تفاقمت خلال الأسابيع الماضية في إيران أزمة فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد-19)، حتى إنها طالت مسئولين داخل النظام الإيراني، ومقربين من المرشد “علي خامنئي” نفسه.
بدأت الأزمة في 19 من شهر فبراير الماضي حينما أعلنت إيران عن أول حالتي وفاة في مدينة قم شمال البلاد جرّاء الفيروس، لتصبح مدينة قم في وقت لاحق إحدى أهم بؤر انتشار (كوفيد-19).
انتقل الفيروس من قم إلى بقية المدن والمحافظات الإيرانية، حيث استشرى في قُم، ثم في محافظات غيلان، ومركزي، وطهران، على الترتيب، ولاحقًا إلى باقي مناطق إيران. وقالت وزارة الصحة الإيرانية في الثالث من أبريل الجاري، إن العدد الإجمالي للمصابين بفيروس كورونا وصل إلى 53 ألفًا و183 شخصًا، وبلغ إجمالي حالات الوفاة 3294 شخصًا، من بينهم عدد كبير من المسئولين وبعض رجال الدين. ونتج عن تفشي الفيروس داخل إيران انتقالُه إلى بعض دول المنطقة كالعراق ولبنان؛ لأسباب عدة، بعضها يعود لطبيعة العلاقات السياسية أو العسكرية.
بهذه الأعداد، احتلت إيران في بدايات أزمة كورونا العالمية المرتبة الثانية بعد الصين في معدلات تفشي الوباء، من حيث أعداد الإصابات أو الوفيات، ثم باتت مؤخرًا تشغل المرتبة الأولى في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أثار تساؤلات حول أسباب وصول الأزمة في إيران إلى هذا المستوى.
في الواقع، شكّلت مواقف ودعوات رجال الدين العامل الأكبر الذي أدى إلى تفشي فيروس كورونا في إيران، على خلفية إصرارهم على إجراء الانتخابات التشريعية في ظل انتشار الفيروس، ودعوتهم الإيرانيين إلى النزول للشوارع للمشاركة في مراسم تشييع جنازة قائد فيلق القدس السابق “قاسم سليماني”، والاحتفال بمرور 41 عامًا على تأسيس النظام الإيراني الجديد في 1979.
وصل الأمر إلى حد رفض عدد كبير من أبرز رجال الدين الشيعة في إيران للإرشادات الصحية العالمية، وحتى المحلية، التي دعت لإغلاق المراقد والمزارات الدينية والحوزات تجنبًا لانتشار الوباء، والتي تشكل إحدى أبرز ساحات التجمع داخل إيران. بل إن بعض رجال الدين دعوا الإيرانيين إلى زيارة هذه المراقد طلبًا للشفاء.
إن هذه الآراء والدعوات التي أطلقها العديد من رجال الدين الإيرانيين، ورفضهم إغلاق المراقد والمزارات الدينية، مثلما حدث مع مدينة قُم؛ قد أدى إلى توسع أكبر لفيروس كورونا داخل إيران. ونحاول فيما يلي تناول ملامح هذا الدور السلبي الذي لعبه رجال الدين في إيران خلال هذه الأزمة.
قرارات ودعوات غير مسئولة
شهدت إيران خلال شهري يناير وفبراير 2020 ثلاثة تطورات مهمة، كان موقف رجال الدين منها عاملًا رئيسيًّا وراء سرعة انتشار الفيروس داخل إيران.
1- دعوة الجمهور للمشاركة في مليونية لمراسم تشييع جنازة “سليماني”
مثّل مقتل قائد فيلق القدس الإيراني السابق “قاسم سليماني”، في 3 يناير 2020 بالقرب من مطار بغداد الدولي بالعراق، بدايةً لحالة من الاستقطاب والتعبئة الأيديولوجية من قِبل النظام الإيراني. فقد توعد المسئولون الإيرانيون في تصريحات عدة لهم بـ”رد قاس”، وأثاروا حالة من الترقب الشديد محليًّا وخارجيًّا حول شكل الرد الذي سيُقدِمون عليه، وانتشرت المآتم والتجمعات في الحوزات الدينية داخل إيران، ودعا المسئولون الإيرانيون آنذاك لحشد محلي شعبي كبير للمشاركة في جنازة “سليماني”.
ولم تقتصر المشاركة أو فعاليات التشييع على شهر يناير فقط، بل استمرت بعد مرور 40 يومًا على مقتله، أي حتى منتصف شهر فبراير 2020، في حين أن الصين كانت قد أعلنت عن أول إصابات كورونا في أواخر ديسمبر 2019، بينما أعلنت طهران بشكل رسمي عن أولى حالات كورونا في فبراير، ما يعني أن مثل هذه الحشود كانت سببًا مهمًّا في انتشار كورونا بإيران فيما بعد. وإذا أخذنا في الحسبان حجم التجارة الكبيرة بين بكين وطهران، ووجود جالية صينية داخل إيران، يمكن القول إن دعوة رجال الدين والمسئولين الإيرانيين للمشاركة في تشييع جنازة “سليماني” التي وصفها الإعلام الإيراني بالمليونية، مثّلت البذرة الأولى لانتشار كورونا المستجد في إيران.
2- احتفالات ذكرى الثورة الإيرانية
كان للذكرى الحادية والأربعين للثورة الإيرانية نصيبها من المشاركة في تفاقم أزمة فيروس كورونا داخل إيران؛ حيث شارك “الملايين” من المواطنين الإيرانيين، حسبما أعلنت وسائل إعلام إيرانية، في هذه الاحتفالات بمناطق مختلفة من البلاد، مما شكل تربة خصبة لانتشار الفيروس على نطاق واسع.
لقد استغل رجال ومسئولو النظام الإيراني ووسائل الإعلام مقتل “سليماني” للدعوة إلى المشاركة في الذكرى الـ41 للثورة الإيرانية، خاصة مع تزامن ذلك مع أربعينية مقتل “سليماني”، بهدف تحقيق أعلى نسبة مشاركة من قِبل المواطنين، داعين أكثر من 6 آلاف مصور محلي ودولي لتغطية هذه الأحداث، مما شكل تربة خصبة لانتشار الفيروس، خاصة وأن توقيت هذه الاحتفالات لم يكن ببعيد عن الموعد الذي أعلنت فيه إيران عن أول حالتي وفاة جرّاء الفيروس في 19 فبراير.
3- الانتخابات التشريعية الإيرانية
على الرغم من إعلان النظام الإيراني عن وجود أول حالتي “وفاة” داخل البلاد بسبب فيروس كورونا المستجد؛ إلا أنه أصر على إجراء الانتخابات التشريعية في 21 فبراير.
وقد سبق إجراء هذه الانتخابات دعواتٌ من قِبل رجال الدين والمسئولين الإيرانيين للمشاركة فيها، خاصة أنها تزامنت مع مقتل “سليماني”، والذكرى الحادية والأربعين لتأسيس النظام الإيراني عام 1979. ودعا المرشد “علي خامنئي” من جانبه الإيرانيين إلى المشاركة في هذه الانتخابات “لإظهار وحدة الشعب الإيراني في مواجهة الأعداء”، واصفًا إياها بأنها “جهاد عام وتعزيز لقوة البلاد”.([1])
ويتضح التأثير السلبي المؤكد لقرار إجراء الانتخابات التشريعية في هذا التوقيت من خلال استطلاع إحصائيات المشاركة فيها التي بلغت أكثر من 40%، أي حوالي 24 مليونًا و512 ألفًا و404 ناخبين، وذلك على الرغم من وصفها بأنها نسبة المشاركة الأقل منذ الثورة الإيرانية. وشكلت مدينة قُم، التي مثلت البؤرة الأولى لانتشار (كوفيد-19) في إيران، إحدى أبرز الدوائر الانتخابية، حيث كانت كما وصفها “خامنئي” “في الانتخابات، كانت قم واحدة من أكثر الدوائر ازدحامًا” بالمصوتين، وهو ما يفسر لنا أحد الأسباب الرئيسية لتفشي الوباء في هذه المدينة على وجه الخصوص، ذات المكانة الدينية المذهبية لدى الإيرانيين.
وهكذا، يمكن القول إن هذه الانتخابات مثّلت أحد أهم العوامل التي مهدت لتفشي كورونا في إيران، وذلك بالنظر إلى توقيت إجرائها (في أواخر شهر فبراير الماضي) وبعد أن كانت عدة دول قد أعلنت عن ظهور حالات إصابة بكورونا، بما في ذلك الحكومة الإيرانية نفسها التي أعلنت قبل انطلاق الانتخابات بيومين عن أول حالتي وفاة جرّاء الفيروس، الأمر الذي يكشف خطأ قرار إجراء هذه الانتخابات في هذا التوقيت.
موقف رجال الدين الإيرانيين من إجراءات مكافحة كورونا
كان من بين أهم الأسباب التي قادت إلى التفشي الكبير لفيروس “كورونا المستجد” داخل إيران، الطريقة التي تعامل بها رجال الدين مع الوباء؛ إذ رفض كثيرٌ منهم الإجراءات الصحية المتبعة دوليًّا لمواجهة الفيروس، مثل: إغلاق دور العبادة، وإغلاق أماكن التجمعات الدينية الأخرى، كالمراقد الدينية والمزارات. بل إن بعض رجال الدين دعوا المواطنين إلى زيارة المراقد الدينية في مدن مثل قم وغيرها طلبًا للشفاء.
على سبيل المثال، رفض رجل الدين “أحمد علم الهدى”، إمام جمعة مدينة مشهد الإيرانية، وممثل “خامنئي” في محافظة خراسان، إلغاء صلاة الجمعة بسبب انتشار فيروس كورونا، قائلًا إن إلغاء “هذه الفريضة الإلهية ليس له أي مبرر”، مؤكدًا أنه غير مقتنع باتخاذ مثل هذه الإجراءات([2]). أما رجل الدين المتشدد “علي رضا بناهيان” فقد رأى أن ظهور وانتشار كورونا مقدمة لظهور “المهدي المنتظر”، حسب الاعتقاد الشيعي. مضيفًا أنه كلما تقدم الزمن، فإن هذه المصائب والمشكلات سوف تزداد تمهيدًا للغرض ذاته.([3])
وذهب إمام جمعة قم “محمد سعيدي”، إلى ما هو أبعد من ذلك، حينما أشار في حديث له في 22 فبراير الماضي إلى الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، قائلًا إن “العدو يريد أن يظهر قم غير آمنة، وأن ينتقم”. وعبّر “علي أكبر حسيني نجاد”، مستشار “سعيدي”، عن رفضه كذلك إغلاق الأماكن الدينية في قم قائلًا، إن “إغلاق الضريح يحمل رسالة مريرة.. ينبغي أن يتخذ النظام نفسه هذه القرارات”، في إشارة إلى رفضه اتباع تعليمات إدارة محافظة قم نفسها بإغلاق الضريح.[4](15) وكان أقصى ما تم التوصل إليه هو تطهير الأماكن المذهبية في قم مع عدم إغلاقه، أو القيام بإغلاق بعضها فقط ومنع صلاة الجماعة.
ولم يكتفِ رجال الدين في إيران بمخالفة أبسط القواعد الصحية العامة البسيطة، بل إن كثيرًا منهم دعوا المواطنين للذهاب إلى هذه الأماكن الدينية “للتبرك والشفاء”. وعلى الرغم من التحذيرات المستمرة للأطباء والخبراء بضرورة تجنب الأماكن المزدحمة بشكل عام، فقد تحدى رجال الدين هذه التحذيرات بدعواتهم للخروج.
خلاصة القول، إن الطريقة التي تعامل بها عدد من رجال الدين البارزين في إيران مع فيروس أزمة “كورونا المستجد”، سواء سياسيًّا أو دينيًّا، وعدم تمييزهم بين الاعتبارات والمصالح الدينية والسياسية، من ناحية، والشروط الصحية اللازمة لمواجهة الأزمة، ساهم في سرعة انتشار الوباء داخل إيران.
المصادر:
[1] “خامنئي يحث الإيرانيين على المشاركة في الانتخابات”، روسيا اليوم، 18 فبراير 2020. https://cutt.us/79X8q
[2] “علم الهدی: تعطیلی نمازجمعه بخاطر کرونا توجیه ندارد”، راديو فردا، 29 فبراير 2020.” https://cutt.us/1luc1
[3] “تحلیل پناهیان از کرونا ؛ فلسفه بلای اخیر چیست؟ | پیشنهادی برای ۴۰ روز آینده”، همشهری آنلاین، 14 مارس 2020. https://cutt.us/IlAFJ
[4] رضا حقيقت نجاد، “بحران کرونای قم ودولت خودمختار حرم معصومه”، راديو فردا، 3 مارس 2020. https://cutt.us/57yj7