الواجهة في إيران؛ حيث بات هؤلاء يستأثرون ليس فقط بالمشهد الداخلي السياسي في إيران، بل ويتغلبون على مشهد سياستها الخارجية أيضًا. إذ على الرغم من تولي حكومة إصلاحية رئاسة البلاد في إيران، فإن اللقاءات البارزة والأكثر حيوية لإيران مع القادة في الخارج بات يعقدها ويتولاها المسئولون الأمنيون والعسكريون وليست الحكومة الإصلاحية التي يقودها مسعود بزشكيان، أو وزير خارجيته عباس عراقجي.
ثانيًا- دوافع جولة لاريجاني
في إطار التحولات الجارية في إيران، والتطورات الأخرى الإقليمية الخاصة بوكلائها المسلحين الموالين لها في المنطقة، وذلك بعد انتهاء الحرب مع إسرائيل في يونيو 2025، تبلورت أهداف زيارة لاريجاني إلى العراق ولبنان على النحو التالي:
- السعي لمنع نزع سلاح “الحشد الشعبي” العراقي: تمثلت أحد الدوافع الرئيسية وراء زيارة علي لاريجاني إلى العراق في سعي طهران لمنع نزع سلاح “الحشد الشعبي” الموالي لطهران في بغداد. إذ تريد الحكومة في بغداد، والتي يترأسها محمد شياع السوداني، الإقدام على هذا المشروع في ظل رغبتها تعزيز سيادة القانون وتحقيق الاستقرار الداخلي وإخراج العراق من ساحة المواجهات الإيرانية مع الخارج، واستجابة أيضًا للضغوط الأمريكية الرامية إلى تحقيق هذا المطلب الذي أثير قبل أشهر من اندلاع الحرب بين إيران وإسرائيل خلال العام الجاري. وتعارض طهران هذا المشروع العراقي؛ مما قادها للدفع بعلي لاريجاني لزيارة بغداد للتأكيد على هذا المسار لدى حكومتها من جانب وللوساطة بين “الحشد الشعبي” وحكومة السوداني من ناحية أخرى لعدم إقرار مشروع نزع السلاح.
- تعزيز التفاهمات الأمنية مع العراق: بعد انتهاء الحرب مع إسرائيل، ترغب الحكومة الإيرانية في تحقيق ثلاثة أمور بالعراق؛ تتمثل أولاها: في منع نزع سلاح “الحشد الشعبي”، على النحو الموضح، وثانيًا: التنفيذ الكامل والدقيق لاتفاقية مارس 2023 التي تنص على إبعاد مقرات الجماعات الكردية المسلحة المناوئة للنظام في طهران عن الحدود الإيرانية إلى غرب العراق، وثالثًا: ضبط الحدود الأمنية بين البلدين لمنع تسلل أي عناصر معارضة للنظام سواء إيرانية أو إسرائيلية أو غير ذلك. وعليه، ركزت زيارة لاريجاني في أحد جوانبها الرئيسية على التوقيع على مذكرة تفاهم أمنية مع بغداد، وعلى الرغم من عدم الإعلان عن محتواها، فإن التصريحات العراقية تشير إلى هذه المعاني التي تركز حول الجماعات الكردية وضبط الحدود.
- التأكيد على الرفض القاطع لنزع سلاح “حزب الله”: تمثل الهدف الأول من وراء زيارة علي لاريجاني إلى لبنان في التأكيد للحكومة اللبنانية ولـ “حزب الله” أيضًا على رفض نزع سلاح “حزب الله” اللبناني –على غرار نظيره العراقي– في إطار قرار الحكومة في بيروت “حصر السلاح بيد الدولة”. فقد التقى لاريجاني مع الرئيس اللبناني جوزيف عون ورئيس البرلمان، نبيه بري، ورئيس الحكومة نواف سلام، ليبلغهم بشكل غير مباشر رفض طهران لهذا القرار اللبناني، وكذلك التقى لاريجاني مع الأمين العام للحزب اللبناني، نعيم قاسم، ليؤكد له على استمرار دعم إيران للحزب في ظل هذه المتغيرات الداخلية والإقليمية، وذلك على الرغم مما وصفه عون للاريجاني من أن ذلك يعني “تدخلًا في شئون لبنان الداخلية”. وعليه، تجيء زيارة لاريجاني إلى العراق ولبنان معًا في إطار مساعيها لإحياء قدرات وكلائها المسلحين في المنطقة؛ للاستعداد كذلك لجولة حرب محتملة مع إسرائيل، وللعودة للانتشار العسكرية مرة أخرى في المنطقة على غرار الأعوام الماضية.
- تعزيز دور طهران في تشابكات السياسة الداخلية اللبنانية: في إطار سعي طهران لتعزيز دعمها لـ” حزب الله” داخليًا في لبنان، أرادت إيران من وراء زيارة لاريجاني الأخيرة إلى لبنان التأكيد على دورها العام في معادلة القوى السياسية في لبنان. إذ رغبت طهران في أن تبعث برسائل بشأن أن انزوائها الإجباري خلال الشهور الماضية عن هذه المعادلة لعديد من الأسباب؛ أهمها الحرب الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة وتدمير إسرائيل لأغلب قدرات “حزب الله” العسكرية خلال حرب نوفمبر 2024، كان مؤقتًا وأنها بصدد العودة لهذا المشهد مرة أخرى وأنها كذلك لن تترك الساحة اللبنانية المهمة للمنافسين.
- الالتفاف على تطويق واشنطن الاستراتيجي لطهران في القوقاز: تدفع محاولاتُ واشنطن إنشاء مشروع “ممر زانجيزور” في جنوب القوقاز، ليربط ما بين أذربيجان وإقليم نخجوان عبر أراضي أرمينيا، إيران إلى السعي للالتفاف حول هذه المساعي الأمريكية لتطويق إيران من الشمال عن طريق تعزيز حضورها وقدراتها العسكرية في المناطق القريبة من الحدود الإسرائيلية والتي تتمركز بها كذلك المصالح الاقتصادية والجنود الأمريكيون في منطقة الشرق الأوسط، وذلك كرد فعل على هذا الانتشار العسكري الأمريكي المحتمل حدوثُه قريبًا على بُعد أقل من 30 كيلومترًا فقط من الحدود الشمالية لإيران في أرمينيا لتأمين مسار الممر المذكور. لذا؛ تريد إيران موازنة هذا الانتشار العسكري الأمريكي باستعادة قدرات وكلائها المسلحين في الشام والعراق واليمن، وهو ما سيعزز على الناحية الأخرى من موقعها في المفاوضات النووية المحتملة.
ثالثًا- التداعيات الإقليمية المحتملة
على الرغم من أن جولة لاريجاني في العراق ولبنان قد تخدم المصالح الإيرانية، فإنها قد تقود إلى التداعيات الآتية على مستوى الإقليم:
- إثارة التوترات بين الوكلاء المسلحين وحكومتي العراق ولبنان: عززت زيارة علي لاريجاني إلى كلٍ من العراق ولبنان من الجدل القائم في البلدين بشأن نزع سلاح “الحشد الشعبي” و”حزب الله”. إذ سيتزايد الرفض لدى هذين الوكيلين المسلحين أمام محاولات نزع سلاحهما؛ مما سيعمل على إثارة المزيد من التوترات بين هاتين الجماعتين وحكومتي بغداد وبيروت، خاصة مع الأخيرة التي أقرت بالفعل قرارًا في هذا الصدد ومن المنتظر أن يرفع الجيش اللبناني تقريره في هذا الصدد قبل 31 أغسطس 2025. وقد ينجم عن هذا، خاصة في لبنان، مواجهات بين القوات الحكومية وموطنين وهاتين الجماعتين.
- مزيد من الضغوط الأمريكية على العراق ولبنان: يُتوقع بعد زيارة لاريجاني إلى العراق ولبنان أن تتزايد الضغوط الأمريكية على حكومتي العراق ولبنان من أجل إقرار عمليات نزع سلاح جماعتي “الحشد الشعبي” و”حزب الله”. إذ تتبنى الولايات المتحدة هذين المشروعين بمشاركة حكومتي بغداد وبيروت الطامحتين بالأساس لهما؛ حتى يخرج العراق ولبنان من ساحة أي مواجهات مستقبلية بين إيران وخصومها، وكذلك كي تتزايد فرص فرض الأمن والاستقرار في البلدين. أما مع تزايد الرفض من جانب الوكيلين الإيرانيين، فيصبح من المتوقع إذًا أن تتزايد الضغوط الأمريكية على العراق ولبنان من أجل ممارستهما ضغوطًا أكبر أيضًا عليهما لنزع سلاحهما.
- تزايد فرص شن هجمات ضد “الحشد الشعبي” و”حزب الله”: تُبدي الولايات المتحدة –وإسرائيل بشكل غير مباشر– إصرارًا كبيرًا على نزع سلاح الوكلاء الإيرانيين في المنطقة، ومن بينهم “الحشد الشعبي” والفصائل المناهضة للولايات المتحدة في العراق، و”حزب الله” في لبنان. أما مع فشل المحاولات السلمية لنزع سلاح هاتين الجماعتين في العراق ولبنان، يصبح من المتوقع بشكل كبير أن تُقْدِمَ واشنطن وتل أبيب على تقليم أظافر هذه الجماعات والحد من قدراتها العسكرية –أو تدمير بعضها بشكل كامل– في الفترة المقبلة، وذلك على غرار ما جرى من مواجهة بين إسرائيل و”حزب الله” في نهاية العام الماضي. ويمكن القول إن حدوث هذه الهجمات يصبح أكثر توقعًا واحتمالًا عند النظر إلى مستويات التوتر الإيراني الإسرائيلي في الوقت الحالي والمؤشرات الدالة على قرب اندلاع جولة حرب جديدة بينهما مثل حرب الـ 12 يومًا.
- تنامي التوترات السياسية بين إيران والدولة اللبنانية الرسمية: حملت زيارة لاريجاني إلى لبنان في طياتها مؤشراتٍ على تنامي التوترات السياسية بين الحكومة الرسمية في بيروت وطهران. إذ وصف عدد من السياسيين اللبنانيين رفض إيران نزع سلاح “حزب الله” بأنها “تدخل في الشئون الداخلية للبنان”، على غرار ما وصفه الرئيس جوزيف عون، كما أن تعنت “حزب الله” فيما يخص نزع سلاحه بسبب الدعم الإيراني له –والذي عززته زيارة لاريجاني الأخيرة– سوف يزيد من حجم التوترات مستقبلًا بين بيروت والحكومة في طهران وسوف يدفع الحكومة اللبنانية إلى تعزيز التعاون بشكل أكبر مع منافسي طهران الإقليميين في محاولة لاحتواء دورها مجددًا.
ختامًا، على الرغم من أن زيارة علي لاريجاني، إلى العراق ولبنان قد تقود في المستقبل القريب إلى تحقيق مكاسب لإيران، فإنها على الناحية الأخرى يُتوقع بشكل كبير أن تؤدي إلى بروز توترات في الدول التي قام بزيارتها، وذلك ما بين وكلاء طهران المسلحين وحكومتي هاتين الدولتين. كما أن زيارة لاريجاني نفسها قد تدفع بإسرائيل إلى أخذ زمام المبادرة واللجوء إلى الخيار العسكري لنزع سلاح هاتين الجماعتين بشكل كامل عن طريق الهجمات العسكرية على غرار ما جرى خلال الأشهر الماضية؛ مما يعني أن الزيارة الإيرانية قد تأتي في نهاية المطاف بنتائج عكسية على طهران.
