يستمر التوتر على الساحة الليبية المدولة بين طرفين باتا اليوم أساسيين في مسار الصراع في هذا البلد على الساحل الشمالي لأفريقيا والغني بالنفط. فلقد أحدث التدخل التركي العسكري عبر مد حكومة الوفاق بالسلاح والعتاد والمقاتلين المرتزقة المجندين من شمال سوريا انقلاباً في موازين القوى ضد الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر بعدما كانت قوات الأخير تحاصر العاصمة الليبية طرابلس لتنهي على الميليشيات المتمركزة داخلها.
وتمكن الهجوم المضاد لقوات حكومة الوفاق من دفع قوات حفتر باتجاه مدينة سرت الاستراتيجية شرقاً وباتجاه منطقة الجفرة جنوباً. وتقوم قوات حكومة الوفاق بمساعدة تركيا بحشد المقاتلين والعتاد استعداداً للسيطرة على منطقة سرت الغنية بالنفط، وتعتبر المنفذ الأساسي لتصديره من ليبيا. لكن القيادة المصرية اعتبرت أن العمق الاستراتيجي لأمن حدود مصر الغربية يمتد حتى منطقتي سرت والجفرة، بالتالي فهي لن تسمح لأي جهات معادية بالسيطرة عليهما.
وجاء خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 26 حزيران (يونيو) ليضع النقاط على الحروف، إذ قال: “إن أي تدخل مباشر من الدولة المصرية باتت تتوفر له الشرعية الدولية، سواء في إطار ميثاق الأمم المتحدة الخاص بحق الدفاع عن النفس، أو بناء على السلطة الشرعية الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي أي مجلس النواب”. واعتبر أهم هدفين لتدخل عسكري مصري سيكونان: “حماية الحدود الغربية للدولة وتأمينها بعمقها الاستراتيجي من تهديد الميليشيات الإرهابية والمرتزقة، أما الهدف الثاني فسيكون سرعة استعادة الأمن والاستقرار على الساحة الليبية باعتبارهما جزءاً لا يتجزأ من أمن واستقرار مصر والأمن القومي العربي”. وقام مجلس النواب المصري في 20 تموز (يوليو) بالتصويت لمصلحة قرار يجيز للقيادة المصرية بالتدخل عسكرياً لحماية أمن مصر القومي. وتجدر الإشارة الى أنه في حين تحظى حكومة الوفاق باعتراف الشرعية الدولية، فإن الجيش الوطني الليبي يحظى بتأييد غالبية البرلمان الليبي ورئاسته.
أمام هذا المشهد وما يرافقه من تطورات متسارعة تُطرح أسئلة عديدة عن جدية التهديد المصري وقدرة القيادة على تنفيذه وخيارات الرد التركي والموقف الدولي من كل هذا. تحتل القوات المسلحة المصرية المرتبة التاسعة عالمياً على قائمة أقوى الجيوش العالمية وفق موقع ومجلة “غلوبال فاير باور” المتخصصة Global Firepower، هذا في حين تحتل تركيا المركز الحادي عشر. تقع ليبيا على الحدود الغربية المباشرة لمصر في حين تقع تركيا على مسافة بضع مئات من الكيلومترات عبر مياه البحر الأبيض المتوسط التي تفصلها عن ليبيا. بالتالي، فإن الجيش المصري يملك الأفضلية اللوجستية للانتقال براً إلى منطقة سرت في غضون بضع ساعات، في حين أن الجيش التركي في حاجة إلى عملية لوجستية بحرية-جوية معقدة ومكلفة للانتقال الى الساحة الليبية عبر طرابلس.
تغلب المناطق الصحراوية المكشوفة على الطبيعة الجغرافية للأراضي الليبية، بالتالي فإن امتلاك التفوق الجوي المطلق عامل أساسي لأي تقدم بري والسيطرة التامة على الأرض. يمتلك سلاح الجو المصري أكثر من 300 طائرة هجومية حديثة من طرازي إف-16 وفانتوم الأميركيين، وطرازي رافال وميراج-2000 الفرنسيين، وبدأ مؤخراً استلام مقاتلات سوخوي-35 الروسية. كما يمتلك مجموعة كبيرة ومتنوعة من طائرات الهليكوبتر لمهام الهجوم والرصد والنقل والبحث والانقاذ، مدعومة من طائرات أواكس للإنذار المبكر من طراز هوك آي وبيتشكرافت. وتمتلك هذه الطائرات أفضلية انطلاقها من قواعد جوية غرب الأراضي المصرية لتنفيذ مهام فوق الأراضي الليبية المجاورة في حين ستحتاج المقاتلات التركية الحديثة من طراز إف-16 لعملية التزود بالوقود جواً وقطع مسافة بعيدة للوصول للأراضي الليبية. وفي حال انتقلت المقاتلات التركية إلى قاعة الوطية الجوية قرب العاصمة فإنها ستكون في مرمى نيران الطرف الآخر. كما أن مصر تمتلك منظومات دفاع جوي متقدمة جداً تشمل صواريخ أرض-جو اس-300 وباك-2 الروسية الصنع والباتريوت والهوك الأميركية والكروتال الفرنسية والعديد من الأصناف غيرها التي تستطيع تأمين الدفاع بسهولة ضد أي تهديدات جوية للقوات البرية، خصوصاً أن غالبية هذه المنظومات تعمل من على منصات متحركة. أما بحراً، فإن البحرية المصرية متعادلة تقريباً مع البحرية التركية من ناحية عدد الفرقاطات والزوارق الصاروخية والغواصات، لكنها تتفوق من ناحية امتلاكها حاملتي طائرات هليكوبتر من طراز ميسترال مجهزة بطوافات هجومية من طراز KA-52 الروسية وغزيل الفرنسية.
وعليه، فإن القوات المسلحة المصرية، والتي يبلغ عددها 440000 فردا في الخدمة الفعلية، إضافة الى 480000 فردا احتياط، لديها القدرة العسكرية والجاهزية للتدخل عسكرياً في ليبيا والوصول الى خطوط التماس مع قوات الوفاق خلال ساعات قليلة. كما أنها من ناحية موازين القوى والعقيدة القتالية تستطيع أن تهزم الميليشيات التابعة للوفاق وحتى اقتلاعها من ليبيا خلال فترة زمنية وجيزة. لكن الأسئلة التي تواجه القيادة المصرية اليوم متعلقة بالخيارات الديبلوماسية وقانونية التدخل العسكري وكلفته المالية والمعنوية واستراتيجية الخروج وعدم الغرق في الرمال المتحركة الليبية. فقرار التدخل العسكري دونه أمور كثيرة ويجب أن تكون حسناته أكثر من سيئاته ولذلك يبقى الملاذ الأخير للقيادة.
تشير التقارير الى أن الديبلوماسية المصرية بأوج نشاطها سعياً الى حل سلمي للأزمة في ليبيا. فالتهديدات المصرية دفعت بجميع الأطراف الدولية المعنية بالصراع على الساحة الليبية، مثل روسيا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، لتفعيل مبادراتها واتصالاتها للوصول الى حل يمنع من تدهور الأوضاع. لكن، في حال فشلت الجهود الديبلوماسية ونفذت قوات حكومة الوفاق تهديداتها باحتلال منطقة سرت الاستراتيجية والتوغل شرقاً باتجاه الحدود المصرية، فهل سيكون من مصلحة مصر التغاضي عن انتشار مقاتلين من ميليشيات إسلامية مرتبطة بمنظمات إرهابية على حدودها وامتلاكها حقول نفط توفر لها مبالغ مالية لتمويل انشطتها في كل مكان حول العالم ومنها مصر؟ هل يجب على مصر أن تنتظر وصول هذه الميليشيات إلى حدودها قبل أن تتدخل عسكرياً؟ المنطق العسكري لا يقبل بذلك، ويفرض على مصر شن عمليات استباقية تكون أقل كلفة وأسرع حسماً للموقف. لا يمكن التغاضي عن أزمة كورونا الحالية في التأثير على قرارات القيادة المصرية، إذ إن أي عمليات عسكرية ستتأثر بتداعيات هذا الفيروس السريع العدوى. وعليه، فمن الطبيعي أن تتفادى القيادة شن عمليات برية ما لم يكن هناك خطر محدق يحتم عليها التحرك بسرعة مع أخذ اجراءات وقائية إضافية واستثنائية.
لكن هل يجب أن يقتصر التدخل العسكري المصري على السيطرة على المنطقة الممتدة حتى سرت؟ إذا ما توقفت القوات المصرية في سرت وسمحت ببقاء الواقع على حاله حيث تقوم تركيا بمد حكومة الوفاق بالمزيد من المقاتلين المرتزقة والسلاح النوعي، فإن الجنود المصريين سيصبحون عرضة لهجمات يومية من الجانب الآخر، بالتالي ستجد مصر نفسها بحرب استنزاف مكلفة وطويلة. لذلك، فإن الخيار الأسلم يكون بدعم عسكري مصري مباشر لقوات الجيش الوطني الليبي انطلاقاً من سرت لدحر ميليشيات حكومة الوفاق وطردها من العاصمة طرابلس لتسكير كافة المنافذ التي تستخدمها تركيا للتدخل في ليبيا.
يجب ألّا يكون أي تدخل عسكري في ليبيا على حساب الاقتصاد المصري الذي يشهد نمواً واضحاً يؤكده ارتفاع قيمة الجنيه المصري. فإن الاقتصاد المصري يعيش اليوم في بحبوحة مقارنة بوضع الاقتصاد التركي، حيث فقدت الليرة التركية أكثر من 12 في المئة من قيمتها خلال سنة واحتياط العملات الصعبة في تدن مستمر. وعليه، يجب على القيادة المصرية أن تبادر إلى ترجمة أي تحركات عسكرية إلى مكاسب سياسية عبر اشراك الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة بعملية سريعة لانتخابات ليبية تنتج حكومة وبرلماناً جديدين يساعدان على توحيد البلاد وإنهاء النزاع. ويجب أن تحل قوات سلام دولية مكان القوات المصرية خلال فترة زمنية سريعة لتساعد الجيش الوطني الليبي على فرض الأمن والاستقرار والتأكد من نزاهة الانتخابات. أي استمرار لتواجد عسكري مصري في ليبيا من دون أفق لحل سياسي سينعكس سلباً على مصر واقتصادها.
تعتبر مصر اليوم مركزاً أساسياً لصنع القرار في العالم العربي الذي يتعرض لانتهاكات من قوى إقليمية. فبعد أن تمادت إيران بتدخلاتها على ساحات عربية عدة نتيجة فراغ أحدثته سياسات أميركية فاشلة وتشرذم عربي، ها هي تركيا اليوم تحاول السير على الدرب نفسه وتندفع نحو الساحتين السورية والعراقية ومن ثم الليبية. آن الأوان لمصر أن ترسم خطاً بالرمال لكبح جماح القوى الإقليمية الطامعة بالثروات العربية بدءاً بحماية عمقها الاستراتيجي. تغاضيها عن الخطر الحالي سيفتح شهية قوى إقليمية إضافية تسعى خلف ثروات عربية أخرى مثل مياه النيل. أي تحرك مصري مزدوج عسكري-ديبلوماسي ناجح سيبعث برسالة واضحة للقوى الإقليمية كافة عن ثمن تهديد أمن مصر القومي، ويعزز مكانة القاهرة كمركز ثقل العالم العربي.
نقلا عن جريدة النهار العربي، 5 أغسطس 2020.