أعلنت وزارة التربية والتعليم اعتماد نظام “البكالوريا المصرية” بدءًا من العام الدراسي القادم كبديل للثانوية العامة التقليدية، في خطوة تعكس طموحًا واضحًا لإعادة هيكلة التعليم الثانوي، وبينما يبدو هذا القرار كعلامة فارقة في التعليم المصري، فإن التوقيت، والتنفيذ، والمضمون يطرحون تساؤلات جوهرية حول جاهزية النظام التعليمي والمجتمع للتفاعل مع نموذج يقوم -من حيث الفلسفة- على نقيض ما اعتاد عليه لسنوات طويلة.
يستلهم النظام الجديد -بحسب ما أُعلن- روح البكالوريا الدولية والفرنسية، ويعد بتحقيق طفرة في جودة التعليم عبر التركيز على التعلم متعدد التخصصات وتطوير التفكير النقدي. لكن المسألة لا تقف عند استلهام الأطر الشكلية أو إعادة ترتيب المواد، بل تتعداها إلى مدى قدرة النظام التعليمي الحالي – بقوانينه، وبناه التحتية، وثقافته المجتمعية– على احتضان هذا النموذج الجديد، وهنا تحديدًا يبرز جوهر التحدي.
البكالوريا المصرية والنماذج الدولية: توافقات شكلية أم اختلافات جوهرية؟
في مشهدٍ تعليمي مأزوم تطل “البكالوريا المصرية” كحل طموح، تسعى وزارة التربية والتعليم عبره لتجاوز إرث الثانوية العامة المثقل بالحفظ والتلقين. وفي سياق الترويج للنظام المقترح، تجري “المقارنة” مع البكالوريا الدولية والفرنسية، لتعزيز أفضلية النظام الوليد عبر الإشارة إلى الميزات المعروفة عن نماذج تعليمية أثبتت جدارتها عالميًا. لكن السؤال الجوهري يظل ما إذا كان محاكاة واعية لنظام ناجح، أم بصدد استعارة عناصر شكلية محدودة الصلة بالمضمون؟
نظام البكالوريا الدولية (IB) لم يُبنَ في يوم أو بقرار وزاري ، بل هو ثمرة عقود من التطوير التربوي العابر للثقافات، يرتكز على تقييم مستمر، ومشاريع بحثية ممتدة، وتنمية مهارات التفكير النقدي والمواطنة العالمية. بالمثل، تحمل البكالوريا الفرنسية (BAC) تراثًا أكاديميًا صارمًا يتكامل مع خصوصية الثقافة الفرنسية، ويغرس في الطالب روح التحليل والاستقصاء منذ المراحل المبكرة.
في المقابل، وعلى الرغم من الطموحات الكبيرة المعلقة بمشروع “البكالوريا المصرية”، فإن الفجوة بين النظامين الفرنسي والدولي من ناحية، والنظام المقترح لدينا لا تزال كبيرة، بحيث يبدو المشروع المقترح على أنه تطوير محدود للثانوية العامة، وليس تحويلًا كاملًا لها كما يوحي بذلك اسم النظام المقترح، الذي يقوم على خلق مسارات أكاديمية متعددة، تُدرس بالأساليب المتبعة نفسها في تدريس مقررات الثانوية العامة الحالية، مع الغياب الشبه التام للأنشطة الفنية، وإلغاء التربية الوطنية، وكلها مؤشرات على انفصال هذا النظام عن روح “البكالوريا” التي تحتفي بالتعدد الثقافي وتنمية الشخصية المتكاملة.
في السياق، يبرهن معيار الاعتراف الدولي على وجود تحدٍ أكثر عمقًا، ففي وقت تمنح فيه شهادة الـ IB بطاقة عبور لمعظم جامعات العالم بفضل اعتمادها على معايير واضحة وشبكة تعليمية عابرة للحدود، فإنه يصعب حصول “البكالوريا المصرية” على الاعتراف الدولي دون إطار تقييم عالمي، أو دون إشراف دولي، أو حتى دون وجود مدارس تجريبية تتولى اختبار فاعلية النموذج وفق معايير دولية.
تكشف المقارنة بين النماذج الثلاثة عن فوارق جوهرية في الهيكلة التعليمية في مقدمتها: حرية اختيار المواد؛ حيث توفر البكالوريا الدولية حرية اختيار المواد في ست مجموعات رئيسية مع مستويات متدرجة من العمق، بينما تظل البكالوريا المصرية أقرب إلى شكل معدّل من الثانوية العامة الحالية دون تغيير حقيقي في آليات التعلّم. في الوقت نفسه فإن توزيع المواد يعكس هيمنة المواد التقليدية على حساب الفنون واللغات والثقافات العالمية؛ مما يضعف فرصة تخريج طلاب قادرين على التفكير النقدي أو التفاعل مع القضايا الدولية.
علاوة على أن البكالوريا المصرية في صورتها المقترحة تعاني من محدودية شديدة في رؤيتها للمواطنة العالمية. فبينما يشكل التنوع الثقافي أساسًا في برامج البكالوريا الدولية، تنغلق النسخة المصرية على خطاب أحادي عن الهوية والتاريخ الوطني فقط، دون أن تدمج ذلك في مشروع تربوي يعزز من تقبل الآخر والتفاعل مع التحديات العابرة للحدود مثل المناخ، والهجرة، والذكاء الاصطناعي، والصراعات العالمية، وغيرها من القضايا العالمية.
بين الطموح والإمكانات
التحديات أمام هذا المشروع لا تقتصر على البنية التحتية أو الموارد المالية، بل تمتد إلى ما هو أعمق، فالوعي الجمعي بالتعليم نفسه يثير العديد من التساؤلات حو استعداد المعلمين للعمل كمُيسّرين للتعلم لا حراسًا للمنهج، ومدى امتلاك نظام التعليم أدوات تقييم مرنة تُمكّن الطالب من التعبير عن ذاته معرفيًا، وكيف يمكن أن نضمن عدالة التطبيق بين مدارس المدن ومدارس الريف، في وقت لا تزال فيه الفجوة الرقمية قائمة؟.
ورغم هذه التساؤلات المشروعة، فلا يمكن إنكار أن المشروع يحمل وعودًا إيجابية تتمثل في فتح آفاق جديدة أمام المتعلمين، وإعداد جيل قادر على المنافسة في سوق العمل العالمي، والاقتراب أكثر من بناء منظومة تعليمية تشجع الابتكار والتعددية والتفكير المنهجي. غير أن هذه الوعود ستظل احتمالًا نظريًا إن لم تُترجم إلى إجراءات تنفيذية حقيقية تتدرج في التطبيق، وتمنح الوقت الكافي للتقييم والمراجعة والتصويب.
أما التحديات فيمكن إجمالها على النحو التالي: تشريعيًا، لا يزال النظام عالقًا في عنق زجاجة قوانين سبق ورفض مجلسا الشيوخ والنواب تعديلها؛ مما يهدد فعليًا آلية التقييم الجديدة برمتها. اجتماعيًا، لا يمكن التغافل عن الرهبة المجتمعية من التغيير خاصة في منظومة تربط “المجموع” بالمستقبل المهني للطالب؛ مما يجعل أي تحوّل تعليمي عبئًا نفسيًا لا خطوة تطوير. اقتصاديًا، يتطلب التنفيذ استثمارات ضخمة في البنية التحتية وتدريب المعلمين، في وقت تعاني فيه المدارس من فوارق صارخة في الموارد. إداريًا، تزداد الصورة تعقيدًا في ظل بيروقراطية وزارة التعليم وهيكلها المعقّد الذي يعاني من ازدواجية الاختصاصات، وضعف التنسيق بين الجهات التنفيذية والتعليمية.
إن البكالوريا المصرية، إذا أُديرت بحكمة، قد تصبح ليس فقط إصلاحًا تعليميًا، بل مشروعًا وطنيًا لإعادة بناء الإنسان. لكنها إن أُسيء تقدير معطيات الواقع أو تم التعامل معها بوصفها مشروعًا تقنيًا منفصلًا عن السياق الاجتماعي والثقافي، فإنها قد تتحول إلى عبء جديد يُضاف إلى سلسلة من المحاولات الإصلاحية غير المكتملة.