التغيير سنة الحياة، لكن كيف للتغيير أن يحدث. في المجتمعات الناضجة تتيح الترتيبات المؤسسية الدمج التدريجي للجديد ضمن النظام القائم. حتى التغيير بهذه الطريقة له آلامه ومشكلاته، لكن بقدر ما يكون التغيير سلميا وقانونيا وتدريجيا، بقدر ما تقل معاناته، وتزيد مكاسبه. ماذا عن بلادنا التي تحتاج إلى استقرار يسمح لها باللحاق بما فاتها من تنمية وبناء؛ فيما تسعى لوضع أسس البنية التحتية لحياة سياسية فعالة، بالضبط كما تبني البنية التحتية للخدمات والاقتصاد؛ وكل ذلك بينما يلاحقها شبح ركود خيم فوق سمائها لعقود. الإصلاح والتدرج هو الإجابة الصحيحة عن سؤال الاستقرار والتغيير في هكذا ظروف، وهو الاختيار العاصم ضد الركود من ناحية، وضد مغامرات الثوريين والمخربين من ناحية أخرى.
الإصلاح عملية متواصلة، والعقل الإصلاحي، عقل مركب، يدرك مدى تعقيد الواقع، فلا يختزله في جانب وحيد من جوانبه الكثيرة. الاقتصاد والسياسة والسلطة والثقافة والتعليم والصحة وزيادة الثروة الوطنية وتوزيعها بعدالة، كلها جوانب مهمة لحياة المجتمع والدولة، وعلينا التقدم للأمام بشكل يحقق التوازن بين كل هذه الجوانب. يدرك العقل الإصلاحي أن للمجتمع بنية ديناميكية، يجب الحفاظ عليها في حالة حركة دائمة نحو الأفضل والى الأمام؛ وليس بنية راكدة مكتملة، كالعقار، يمكن استصدار قرار بهدمه لإقامة آخر محله.
العقل الثوري، على الجانب الآخر، هو عقل بسيط لحد التفاهة، يختزل الواقع لواحد فقط من أبعاده، هو السلطة السياسية، التي يرى في هدمها والثورة عليها طريقا أوحد للتقدم. إيديولوجيا الثوريين هي أمر ثانوي، فقد يكونوا شيوعيين أو إخوان أو فوضويين، ولكنهم جميعا يشتركون في نفس العقلية التبسيطية، التي تختزل كل تعقيدات المجتمع في السلطة السياسية.
لماذا لا يثور المصريون؟ هل لاحظت أن مقالا يحمل هذا العنوان، أو عنوان شبيه له، يظهر بين الحين والآخر في هذه الصحيفة أو تلك؟ خلف هذا النوع من المقالات عقل يرى أن الثورة هي الحدث الأهم والأنبل؛ لأن الثورة في عقيدة الثوريين هي قاطرة التاريخ، وبدونها تدخل المجتمعات في ركود، والشعوب التي لا تثور لا تستحق الحياة.
العقل الثوري عقل مغرور، ينظر للمجتمع والسلطة والدولة باستخفاف وخفة، ويظن أن ما استغرق تكوينه عقود وقرون، يمكن هدمه وبناء ما هو أفضل منه فورا، فقط لو تسلم الثوريون القيادة والسلطة. العقل الثوري مغامر ومقامر، لا تكفي كل الآلام المخيفة التي تواجه شعوب شقيقة، أغرقتها الثورة في حروب أهلية لا تنتهي، وأخضعتها لتدخلات خارجية مدمرة، لا يكفيه كل هذه لردعه عن المقامرة بمصير الوطن والشعب.
المجتمعات تتقدم كلما أنتجت المزيد من الثروة، والمزيد من المعرفة؛ وكلما واجهت بنجاح المزيد من التحديات التي تواجه الناس، وأخذت بالمزيد من الأساليب والابتكارات والتطبيقات التي تجعل حياة الناس أيسر. كل طريق جديد يتم شقه، وكل بيت جديد يتم بناؤه، وكل مدينة جديدة تضيف لمساحة المعمور، وكل فرصة عمل جديدة يتم توفيرها، وكل قطار جديد يسير على القضبان، وكل مريض جديد يتم علاجه؛ كل واحد من هذه الخطوات يمثل إضافة تدفع المجتمع قدما، وتمثل تحريكا للتاريخ إلى الأمام.
العقل الثوري لا يعترف بكل هذا، ولا يرى فيه سوى خدعة يستخدمونها للتلاعب بالناس، وتدجينهم في حظيرة السلطة. تسخيف الإنجازات، أو إنكارها كلية، هو طريقة الثوريين في تبرير دعوتهم. تحدث الثورة عندما يصل الغضب إلى الذروة، وعندها لا يفكر الناس كثيرا، لكنهم فقط ينفجرون، خاضعين للسكرة التي تقضي على الفكرة. هل لاحظت أن كثيرا من الغاضبين الذين شاركوا في الثورة، يتمنون لو أن الزمن يعود ليتصرفوا بطريقة أخرى.
التنمية وتحسين أوضاع الناس يذهب بالغضب، وهو لهذا مكروه في نظر الثوريين، فالغضب يجب أن يصبح أكبر وأعمق حتى تقترب لحظة الثورة. الثوري الأصيل يتمنى للخراب أن يعم، فهذا هو الطريق الأسرع للثورة.
التقدم يقود إلى مزيد من التقدم، هكذا يفكر العقل الإصلاحي. فكلما حل المجتمع بعضا من مشكلاته، زادت قدرته على حل ما تبقى من المشكلات؛ وكلما أضاف المجتمع إلى ثروته، كلما توفرت له موارد تمكنه من مواجهة مشكلات لم يكن بإمكانه التعامل معها بفعالية من قبل. على العكس من ذلك، يرى الثوريون أن التقدم لا يأتي إلا بعد الخراب، وأن الخراب هو طريق التقدم؛ هكذا يفكر العقل الثوري. لابد للفرد أن يكون لديه الكثير من الالتواء والتشوه لكي يرى الأمور بهذه الطريقة، فالعقل السوي والفطرة السليمة ترى أن التقدم يقود إلى التقدم، وأن الخراب لا يقود إلا إلى الخراب.
لا تصدق ثوريا لو تحدث عن الإصلاح، فهو في قرارة نفسه يتمنى لو لا يتم إصلاح أي شيء. هل سمعت أبواق الجماعة إياها وهم يتحدثون عن تدمير الأرض الزراعية بسبب الأبنية التي تقام عليها، وهل سمعتهم بعد ذلك بشهور وهم يحرضون الناس ضد محاولة الدولة حماية الأرض الزراعية؟ لا في المرة الأولى قصد هؤلاء تحقيق الصالح العام، ولا في المرة الثانية أيضا، فكل ما يريدونه هو التعريض بالسلطة. قد تتفق مع قانون المصالحة في مخالفات البناء، وقد لا تتفق، فالقانون فيه الكثير من المشكلات التي كشف عنها التطبيق، لكن ليس لكل هذا صلة بجماعة المحرضين الذين لا يعنيهم من الأمر سوى التحريض وإثارة الغضب.
المسافة بين الثورة والتخريب قصيرة جدا، والثوري في الحقيقة ليس سوى مخرب حالفه الحظ، ونجح في الاستيلاء على السلطة، فسمى ما قام به ثورة، ونصب نفسه ثوريا؛ أما قبل ذلك فالثوري ما هو إلا مخرب، يشعل غضب الناس لأسباب يمكن التعامل معها بطرق أكثر فاعلية وأقل مخاطرة بمصير الحجر والبشر.