عام ونصف مضت منذ أن تم البدء في تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع التأمين الصحي الشامل في محافظة بورسعيد، بتكلفة بلغت 10 مليارات جنيه. تبع ذلك، في منتصف شهر فبراير الماضي، الإعلان عن بدء تطبيق المشروع في ثلاث محافظات أخرى هي: الإسماعيلية، والأقصر، وجنوب سيناء، بتكلفة إجمالية 23.03 مليار جنيه للمحافظات الثلاث، منها 10.125 مليار جنيه لمحافظة الإسماعيلية، و9.625 مليار جنيه لمحافظة الأقصر، و3.28 مليار جنيه لمحافظة جنوب سيناء؛ فيما يتم العمل حاليًا على تأهيل وتطوير المستشفيات الموجودة في محافظتي السويس وأسوان، لإطلاق مشروع التأمين الصحي الشامل بهما قريبًا، بميزانية تُقدر بنحو 18 مليار جنيه، وفقًا للخطة الزمنية المقررة لتطبيق المشروع في محافظات المرحلة الأولى بميزانية إجمالية قدرها 51.11 مليار جنيه خلال خمس سنوات.
تطوير معايير الاعتماد والرقابة الصحية على المنشآت الطبية هي أحد التغييرات الهامة التي يحاول نظام التأمين الصحي الجديد أن يُحدثها، وذلك من خلال إنشاء هيئة مستقلة مُخصصة لهذا الغرض؛ وذلك لتحقيق الغاية الأساسية من هذا المشروع، والتي تتلخص في توحيد ورفع كفاءة الخدمات الطبية المقدمة لكافة المواطنين، فبدون فرض رقابة ومتابعة جيدة على الخدمات الطبية بعد تطويرها من الصعب أن تدوم جودتها.
ترخيص واعتماد المنشآت الطبية قبل تطبيق التأمين الصحي الشامل
يتطلب تشغيل أي منشأة طبية خاصة، سواءً كانت عيادة خاصة أو مركز تحاليل أو مركزًا طبيًا أو مستشفى، الحصول على ترخيص بالتشغيل من قبل جهتين أساسيتين هما نقابة الأطباء ووزارة الصحة والسكان، ويتم منح المنشأة هذا الترخيص بعد استيفاء عدد من الشروط المتعلقة بشكل رئيسي بالبنية التحتية والتصميم الداخلي والتجهيزات الطبية الأساسية للمنشأة. على سبيل المثال عدد الأسرة، ووجود عدد معين من غرف العناية المركزة، وتخصيص غرفة للنفايات، وغيره من المتطلبات الإنشائية. وتُمنح هذه الرخصة لفترة مساوية لمدة عقد الإيجار التي يتم إرفاقها بالأوراق المُقدمة للحصول على الرخصة.
بعد الحصول على الترخيص بالتشغيل يُسمح للمنشآت الطبية بالعمل، دون اشتراط الحصول على أي نوع من الاعتمادات بالجودة؛ أي لا توجد متطلبات تتعلق بجودة الخدمات المقدمة للمرضى، بل يتمحور التركيز الإساسي للسماح بتشغيل المنشأة على استيفاء أوراق واشتراطات الجهات الرسمية المانحة للرخصة، وهو ما أدى إلى تفاوت جودة الخدمات الطبية المقدمة من قبل المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة. وقد أنشأت وزارة الصحة المصرية برنامج اعتماد الرعاية الصحية المصرية، للمنشآت الطبية الراغبة في الحصول على اعتماد وطني بجودة الخدمات الطبية التي تقدمها، لكن أغلب المنشآت الطبية، وخصوصًا المستشفيات الكبرى، توجهت للحصول على اعتمادات أجنبية، مثل اعتماد اللجنة الدولية المشتركة لجودة الخدمات الصحية Joint Commission International أو ما تعرف اختصارًا بلجنة JCI، التي يمكن تعريفها بأنها جهة حيادية ومستقلة غير ربحية توفر المعايير الخارجية (غير الفنية) للجودة في خدمات المستشفيات. وقد بدأت لجنة الـ JCIنشاطها في عام 1994، ويقع مقرها الرئيسي في إيلينوي بالولايات المتحدة، وتمتلك عددًا من المكاتب الإقليمية على مستوى قارتي أوروبا وآسيا، وتبلغ صلاحية شهادة الاعتماد التي تمنحها ثلاث سنوات فقط.
تسعى المستشفيات الخاصة للحصول على مثل هذه الاعتمادات الأجنبية؛ كي تؤهلها للانضمام لبرامج التأمين الصحي الخاص المتوفرة حاليًا في مصر، على غرار برامج AXAEgypt وAllianz Care، لحين تطبيق مشروع التأمين الصحي الشامل، الذي يطمح لتوحيد كافة أنواع التأمين الصحي (التأمين الصحي الحكومي، والتأمين الصحي الخاص، والمشروعات العلاجية للنقابات المهنية) تحت مظلة تأمينية صحية واحدة ومتكاملة توفر خدمات طبية جيدة وموحدة لجميع المصريين.
الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية
ينص قانون التأمين الصحي الشامل، قانون رقم (2) والصادر عام 2018، على إنشاء ثلاث هيئات رئيسية لإدارة منظومة التأمين الصحي في مصر. الهيئة الأولى هي الهيئة العامة للرعاية الصحية والتي تختص بتقديم الخدمات الطبية وإدارة المستشفيات التابعة للمنظومة، والثانية هي الهيئة العامة للتأمين الصحي والمسئولة عن توفير التمويل اللازم لمنظومة التأمين الصحي الشامل، أما الهيئة الثالثة فهي الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية، وتهدف لضمان جودة الخدمات الصحية والتحسين المستمر لها وفقًا لمعايير الاعتماد المعمول بها.
تخضع هيئة الاعتماد والرقابة الصحية للإشراف المباشر لرئيس الجمهورية، وهي الجهة الوطنية المنوط بها وضع معايير الاعتماد اللازمة لكل منشأة طبية ترغب في الانضمام لمنظومة التأمين الصحي الشامل ومتابعتها وفرض الرقابة عليها. فعند تطبيق مشروع التأمين الجديد في أي محافظة يتم العمل على تطوير ورفع كفاءة المستشفيات والمراكز الطبية والوحدات الصحية الحكومية الموجودة داخل المحافظة، وفقًا لمعايير الجودة التي وضعتها هيئة الاعتماد، كما يُفتح الباب للمنشآت الطبية الخاصة (العيادات، المستشفيات، المراكز الطبية، الصيدليات) الراغبة في الانضمام للمنظومة وتقديم خدمتها في إطار التأمين الصحي الشامل، لكن بعد إتمام تسجيلها واستيفائها لمعايير اعتماد جودة خدماتها الطبية من قبل هيئة الاعتماد والرقابة الصحية، وحصولها على الاعتماد؛ حتى تستطيع الانضمام لمظلة التأمين الصحي الشامل وتواصل تقديم الخدمات الطبية. فنظريًا، وخلال الأعوام الخمس عشرة القادمة، من المتوقع أن تختفي أنظمة التأمين الصحية الخاصة والنقابية؛ نظرًا لكون التأمين الصحي الشامل نظامًا إلزاميًا على جميع المواطنين، ولو ظلت أنظمة التأمين الخاصة والنقابية فستكون هناك تكلفة إضافية على الشركات التي ستضطر لدفع اشتراكات موظفيها للتأمين الصحي الشامل وللتأمين الخاص، مما سيحدث أيضًا ازدواجية في تقديم الخدمة الطبية.
يحاكي هذا النظام ما يتم تطبيقه في المملكة العربية السعودية، حيث يشترط مجلس الضمان الصحي التعاوني، المنوط بالإشراف على تطبيق نظام الضمان الصحي التعاوني، أن تحصل المستشفيات الراغبة في العمل تحت مظلة التأمين الصحي السعودي على شهادة اعتماد المركز السعودي لاعتماد المنشآت الصحية Saudi Central Board For Accreditation Of Healthcare Institutions (CBAHI)، أو شهادة JCI الدولية؛ من أجل ضمان تقديم الخدمات الصحية وفقًا للمعايير المهنية والأخلاقية، مع تعزيز مستوى خدمات الرعاية الصحية المقدمة للمؤمن عليهم.
فرص وتحديات الاعتماد الوطني لخدمات الرعاية الصحية
وضعت هيئة الاعتماد والرقابة الصحية ما يزيد على 350 معيارًا لتقييم جودة خدمات الرعاية الصحية داخل المنشآت الطبية، بما يشمل المستشفيات، ومراكز ووحدات الرعاية الأولية، ومراكز الأشعة والتحاليل الطبية، والصيدليات. وترتكز حوالي 60% من تلك المعايير حول المريض وتقييم الرعاية الصحية المقدمة له، أما باقي المعايير فتتمحور بشكل أساسي حول المنشأة الطبية نفسها وتقييم كفاءة استخدام الموارد والعدالة في التطبيق. واستطاعت قائمة المعايير المحددة لتقييم المستشفيات ومراكز الرعاية الأولية، في الثامن عشر من شهر فبراير الماضي، أن تحصل على اعتماد الجمعية الدولية لجودة الرعاية الصحية “الإسكوا” IEEA، والتي تعد هيئة مستقلة تختص بتقديم خدمات التقييم الخارجي لمنظمات التقييم الوطنية للرعاية الصحية وهيئات تطوير معايير الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم، بنسبة بلغت 98%. وكانت خطوة الاعتماد الدولي للمعايير التي وضعتها هيئة الاعتماد والرقابة أساسية للتأكيد على توافق معايير الرعاية الصحية المصرية، التي ستتبعها منظومة التأمين الصحي الشامل، مع المواصفات القياسية الدولية.
ووفقًا للموقع الرسمي للهيئة، فقد حصل ثلاث مستشفيات فقط على اعتماد الهيئة، بينما يبلغ إجمالي عدد المستشفيات المسجلة لتقديم خدمات ضمن نظام التأمين الصحي الشامل، خمسة عشر مستشفى، منذ انطلاق الهيئة في عام 2018. ولكن حتى كتابة هذا المقال لم تُمنح أي من المستشفيات الموجودة في محافظات المرحلة الأولى من منظومة التأمين الصحي الشامل الاعتماد، وهو ما يثير التساؤل حول جودة الخدمات الصحية المقدمة داخل مستشفيات التأمين الصحي الحكومية، والتي تم تطويرها مؤخرًا في محافظة بورسعيد وضمها للمنظومة الجديدة على سبيل المثال، فهل لا تزال تلك الخدمات لا تتوافق مع المعايير اللازمة لتحصل على اعتماد الهيئة؟ وفي هذه الحالة لماذا غاب التنسيق بين هيئات التأمين الصحي الشامل الثلاث؛ بحيث تشرف هيئة الاعتماد والرقابة على كافة مراحل رفع كفاءة وتطوير المستشفيات، حتى تتأكد الهيئة من توافق التطوير الذي يتم تطبيقه مع المتطلبات اللازمة لحصول المستشفى على الاعتماد فور الانتهاء من تطويرها. إلى جانب هذا، فإنه يلاحظ عزوف المستشفيات الخاصة، والموجودة في المحافظات التي طبقت بها منظومة التأمين الصحي الشامل، عن الحصول على الاعتماد بالرغم من كونه السبيل الوحيد لأي منشأة طبية خاصة ترغب في الانضمام لمنظومة التأمين الصحي الشامل، فكيف يمكن حث المستشفيات الخاصة كي تحصل على الاعتماد الوطني، والذي يهدف بشكل رئيسي لتوحيد ورفع كفاءة والتحسين المستمر للخدمات الصحية المُقدمة داخل المستشفيات المصرية، سواءً انضمت أم لم تنضم لمنظومة التأمين الصحي الجديدة.
ما يمكن اقتراحه لمواجهة هذه التحديات التي كانت ولا تزال تتسبب في استمرار تفاوت الخدمات الصحية بين المنشآت الطبية، هو جعل الاعتماد الصادر عن الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية شرطًا أساسيًا من أجل تجديد رخصة تشغيل المنشآت الطبية، بحيث تلتزم كافة المنشآت التي تقدم خدمات الرعاية الصحية في القطاعين الحكومي والخاص، بما يشمل المستشفيات والمراكز الطبية ومعامل الأشعة والتحاليل والعيادات الخاصة والصيدليات، بالمعايير التي تضعها الهيئة، مع التزام الهيئة بتطبيق رقابة شاملة ومستمرة على تلك المنشآت بعد حصولها على الاعتماد؛ لضمان استدامة جودة الخدمات الصحية.

