خلال اجتماع السيد رئيس الجمهورية بكل من السيد رئيس الوزراء ووزير المالية لاستعراض مؤشرات الأداء الأولية للعام المالي 2024/2025، والتي شهدت تحقيق مؤشرات اداء جيدة؛ إذ استطاعت الحكومة تحقيق أعلى فائض أولي في تاريخ مصر بقيمة 629 مليار جم بحوالي 3.6% من الناتج المحلي الاجمالي وهو بذلك يزيد بنسبة 6.3% على الفائض الأولى الذي استهدفته الموازنة والبالغ 591.4 مليار جم، ويزيد بنسبة 80% على الفائض الأولي المُحقق للعام المالي الماضي 2023/2024 والذي بلغت قيمته 350 مليار جم.
ومن الجدير بالذكر أن هذة النتائج الايجابية تأتي في وقت تعرضت فيه الموازنة لصدمات خارجية متعددة ومؤثرة والتي يعد أبرزها الانخفاض الذي شهدته إيرادات قناة السويس والذي وصل إلى نسبة 60% عن مستهدفات إيراداتها وهو ما تسبب عنه انخفاض إيراداتها بموازنة العام 2024/2025 بحوالي 145 مليار جم عن الإيرادات التي كانت تستهدفها الموازنة، لكن ذلك الأثر السلبي انخفضت انعكاساته من خلال الأداء المتميز والتحسن في معظم المؤشرات الاقتصادية والارتفاع الكبير الذي شهده حجم الاستثمارات الخاصة ونشاطو التصنيع والتصدير، لكن قبل التوسع في تحليل الأسباب التي ساهمت في تحقيق ذلك الفائض يجب أولًا التعرف على معنى الفائض الأولي والدلالات التي يشير إليها.
أولويات المالية العامة
بالإشارة إلى أولويات السياسة المالية للدولة على المديين القصير والمتوسط قبل الحديث عن مفهوم الفائض الأولي ودلالاته؛ إذ تضع الدولة عددًا من الأولويات التي تتمثل في تأسيس شراكة حقيقية وترسيخ حالة اليقين بين المصالح الضريبية ومجتمع الأعمال، وتطبيق سياسة مالية متوازنة تجمع بين استمرار الانضباط المالي ودفع عجلة النمو للنشاط الاقتصادي لكنها في الوقت نفسه تساند القطاعات الإنتاجية والسياحة والتكنولوجية، وتستهدف خفض مستويات دين أجهزة الدولة على المستويين المحلي والخارجي وتحسين مؤشرات خدمة الدين، وأخيرًا خلق حيز مالي (فائض) لزيادة المخصصات الموجهة لصالح نفقات الحماية الاجتماعية والتنمية البشرية وبرامج المساندة للفئات ذات الأولوية (الفئات شديدة التعرض لآثار برنامج الإصلاح الاقتصادي السلبية).
وبالنظر إلى هذه الأهداف السابق الإشارة إليها نجد أن تحقيق الدولة لفائض أولي، والحفاظ عليه خلال العقد الماضي، وزيادة حصيلة الإيرادات الضريبية وضبط النفقات العامة من خلال ترشيدها وخلق حيز مالي (فائض) يساهم في زيادة الإنفاق على برامج الإعانات الاجتماعية هي أهداف كلها قد تحققت بتحقيق الموازنة لفائض أولي سنوضحها فيما يلي.
الفائض الأولي
الفائض الأولي في الموازنة العامة هو مؤشر مالي دقيق يعكس قدرة الدولة على إدارة مواردها بعيدًا عن أعباء خدمة الدين، يعرف هذا الفائض علميًا بأنه الفرق بين إجمالي الإيرادات العامة للدولة (الضرائب، والمنح والإيرادات غير الضريبية) وبين إجمالي النفقات العامة (الأجور وتعويضات العاملين، شراء السلع والخدمات، الفوائد، الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية، المصروفات الأخرى، شراء الأصول غير المالية “الاستثمارات”)، مع استبعاد مدفوعات فوائد وأقساط الديون، فإذا كانت الإيرادات أعلى من هذه المصروفات يتحقق فائض يسمى بالفائض الأولي، أما إذا كانت أقل فيظهر عجز أولي ويتم التعبير عن أرقام الفائض بالموازنة العامة برقم سالب، بينما يتم التعبير عن أرقام العجز برقم موجب، لكننا في تقريرنا سيتم عكس الإشارات لتسهيل العرض، فسيتم عرض الفائض بإشارة موجبة وعرض العجز بإشارة سالبة.
ظهر هذا المصطلح (الفائض الأولي) بقوة في ثمانينيات القرن العشرين في أمريكا اللاتينية، خاصة في دول مثل البرازيل والمكسيك والأرجنتين عندما اعتمد صندوق النقد الدولي مؤشر الفائض الأولي كأداة لتقييم ما إذا كانت هذه الدول قادرة على تحقيق إيرادات تفوق نفقاتها الأساسية، بما يضمن لها سداد الديون على المدى الطويل ومن ثم خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا المؤشر جزءًا لا يتجزأ من برامج الإصلاح الاقتصادي حول العالم، وأداة معيارية في التحليل المالي الدولي لقياس استدامة المديونية.
يستمد مؤشر الفائض الأولي أهميته الاقتصادية من كون أن وجوده يعكس قدرة الحكومة على ضبط نفقاتها وزيادة كفاءة تحصيل الإيرادات، ومن ثم فإنه في حاله استدامة تحقيق ذلك الفائض فهو يعتبر مؤشرًا على وجود انخفاض في نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي؛ لأنه يتيح للحكومة استخدام الفائض في سداد أصل الدين أو تخفيف أعبائه، هذا فضلًا عن أن الدول التي تحقق فوائض أولية مستقرة غالبًا ما تتحسن تصنيفاتها الائتمانية وهو ما يساهم في تقليل تكلفة الاقتراض من الأسواق العالمية.
الحالة المصرية
في الحالة المصرية، برز مفهوم الفائض الأولي بوضوح منذ بدء برنامج الإصلاح الاقتصادي 2016 بالتعاون مع صندوق النقد الدولي ففي العام 2018/2019 حققت مصر لأول مرة منذ أكثر من 15 عامًا فائضًا أوليًا بلغ 2% من الناتج المحلي (تحقق فائض أولي هامشي في العام 2017/2018 بحوالي 4.9 مليار جم، لكن نظرًا لصغر ذلك المبلغ يتم اعتبار البداية في العام 2018/2019)، واستمر التركيز على تحقيق فوائض أولية تتراوح بين 1.5–2.5% من الناتج المحلي الإجمالي، بهدف السيطرة على مستويات الدين العام وخفض أعباء الفوائد التي تستحوذ على النصيب الأكبر من الموازنة، وحتى في أوقات الأزمات العالمية مثل جائحة كورونا أو حرب غزة أو الأزمة الإيرانية الإسرائيلية؛ حيث استطاعت الحكومة تسجيل فائض أولي ولو متواضعًا، للحفاظ على استقرارها المالي.
ومع الاستمرار في تبني نهج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي والتي تنطوي على زيادة إيرادات المالية العامة وترشيد النفقات بهدف الوصول إلى تحقيق فائض أولي، فقد استطاعت الدولة المصرية تحقيق فائض أولي فعلي في موازنة العام المالي 2024/2025 بقيمة 629 مليار جم ليكون الأعلى في تاريخ مصر وبما يزيد على الفائض المحقق في العام الماضي بنسبة 80% تقريبًا، ويعود ذلك الأداء بالأساس إلى نجاح الحكومة في زيادة الإيرادات بحوالي 29% في العام 2024/2025 مقابل العام السابق له، مقابل تحقيق زيادة في المصروفات بنسبة 8.5% عن الفترة نفسها، وهو ما كان له أثر إيجابي على تحقيق ذلك الفائض، وقد سبق الإشارة إلى أن الزيادة في الإيرادات تعود إلى الزيادة في الإيرادات الضريبية والتي تحققت نتيجة اتساع القاعدة الضريبية بانضمام عدد متزايد من الممولين الجدد، سواء من الأفراد أو الشركات، إلى المنظومة الضريبية. هذا التطور يُعد مستدامًا وجوهريًا للاقتصاد؛ لأنه لا يعتمد فقط على فرض ضرائب جديدة أو رفع معدلات ضريبية، بل على دمج الاقتصاد غير الرسمي في الاقتصاد الرسمي، وتوسيع حجم النشاط الاقتصادي الخاضع للضرائب. وفقًا للنظرية الاقتصادية، فإن زيادة القاعدة الضريبية تعني توزيع العبء الضريبي على عدد أكبر من الممولين؛ مما يقلل من الضغط على الممولين الحاليين ويعزز العدالة الضريبية.

كما أن هذا التوسع يولّد إيرادات مستقرة ودورية مرتبطة بنشاط اقتصادي حقيقي، وليس إيرادات مؤقتة. وقد أثبتت التجارب الدولية (مثل تركيا في أوائل الألفية والبرازيل في فترة الإصلاحات المالية) أن زيادة الامتثال الضريبي عبر توسيع القاعدة الضريبية تسهم في تحسين التصنيف الائتماني للدولة، لأنها ترفع من القدرة على تحقيق فوائض أولية مستدامة وخفض نسب الدين العام للناتج المحلي. إضافة إلى ذلك، فإن هذه الإيرادات الجديدة تُتيح للدولة حيزًا ماليًا أكبر لتوجيه الإنفاق نحو الاستثمار في البنية التحتية، ودعم الحماية الاجتماعية، وهو ما يخلق دورة اقتصادية إيجابية تدعم النمو في الأجلين المتوسط والطويل.

الشكل 1: الفائض (العجز) الأولي – مصدر البيانات البيان المالى لموازنة مصر 2025/2026 وزارة المالية المصرية

الشكل 2: مصدر البيانات البيان المالى لموازنة مصر 2025/2026 وزارة المالية المصرية
تشير المؤشرات الأولية لنتائج العام المالي 2024/2025 إلى تحقيق نمو ملحوظ في الإيرادات بنسبة 29% بفضل النمو الذي استطاعت الدولة تحقيقه في بند نمو الإيرادات الضريبية والتي بلغ حجمها 2204 مليار جم مقابل إيرادات مستهدفة بحوالي 2022 مليار جم (ارتفاع بنسبة 9% عن الإيرادات الضريبية المستهدفة) وارتفاع بنسبة 35.3% عن الإيرادات الضريبية المحققة للعام السابق 2023/2024 والتي بلغت 1633 مليار جم للعام المالي، وعلى الجانب الآخر استطاعت جهود ضبط المالية العامة السيطرة على معدل النمو في المصروفات لينمو بنسبة أقل وبحوالي 16.3% مقابل نمو مستهدف في موازنة العام 2024/2025 بحوالي 29%.
| فعلي 2024/2025 | مستهدف 2024/2025 | فعلي 2023/2024 | |
| الايرادات الضريبية | 2204 | 2022 | 1633 |
| نمو المصروفات | 16.3% | 29% | 37.3% |
| فائض أولي % الناتج المحلي الاجمالي | 3.6% | 3.5% | 6.1% |
| الفائض الأولي ( مليار جم) | 629 | 591 | 859.6 |
جدول رقم 1: جدول توضيحي بالنتائج الفعليه مقابل المستهدفات، ومقابل نتائج العام المالي الماضي -البيانات من تجميع الباحث من خلال البيانات المالية للموازنة العامة للدولة – وزارة المالية
تجدر الإشارة إلى أن النمو في الأداء الضريبي يعود بالأساس للزيادة التي تحققت في في القاعدة الضريبية إذ استطاعت الدولة زيادة عدد الممولين الجدد المنضمين لسداد الضرائب بشكل طوعي ومن خلال الحملات الإعلامية التوعوية لضرورة سداد الضرائب، والحملات التوعوية للمواطنين بضرورة طلب فاتورة ضريبية، وبذل جهود أكبر في حل المنازعات بشكل ودي، والتوسع في الرقمنة واستخدام وسائل التكنولوجيا لتسهيل التعاملات على الممولين، وإنشاء وحدة تجارة إلكترونية، وتطوير المنظومة الضريبية؛ الأمر الذي ساهم في إعادة الثقة في الممولين من خلال تخفيف الأعباء عليهم وتبسيط الإجراءات وتعزيز الشفافية وتقليل فرص التهرب الضريبي.
لكن وللتوضيح، فإن وجود فائض أولي في الموازنة العامة لا يكفي بمفرده لضمان توازن الموازنة الكلي. السبب أن هذا الفائض يُحسب بعد استبعاد مدفوعات خدمة الدين (الفوائد وأقساط السداد)، بينما تُعد هذه المدفوعات البند الأكبر والأكثر استنزافًا للموارد العامة، هذا الوضع يعكس معضلة مالية ذات جذور تاريخية؛ إذ أن تراكم الديون عبر عقود طويلة –سواء بسبب تمويل العجز المزمن أو ارتفاع تكلفة الاقتراض في أوقات الأزمات– أدى إلى تضخم بند الفوائد في الموازنة؛ بحيث أصبح “عبئًا تاريخيًا” يثقل كاهل الأجيال المتعاقبة، فالدولة قد تحقق انضباطًا في إنفاقها الجاري، وتزيد من كفاءة تحصيل الضرائب والإيرادات، وتحقق فائضًا أوليًا معتبرًا، لكن تظل تكلفة الدين القديم تحول ذلك الفائض إلى عجز كلي.
ولذلك يُنظر إلى الفائض الأولي باعتباره شرطًا ضروريًا لكنه غير كافٍ لتحقيق الاستدامة المالية، إذ أن نجاح الدولة في تقليص العجز الكلي يتوقف في النهاية على قدرتها على إدارة الدين العام؛ إعادة هيكلته، خفض تكلفته، إطالة آجاله، وتنويع مصادر تمويله، وبهذا فقط يتحول الفائض الأولي من مجرد مؤشر على الانضباط المالي إلى أداة فعلية لتقليص الدين وتحقيق التوازن الشامل في الموازنة.
نائب رئيس وحدة الاقتصاد ودراسات الطاقة









































