يبدو من تصاعد الأحداث في سوريا توجيه تركيا بوصلة تحركاتها الميدانية التصعيدية بالمنطقة نحو الأراضي السورية مرة أخرى. ففي مطلع شهر أكتوبر 2020، أعلن الرئيس التركي استعداد بلاده لـ”تطهير أوكار الإرهاب في سوريا إن لم يتم الوفاء بالوعود المقدمة لها، في ظل استمرار صمت الأطراف إزاء التنظيمات الإرهابية والدول الداعمة لها”، وهو الأمر الذي عاود التأكيد عليه لاحقًا في نهاية الشهر ذاته. ثم جاء المتحدث الرسمي للرئاسة التركية “إبراهيم قالن”، لتوضيح ما قاله “أردوغان”، فقال إن أنقرة يمكن أن توسّع عملياتها العسكرية في سوريا “في أي لحظة”، وذلك تبعًا لما ورد باتفاقياتها الموقّعة مع كلٍّ من واشنطن وموسكو، حيث احتفاظ تركيا بحقها في الدفاع عن النفس، والتدخل ضد أي كيان إرهابي، وهو الأمر الذي يتحقق -وفقًا لـ”قالن”- في حال تعرضت أراضي تركيا أو وجودها في سوريا، سواء من حيث الجنود أم الموظفون المدنيون أم عمّال الإغاثة أو غيرهم، لهجوم من قِبَل المنظمات الإرهابية كداعش والقوات الكردية.
أعقب الحديث مصادقة البرلمان التركي يوم السابع من أكتوبر 2020 على تمديد إرسال القوات العسكرية إلى خارج البلاد (سوريا والعراق) عامًا إضافيًّا، للقضاء على الهجمات المحتملة ضد البلاد من جانب التنظيمات الإرهابية التي تهددها. كما كثفت القوات التركية والفصائل الموالية لها من قصفها لمواقع ضمن مناطق انتشار القوات الكردية في محيط ريف حلب الشمالي والشرقي، وريف الرقة الشرقي، لا سيما مدينة تل رفعت ومواقع أخرى تقع ضمن مناطق نفوذ “مجلس منبج العسكري” التابع لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ومحيط بلدة عين عيسى.
متغيّرات المشهد السوري وفقًا لتركيا
يمكن وصف التهديد التركي الأخير بالسلوك المعتاد في إطار تعامله مع الملف السوري. فخلال الفترة بين عمليتي غصن الزيتون ونبع السلام، أطلق الرئيس التركي العديد من التهديدات والتحذيرات حول اقتراب بلاده من شنّ عمليات جديدة بمناطق شرق الفرات (تحديدًا منذ ديسمبر 2018 حتى إجراء العملية في أكتوبر 2019)، وهو الأمر الذي يطرَح تساؤلًا حول مدى جدية تهديد “أردوغان” هذه المرة.
مبدئيًّا، هناك العديد من المتغيرات التي يمكن معها تصور اتجاه “أردوغان” نحو إطلاق تهديده الجديد. لعل البداية هنا تكون عبر ما بدا من تقارب روسي كردي، تجلى في زيارة وفد من مجلس سوريا الديمقراطية إلى العاصمة الروسية موسكو، وما أعقب ذلك في الحادي والثلاثين من أغسطس 2020 من توقيع الوفد لمذكرة تفاهم مع حزب الإرادة الشعبية المنضوي تحت مظلة منصة “موسكو المعارضة”. وعلى الرغم من النفي الرسمي لأي رعاية روسية للاتفاق، إلا أن الجانب الروسي مع ذلك قد أبدى دعمه لما جاء من مواد بالمذكرة، لا سيما في ظل ما ورد بها من تأكيد على “الالتزام بمبدأ وحدة وسيادة الأراضي السورية”.
لم تُبدِ تركيا أي رد فعل رسمي حيال تلك المذكرة، حيث كان اعتراضها الوحيد منصبًّا فقط على استضافة موسكو لأعضاء من مجلس سوريا الديمقرطية. في المقابل، شهدت تلك الفترة تصاعدًا في حجم التنسيق الروسي التركي، وذلك عبر إجراء عدد من التدريبات العسكرية، وتسيير دوريات مشتركة تطبيقًا لاتفاق مارس 2020. ومع ذلك، لم يدم هذا التنسيق طويلًا، لا سيما بعد فشل الاجتماع الفني العسكري التشاوري الروسي التركي في أنقرة يومي 15 و16 سبتمبر 2020.
ترافق مع فشل الاجتماع عودة النظام نحو تكثيف ضرباته على مناطق المعارضة، وتحديدًا بمناطق ريف إدلب الجنوبي وشمال غرب حماة، والتي وصفت بكونها “الأعنف” منذ اتفاق وقف إطلاق النار مارس 2020، بجانب حشد النظام لقواته على طول جبهات المواجهة، لا سيما تلك المناطق الواقعة جنوب طريق “M4″، وهي المناطق التي طالما يؤكد النظام وحليفه الروسي رغبتهما في فرض سيطرتهما الكاملة عليها.
من جانب آخر، نفّذت روسيا بشكل صريح هي الأخرى غارات على مواقع تابعة لهيئة تحرير الشام بمنطقة جسر الشغور غرب إدلب. يُضاف إلى ذلك إعراض موسكو عن استكمال تسيير دوريات مشتركة مع الجانب التركي، بدعوى عدم التزام أنقرة بتعهداتها ومماطلتها في تنفيذ الفصل بين المجموعات المتشددة وفصائل المعارضة السورية المعتدلة، وضمان أمن الدوريات المشتركة على طريق حلب-اللاذقية.
على صعيد آخر، يبرز الحوار الكردي-الكردي الجاري برعاية أمريكية كمتغير هو الآخر، لا سيما بعد ما أعلنه وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” بخصوص تقديم الولايات المتحدة مقترحًا لتركيا بشأن تشكيل “حكم ذاتي كردي” بصلاحيات شبه دولة في مناطق شمال شرقي سوريا، بما يعني تحول التخوفات التركية إلى حقيقة على الأرض، حيث إقامة كيان كردي موحد بإدارة ذاتية على الحدود التركية.
تفسيرات متعددة
إلى جانب ما تقدم من متغيرات بالمشهد السوري، يُنظر إلى الخطاب التركي وما أعقبه من تحركات عسكرية باعتباره رد فعل يحمل العديد من التفسيرات المتشابكة، جزء منها متعلق بالسياق السوري والإقليمي، وجزء آخر له علاقة بالسياق الداخلي التركي نفسه.
أولًا: يبدو أن جزءًا من التحرك التركي، سواءً اللفظي أو الميداني، مدفوع باستشعار أنقرة التهديد من جانب موسكو وواشنطن. ففي ظل تمددها السياسي والميداني وعقدها الحوار مع أطراف مختلفة، تستشعر تركيا رغبة موسكو نحو حصر مساحة أنقرة بالملف السوري. تعزز هذا الشعور بالطبع مع ما تواجهه محافظة إدلب من ضربات روسية سورية، وإعراض روسيا عن مشاركة تركيا بالدوريات المشتركة، بجانب تنظيم مظاهرات احتجاجية ضد التواجد التركي في محيط نقاط المراقبة التركية الواقعة بالمناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية.
وبناءً عليه، ارتأت تركيا -في البداية- أن تعزز نقاطها العسكرية المنتشرة بالمحافظة، وإقامة نقاط جديدة. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فقد ارتفع عدد الشاحنات والآليات العسكرية التي وصلت لمنطقة “خفض التصعيد” خلال الفترة الممتدة من الثاني من فبراير 2020 وحتى الثالث والعشرين من أكتوبر، إلى أكثر من 10635 شاحنة وآلية عسكرية تركية دخلت الأراضي السورية، تحمل دبابات وناقلات جند ومدرعات و”كبائن حراسة” متنقلة مضادة للرصاص ورادارات عسكرية. إضافة إلى ذلك، فقد اتجهت تركيا أيضًا إلى سحب نقاطها العسكرية الواقعة ضمن مناطق سيطرة قوات النظام السوري، وكانت البداية من نقطة مورك الخاضعة بريف حماة الشمالي، والتي كانت تعد أكبر نقطة عسكرية لها في تلك المنطقة، وهو الأمر الذي فُسِّر على أنه محاولة تركية لإعادة الانتشار في إدلب لمواجهة أي هجوم محتمل من النظام.
على الجانب الآخر، وإلى جانب الاقتراح الأمريكي بشأن الإدارة الذاتية الكردية، أُثيرت أيضًا تصريحات منسوبة لـ”جيمس جيفري” -المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا- حول التزام تركيا بعدم شن أي هجمات أو عمليات عسكرية جديدة تستهدف قوات سوريا الديمقراطية ومناطقها، وفي حال شنها أي عمل عسكري أحادي الجانب، فسيترتب على الأمر عقوبات أمريكية قاسية على أنقرة. في المقابل، رفضت أنقرة عبر المتحدث الرسمي باسم الرئاسة التركية تلك التصريحات، مشددًا بأنه في حال استمرار الهجمات على عفرين ومنبج وتل أبيض، فقد تتجه تركيا إلى التدخل في أي لحظة. فضلًا عن أن التخوف التركي من التنسيق الكردي-الأمريكي لا يتوقف عند حد تحييد الدور والرؤية التركية للملف الكردي، فتصعيد القضية في التوقيت الحالي يمكن أن يزيد من الحراك الكردي داخل الأراضي التركية، ويفتح ملفًّا قد يلقى اهتمامًا دوليًّا وهو ما يخشى النظام التركي تحققه.
ثانيًا: تسعى تركيا إلى الحفاظ على سوريا كورقة تفاوضية تلوح بها عند الحاجة. ففي ظل تعدد جبهات الانخراط العسكري التركي بالخارج، يبرز تهديد الرئيس التركي في إطار تشتيت الانتباه، أو نقل ساحة المعركة من تلك الجهات إلى الجبهة السورية كي تتمكن من تحقيق مكسب، سواء في سوريا أو لكسب أرضية تفاوضية بالصراعات الدائرة بالمناطق الأخرى.
وتأتي تصريحات الرئيس التركي في سياق تصاعد الرفض الدولي للممارسات التركية بالإقليم، حيث استمرار تركيا في خرق فرض حظر السلاح المفروض على ليبيا، وأيضًا استمرار أنشطتها الاستكشافية بالقرب من الحدود البحرية لليونان، وإرسال مرتزقة سوريين للمشاركة في الصراع ما بين أرمينيا وأذربيجان. وعلى الرغم من تعدد جبهات المشاركة تلك، لكن يبرز الاتجاه نحو تحجيم الدور التركي المعرقل لأي ترتيبات أمنية سياسية على تلك الجبهات. وعليه، كان استدعاء الرئيس التركي للقضية السورية كتأكيد وتذكير للأطراف الغربية تحديدًا بإمساكه بزمام قضية أخرى يمكن من خلالها إحداث التأثير الذي يمكّنه لاحقًا من التفاوض حول مساحات أخرى.
ثالثًا: تعزيز الرابط مع القوميين، ومحاولة رفع نسب الشعبية بين قاعدة أكبر من المواطنين. فعادة ما يستخدم الرئيس التركي الخطاب التهديدي كمحاولة لرفع أسهم شعبيته، لا سيما بين القوميين. ففي ظل ما يشهده الداخل التركي من أزمات اقتصادية وسياسية، لجأ الرئيس التركي إلى التلويح بالتهديد الكردي للأمن القومي التركي بهدف خلق حالة من التوحد بين المواطنين إزاء هذا التهديد، ولدفع القوميين لمساندة ودعم الرئيس والحزب الحاكم، لا سيما في ظل موقفهما المؤيد لكافة التحركات التركية ضد القضية الكردية. يستدل على ذلك ما كشفته نتائج استطلاعات الرأي التي جرت عقب إطلاق تركيا عملية “نبع السلام” أكتوبر 2019. فوفقًا لمؤسسة “متروبول” للأبحاث، فقد بلغت نسبة مؤيدي “أردوغان” أعلى مستوياتها منذ الانتخابات الرئاسية التي شهدتها تركيا في يونيو 2018، حيث ارتفعت بنحو 3.7% لتسجل 48%، وذلك بعد شهور من ركود مستوى شعبيته جراء الأزمة، فضلًا عن خسارة العدالة والتنمية لكبرى البلديات خلال الانتخابات المحلية مارس 2019.
من ناحية أخرى، ربما يستهدف “أردوغان” من خطابه أيضًا تقويض مساعي المعارضة نحو التوحد. ففي سياق استمرار خطاباته وتحركاته العسكرية بالخارج المناهضة للوجود الكردي، يأمل “أردوغان” في أن ينعكس ذلك على الداخل عبر ضرب محاولات انضمام حزب الشعوب الديمقراطية الكردي إلى ائتلاف المعارضة، لا سيما وأن انضمام الشعوب الديمقراطية سيؤثر بالإيجاب من الناحية التصويتية لصالح المعارضة، بالإضافة إلى إضفاء الشرعية على تحركات النظام الأمنية بالداخل بحق الأكراد المتمثلة في حملة الاعتقالات المستمرة، إلى جانب فصل رؤساء البلديات. ووفقًا لصحيفة “واشنطن بوست”، فقد تمكن مرشحو رئاسة البلديات عن حزب الشعوب الديمقراطي من الفوز بـ65 بلدية تركية خلال انتخابات مارس 2019، لكن خلال الحملة التي شنتها الحكومة التركية، سيطرت السلطات على معظم البلديات ما عدا 10 منها، وسجنت 20 رئيس بلدية على الأقل.
وبناءً على ما تقدم، وفي سبيل الإجابة عن التساؤل المطروح، فمن المحتمل أن يتسم السلوك التركي خلال الفترة المقبلة بمراعاة البعد الداخلي المتمثل في تراجع شعبية العدالة والتنمية جراء ما تمر به الدولة من أزمة صحية واقتصادية، تلك الأزمات التي قد تكون نفسها سببًا للحيلولة دون إقدام تركيا على إجراء عملية عسكرية شاملة في سوريا تجنبًا لما قد يترتب عليها من عقوبات اقتصادية دولية، وتكلفة إضافية على الموازنة التركية في وقت وصلت فيه العملة التركية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق مسجلة 8.35 ليرات مقابل الدولار الأمريكي. ومن ثم فقد تفضل تركيا الاستمرار في توجيه ضربات محددة للمواقع الكردية بمنطقتي عين عيسى وتل رفعت، وذلك دون تشتيت انتباهها عن إدلب. ففي ظل استمرار القصف الجوي الروسي لمواقع موالية لأنقرة والتي خلف آخرها مقتل 56 شخصًا وإصابة أكثر من مائة آخرين تابعين لفيلق الشام بمنطقة جبل الدويلة شمال غرب إدلب؛ تتصاعد المخاوف التركية من احتمال حدوث عملية عسكرية سورية روسية مشابهة لتلك التي جرت أوائل عام 2020 وتكبدت تركيا منها خسائر بشرية وميدانية، بغرض إتمام سيطرة النظام السوري وحليفه الروسي على طريق إم-4، بما يعني خسارة تركيا أهم ورقة تفاوضية لديها حاليًّا في سوريا.
نائب رئيس وحدة الدراسات الاسيوية