منذ أوائل التسعينات وهناك عديد من المحاولات لتطوير التعليم الفني في مصر، أهمها تأسيس مدارس فنية تابعة لهيئات متنوعة بغرض سد احتياجات هذه الهيئات من العمالة المدربة، في مجالات مثل التمريض و البريد والسكة الحديد، بحيث تكون هذه المدارس تابعة فنيا لهذه الهيئات، مع تبعية أكاديمية مشتركة مع وزارة التربية والتعليم. هناك أيضا محاولات بذلت لاستيراد تجارب دولية للنهوض بالتعليم الفني بالتعاون مع القطاع الخاص، كما حدث مع مدارس مبارك كول والمجمعات التكنولوجية، بيد أن هذه المحاولات لم تحقق التطوير الملموس وحالفها التثبيط نتيجة لعوائق وتحديات متباينة، لذا تبنت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، منذ عام 2018، سياسة جديدة لإصلاح منظومة التعليم الفني، اعتمدت فيها على نموذج الإصلاح المزدوج من خلال اصلاح نظام التعليم القائم، واستحداث أخر جديد بخطة متوازية من خلال إنشاء المدارس التكنولوجيا التطبيقية والفنية المتخصصة الجديدة، وتعد هذه المدارس طفرة نوعية إلا أن عددها يظل محدود جداً مقارنة بأعداد المدارس الفنية التقليدية.
تبعية مختلفة وإشراف مشترك
تخضع النسبة الأكبر من المدارس الفنية للإدارة والإشراف الكامل لوزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، وتضم تخصصات التعليم الفني التجاري والصناعي والزراعي والفندقي بمختلف تخصصاتهم، بينما يوجد بعض المدارس الفنية التي تتبع وزارات أو هيئات حكومية مختلفة، ومنها مدارس التمريض، المتوسطة وفوق المتوسطة، التي تتبع وزارة الصحة، وتقدم شهادتين إحداهما متوسطة بعد إتمام 3 سنوات دراسية، والأخرى فوق متوسطة بعد إتمام خمس سنوات دراسية، وتحظى هذه المدارس بإقبال كبير بسبب ما تقود إليه من مستقبل مهني جيد ومضمون، لهذا فإنها تحظى بتنسيق التحاق مرتفع يتخطى الحد الأدنى للقبول في التعليم الثانوي العام. وتشبه هذه المدارس في الاختصاص، مدارس التمريض العسكري، وإن كانت تختلف عنها فى التبعية، حيث تتبع الأخيرة وزارة الدفاع.
هناك أيضا المدارس الثانوية الفنية البحرية، وهي تتبع هيئة قناة السويس بمدن القنال الثلاثة، وتقدم شهادة تعادل دبلوم المدارس الثانوية الصناعية بعد اتمام أربع سنوات دراسية. وهناك أيضاً الهيئة القومية لسكك حديد مصر التي ترعى مدارس فنية متخصصة تابعة لها، تؤهل الطلاب للعمل بها بعد اتمام الدراسة لمدة ثلاث سنوات. على صعيد أخر تقدم وزارة التجارة والصناعة برامج للتعليم الفني والمهني حيث تقدم مصلحة الكفاية الإنتاجية والتدريب المهني دبلوم التلمذة الصناعية، ومدته ثلاث سنوات. وتقدم معظم هذه المدارس الغير تابعة لوزارة التربية والتعليم والتعليم الفني امتياز التكليف المباشر للعمل بعد التخرج، وتشرف وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني على كل المدارس الفنية بمختلف تبعياتها واختصاصاتها، وتتولى متابعة النواحي التعليمية، بينما تتولى الوزارات والهيئات الاشراف الفني، وخاصة اشتراطات الالتحاق والنجاح، والرسوب، وتنفيذ التدريبات الميدانية.
أما على صعيد مدارس التعليم الفني الخاصة (ذات المصروفات) فبالرغم من النمو البطيئ نسبياً في أعدادها إلا ان هناك وثبة حقيقية في بعض التخصصات، حيث انضمت 12 مدرسة زراعية “خاصة” لأول مرة خلال السنة الدراسية الماضية، وتختلف هذه المدارس عن المدارس التكنولوجية التطبيقية التي بدأت عام 2018 ، فالأخيرة تتبع وزارة التربية والتعليم بمشاركة القطاع الخاص بنظام بروتوكولات التعاون، بينما الأولى تتبع القطاع الخاص وتمثل امتدادا للتخصصات الموجودة بالمدارس الفنية التابعة لوزارة التربية والتعليم ولكن بكثافة أقل داخل الفصول، وبعض المميزات الأخرى كتوفير تدريبات في بعض الشركات أو المصانع، ويشرف على هذه المدارس إدارة المدارس الخاصة التابعة لوزارة التربية والتعليم فقط بغرض المتابعة الفنية والإدارية، مثلما هو الحال مع كل المدارس الخاصة. ويوضح الشكل التالي (1) تطور المدارس الفنية الخاصة في الفترة من 2018 وحتى السنة الحالية وفق الإحصاء الصادر عن وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني 2021.
شكل (1): تطور أعداد المدارس الثانوية الفنية الخاصة في الفترة من 2018-2021

محاولات غير مكتملة
تعد تجربة مدارس مبارك كول الثانوية الفنية المتقدمة عام ١٩٩١، أولى محاولات تطوير التعليم الفني من خلال نقل التجربة الألمانية في التعليم الفني، والتي تعتمد على شراكة المصانع الخاصة مع وزارة التعليم لتوفير الميادين التدريبية اللازمة لطلاب التعليم الفني، بهدف توفير الأيدي العاملة والماهرة المدربة وربط مهارات التعليم باحتياجات سوق العمل .ويعتمد نظام الدراسة في هذه المدارس على تعلم المواد الفنية والثقافية بالصفوف الدراسية بالاضافة إلى التدريب العملي داخل مواقع الإنتاج التابعة للقطاع الخاص، ويتسلم خريج هذه المدارس شهادة خبرة من جهة التدريب يتم اعتمادها من جمعية المستثمرين والغرفة التجارية الألمانية العربية بالقاهرة.
وصلت تجربة مبارك كول إلى ذروة نجاحها بحلول عام 2010، حين تم إكتمال بناء منصة البرنامج، ودعم بناء القدرات، علاوة على إضفاء الطابع المؤسسي على هذه المدارس، حيث غطت 22 محافظة بحلول 2009 بإجمالي عدد 76 مدرسة، ووفرت 1900 شركة برامج تدريبية للطلاب في ميادينها، ,تخرج منها نحو 24 ألف طالب منهم 13% إناث ، إلا أن هذه المدارس عانت في السنوات التالية من إهمال صيانة البنية التحتية، بالإضافة إلى ضعف الخبرات المهنية للمعلمين، وخلل بعض التشريعات.
شكل (2): أعداد مدارس مبارك كول في محافظات مصر 2021

مجمعات التعليم التكنولوجي
في 2009 أطلق صندوق تطوير التعليم التابع لرئاسة مجلس الوزراء نموذجا جديدا للتعليم الفني يسمى مجمع التعليم التكنولوجي المتكامل (“ITEC”(Integrated Technical Education Cluster، ويضم ثلاث مستويات من المؤهلات الفنية تبدأ بشهادة الدبلوم في التكنولوجيا (المدرسة الثانوية الفنية TSS) لمدة ثلاث سنوات، ثم شهادة الدبلوم العالي (المعهد الفني TI) لمدة سنتين إضافيتين، ثم درجة البكالوريوس في التكنولوجيا (المعهد الفني المتقدم – ATI) لمدة سنتين آخرين. وتتوافق هذه المجمعات وأطر المؤهلات الدولية، فهي قائمة على شراكة مع دول المانيا وإيطاليا، وكوريا الجنوبية، وضمن اتفاقيات تبادل الديون.
لم تحقق هذه المجمعات أهدافها، بسبب غياب التشريعات الداعمة، ونقص التنسيق بين الجهات المعنية، وذلك وفق تصريحات صدرت في عام 2019 عن الأمين العام لصندوق تطوير التعليم برئاسة مجلس الوزراء. وكمحاولة لتجاوز المشكلات، وبداء من عام 2019، تطوير نظم التعليم في هذه المجمعات، عبر تطبيق مناهج الجدارات، والتي ترمي إلى تنمية المهارات الفنية بهدف ربط الخريج بسوق العمل، من خلال تتبع نمو مهاراته المكتسبة أثناء سنوات الدراسة بالاعتماد على ما يسمى بملف إنجاز الطالب، والذي يحوي كافة الأنشطة العملية التي قام بها خلال سنوات التحاقه بالتعليم الثانوى الفنى، بالاضافة الى نتائج الاختبارات في نهاية كل عام دراسي.
تعادل شهادات المجمعات التكنولوجية المتكاملة ما يقابلها من شهادات الدبلوم الوطني في المملكة المتحدة، وتؤهل حاملها للعمل كفني، أو كتكنولوجي، أو كبير تكنولوجيين، حسب نوع الشهادة، كذلك تمكنه من إكمال الدراسات العليا والحصول على الماجستير والدكتوراه في التكنولوجيا بعد انهاء المستوى الثالث، وقد تم استصدار أول شهادة فنية بنظام الجدارات بالتعاون مع اتحاد الصناعات في يوليو 2021.
من جهة أخرى تم إنشاء الشبكة القومية للمجمعات التكنولوجية المتكاملة في أربع مناطق صناعية هي: الأميرية، والفيوم، وأسيوط، وأبو غالب، وتضم هذه الشبكة نحو 3 آلاف طالب حتى العام الدراسي الحالي 2020-2021، ويسعى صندوق تطوير التعليم إلى التوسع في انشاء المجمعات الفنية التكنولوجية المتكاملة من خلال دراسة تحويل مقر الصندوق في محافظة الإسكندرية إلى مجمع تكنولوجي يخدم صناعة الغزل والنسيج. وقد وافق مجلس إدارة الصندوق في مارس الماضي على إنشاء المركز القومي لتطوير التعليم الفني والتكنولوجي؛ بهدف تدريب أعضاء هيئة التدريس وهيئاته المعاونة داخل مؤسسات التعليم الفني قبل الجامعي والجامعي، وتأهيل المتخصصين في أعمال الامتحانات المهنية التأهيلية، وإعداد مناهج الجدارات في التخصصات التكنولوجية الجديدة، وربما ستساهم الجامعات التكنولوجية الجديدة كمسار رسمي في تغيير مستقبل هذا النوع من المدارس الفنية إلى الأفضل.
المدارس التكنولوجية التطبيقية
أنشأت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني في عام 2018 المدارس التكنولوجية التطبيقية كنماذج للتعليم الفنى المطور بالتعاون مع القطاع الخاص، حيث يمثل الشريك الصناعي اللبنة المحورية في التطوير، ويساهم اتحاد الصناعات والمؤسسات الوطنية المصرية في تيسير اختيار الشريك المناسب، من خلال تدشين إدارة مختصة لمتابعة الشراكات، وقد وصل عدد المدارس التكنولوجية التطبيقية إلى 21 مدرسة حتى العام الحالي، ومن المُستهدف أن تصل إلى 100 مدرسة بحول 2030 .
تقدم هذه المدارس تخصصات فريدة تتسم بالنوعية الدقيقة، والحداثة، فلأول مرة يتم استحداث مدرسة فنية لصناعة الحلى والمجوهرات، وأخرى لدراسة الميكاترونيك، وغيرها. يعتمد التعليم بهذه المدارس على نظام الجدارات، والذي يتكون من شقين متساويين بواقع 50% لصالح المناهج التقنية، وتضم المعارف والمهارات والاتجاهات اللازمة لتعلم حرفة أو مهنة محددة؛ و50% للشق الثاني ويضم المناهج العلمية العامة مثل الكيمياء والفيزياء واللغات والرياضيات، بالإضافة إلى المهارات الحياتية كالتواصل والعرض والقيادة وحل المشكلات وإدارة الأزمات وغيرها. ويتم تصميم مناهج الجدارات وتطويرهاً وفق الاحتياجات المهارية لسوق العمل المحلي والدولي، وتعتمد أنظمة الجدارات على تطبيق التقييم التراكمي أو البنائي للطالب من خلال محصلة الانشطة النهائية في العام الدراسي، بالإضافة إلى الإختبارات التحريرية.
شكل (3): أعداد المدارس التطبيقية التكنولوجية في محافظات مصر

تطوير جودة التعليم الفني
كان الدستور المصري مقسطاً عندما أفرد مادة كاملة للتعليم الفني نصت على: “تلتزم الدولة بتشجيع التعليم الفنى والتقنى والتدريب المهنى وتطويره، والتوسع فى أنواعه كافة، وفقا لمعايير الجودة العالمية، وبما يتناسب مع احتياجات سوق العمل”، وجاء مشروع قانون إنشاء الهيئة المصرية لضمان الجودة والإعتماد فى التعليم والتدريب الفنى والتكنولوجي ليترجم تفعيل هذه المادة على أرض الواقع. تضطلع هذه الهيئة بمتابعة وتحسين جودة التعليم الفني وما يقدمه من برامج تعليمية. حيث ستتولى وضع معايير محددة لمقدمي خدمات التعليم والتدريب التكنولوجي والفني والمهني، بما يتفق ومنهجية الجدارات، وتتلائم والمواصفات الدولية وبما يضمن الإعتراف الدولي بنظام الإعتماد المصري. كذلك ستتولى الهيئة متابعة التطور المهني للمعلمين بالمدارس الفنية والمهنية والتكنولوجية.
ما بعد الثانوية الفنية
في إطار سعي مجلس التعليم التكنولوجي وصندوق تطوير التعليم التابع لرئاسة مجلس الوزراء لتطوير التعليم التكنولوجي وتشجيع الطلاب على الالتحاق به، تم انشاء ثلاث جامعات تكنولوجية هي: جامعة القاهرة الجديدة التكنولوجية، وجامعة الدلتا التكنولوجية، وجامعة بني سويف التكنولوجية، وتستهدف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي انشاء ثلاث جامعات تكنولوجية جديدة خلال الفترة القادمة، بالاضافة للكليات التكنولوجية القائمة والتي تضم عدد من المعاهد فوق المتوسط التي تمنح مؤهل فوق متوسط بمسمى تكنولوجي، ويبلغ عددها ثمان كليات بواقع 45 معهد موزعة على عدد من المحافظات كما هو موضح بالشكل (4)، ويوضح الشكل (5) أعداد المعاهد الفنية في تخصصات مختلفة.
شكل (4): أعداد الكليات التكنولوجية (المعاهد الفوق المتوسطة) في محافظات مصر

شكل (5): أعداد المعاهد الفنية المختلفة

ختاماً: فإن هناك جهود مبتكرة وغير تقليدية لإصلاح منظومة التعليم الفني، بما في ذلك انشاء أقسام علمية متخصصة وفريدة من نوعها بالكليات والمعاهد بما يتناسب ومخرجات المدارس التطبيقية، وخاصة التوجهات الحديثة نحو ريادة الأعمال، والاقتصاد الأخضر، والتحول الرقمي؛ استحداث رخصة لمزاولة المهن الفنية والتكنولوجية متدرجة بمستويات تعكس سنوات الدراسة والخبرة العملية، مما سيساهم في خفض نسب التسرب، وزيادة نسب التعليم الفني المتوسط والعالي، وإعادة توزيع المدارس الفنية على خريطة مصر الصناعية والتجارية، بما يدعم ظهور مدن صناعية متخصصة كمدينة الأثاث بدمياط، ويعزز مسارات التقدم الصناعي في مصر.