تدخل الأزمة الليبية منعطفًا جديدًا بالغ التأثير مع منح مجلس النواب الليبي الثقة لحكومة “الاستقرار” برئاسة “فتحي باشاغا”، وهو التطور الذي يُدشن للمرحلة الانتقالية السادسة منذ اندلاع الأزمة الليبية في فبراير 2011، لتُعيد كافة الأطراف ضبط بوصلتها وفقًا لخارطة الطريق البرلمانية التي يُقدر أن تقود ليبيا نحو إقرار انتخابات عامة مُقترنة بدستور دائم أو قاعدة دستورية مؤقتة، وهو ما ستفرزه تفاعلات القوى الليبية خلال الـ(14) شهرًا المُقبلة.
اعتماد حكومة “الاستقرار”
صوت مجلس النواب الليبي على منح “باشاغا” الثقة بإجماع الحاضرين لجلسته، اليوم الخميس الموافق 10 فبراير 2022، وهي الجلسة ذاتها التي اعتمد فيها المجلس التعديل الدستوري الـ(12)، لتضمين التوافقات المتحققة بين لجنة “خارطة الطريق البرلمانية” ولجنة “مجلس الدولة” في صيغة دستورية رسمية، والتي ستقود -حال تطبيقها- إلى إنهاء الانتقال الليبي المتواصل والآخذ في التعثر بفترة تُقارب العام.
ويُنظر إلى اعتماد الحكومة الجديدة وفقًا لعدة اعتبارات؛ أولها: إعادة إنتاج القائمة الخاسرة في جنيف قبل عام للانتخابات المُصغرة التي جرت بمنتدى الحوار السياسي، حيث أصبح “باشاغا” رئيسًا للحكومة الليبية، بعد أن انتزعت قائمة “المنفي-الدبيبة” رئاسة السلطة الموحدة من قائمة “عقيلة-باشاغا”. وثانيها: يرى أن المشهد الراهن هو نتاج حتمي لسياسات الدبيبة خلال الفترة الماضية، والتي تصاعدت في سياقها اتهامات الرشوة والفساد لحصد النفوذ، وقادت لإفشال مشروع الانتخابات العامة بالأشهر الماضية.
وبينما يسعى الدبيبة إلى عرقلة خطى استبداله، تارةً بحشد المؤيدين لاستمراره بساحات العاصمة واستخدام خطابات شعبوية ضد مجلسي النواب والدولة، وأخرى بنسج شبكة من التحالفات الهجينة بين أعضاء المجلسين وقادة المجموعات المسلحة؛ للتلويح بأن تسمية الحكومة الجديدة ستعيد شبح الانقسام المؤسسي والميداني، لتغذية مخاوف الليبيين من إعادة إنتاج حقبة “السراج-الثني”. ولكن تلك المحاولات وجدت صدى مؤثرًا؛ إذ خرجت التظاهرات المؤيدة للدبيبة عاكسةً ضعف قاعدته الشعبية، وانصرفت عنه القوى النيابية بالمجلسين مع تصاعد مؤشرات حسم “باشاغا” للسباق.
وقد عززت عدة معطيات من فُرص “باشاغا” في حسم رئاسة الحكومة، إذ انسحب المرشح الوحيد ضده “خالد البيباص” من السباق قبل بدء عملية التصويت بمجلس النواب عليهما، كما حظي رئيس الوزراء الجديد بتزكية المجلس الأعلى الاستشاري للدولة، ليصبح الطريق ممهدًا لدى النواب للتصويت عليه بالإجماع وتسميته كرئيس لحكومة “الاستقرار”.
مواقف مُتقاطعة
في مُحصلة المرحلة السابقة، والتي بدأت مع بحث مجلس النواب عن خارطة طريق أو اتفاق ليبي للتسوية، يمكن الإشارة إلى مواقف الأطراف المنخرطة بالمشهد الليبي، على رأسها:
١. مجلس النواب: يقود مجلس النواب الليبي عملية صياغة الاتفاق أو خارطة الطريق بعد فشل استحقاق 24 ديسمبر الماضي، وهو يسعى لتعزيز موقعه بالمشهد السياسي عبر إخراج حكومة الوحدة من المشهد بعد أن ثبت لديه تعنتها ضده، إلى جانب مُعالجة خلافه مع مجلس الدولة الذي عرقل المسار الانتخابي في مُجمله. وقد أبدى النواب مرونة في تعاطيه مع الدولة في ملف الحكومة الجديدة، وظهر ذلك في تراجعه عن حصر تقديم التزكيات على نوابه وإتاحته لأعضاء الدولة، بالإضافة لتضمين مجلس الدولة كطرف شريك يجب التوافق معه حول التشريعات والقاعدة الدستورية المنظمة للانتخابات المُقبلة، وفقًا لما تم اعتماده بالتعديل الدستوري الـ (12).
٢. مجلس الدولة: يبدو أن مجلس الدولة كان مترددًا حول الانخراط في تغيير حكومة الوحدة الوطنية، حيث حاول تأجيل عملية اعتماد رئيس الحكومة للأسبوع القادم، وهو ما يتصل برغبته في تلافي الصدام مع حكومة الدبيبة والقوى المتحالفة معها بطرابلس، ولكن إدراجه كطرف شريك بالتوافق في المرحلة المُقبلة دستوريًا، فضلًا عن علاقات ونفوذ “باشاغا” في المنطقة الغربية، قد حفز اتجاه المجلس لتقديم تزكيته للحكومة الجديدة، رغم نفي المتحدث باسم المجلس التوافق على هكذا خطوة مع مجلس النواب قبلها بساعات قليلة.
٣. الجيش الوطني: سارع الجيش الوطني الليبي لإعلان دعمه لتسمية حكومة جديدة لقيادة البلاد خلال المرحلة المُقبلة، وهذا يتصل بالتفاهمات التي تحققت بين “باشاغا” و”حفتر” خلال خوضهما السباق الرئاسي، والعلاقة المأزومة بين الجيش الوطني وحكومة الوحدة في مختلف الأصعدة؛ حيث تأخير رواتب قوات القيادة العامة، وما استشعرت الرجمة انحياز الدبيبة للمكونات العسكرية بالمنطقة الغربية، ومؤخرًا التراشق الإعلامي بعد أن نسب الدبيبة عملية تطهير مدينة القطرون من الخلايا الإرهابية لوزارة الداخلية بحكومته، وخروج ممثلي القوات المسلحة العربية الليبية لنفي ذلك وإعلان تبعية تلك الجهود لوحداتهم بالجنوب الليبي.
٤. البعثة الأممية: تستشعر بعثة الأمم المتحدة في ليبيا أن المسار الراهن يمثل خطرًا على ما تم إنجازه من جهود للتسوية، فهو يشكل خارطة موازية بديلة لمسار جنيف التي تيسر أنشطتها البعثة، ويضع كامل أوراق اللعبة في أيدي المؤسسات الليبية التي طالما فشلت في التوافق على مخرج من الأزمة. وهذا الموقف الأممي تعزز بتراجع مستشارة الأمين العام “ستيفاني وليامز” عن تبنيها لامتلاك الليبيين صلاحية تحديد موعد الانتخابات، لتعلن لاحقًا أن الانتخابات قد تجري في يونيو 2022 وفقًا لتوقيتات خارطة جنيف، فضلًا عن تصريحات مسئولين بالأمم المتحدة من تحذيراتهم من خطورة المسار الليبي الجديد على جهود التسوية.
المشهد التالي
من المُرجح أن تتصاعد وتتلاحق تطورات المشهد الليبي خلال الفترة المُقبلة، وهو ما ستكون له ارتدادات وتأثيرات على عملية اختيار الحكومة الجديدة، ومن أبرز تلك التطورات:
- المشهد الجماهيري: يُتوقع تزايد الاحتقان بالشارع الليبي إذا لم تُعالج الحكومة الأزمات الضاغطة على المواطنين، أو إذا تعرقلت عملية التسليم والتسلم بين حكومتي الوحدة والاستقرار، أو إذا وظفت القوى العسكرية المتغيرات الجديدة للتحرك ميدانيًا والتقاتل على حصد النفوذ والتأثير. ولكن بسبب المشهد العام، قد لا يكون لتغيير حكومة الدبيبة تداعيات متصلة بالحشد والتظاهر؛ نظرًا لتراجع أرضيته، وأن استمراره سيضيف جسمًا جديدًا يعطل أية فرص للتسوية.
- المشهد السياسي: يبدو أن المشهد السياسي الليبي سيشهد حراكًا متباينًا بين مُؤيد ومُعارض للدخول في مرحلة انتقالية جديدة، لا سيما وكونها تهدد بإعادة إنتاج انقسام السلطة بين الأقاليم والمدن الليبية، وفي ظل تصاعد المؤشرات على قدر حكومة الاستقرار على تنظيم أوراقها، واحتمالات الضعف الهيكلي لحكومة الوحدة، ستُستكمل عملية انتقال وتسليم السلطة إلى “باشاغا”، وستشرع في أداء مهامه كرئيس للحكومة الجديدة للدولة الليبية.
- المشهد الأمني والعسكري: يُحتمل تحرك بعض المجموعات المسلحة لإثارة التوتر الميداني، خاصةً بالعاصمة طرابلس، وسيتمحور حول انتزاع ضمانات تتعلق بمستقبلها في المرحلة المُقبلة بشكل عام، وتأمين نفوذ المجموعات الطرابلسية من تغول نظيرتها الراغبة في حصد نفوذ أكبر بالعاصمة من مجموعات المدن الأخرى. ويُعتقد أن “باشاغا” لديه القدرة على تجاوز تلك الإشكالية، سواء لاتصالاته السابقة بالمجموعات المسلحة بالعاصمة، أو الدعم الذي سيناله من مدينة “مصراته”.
- المشهد الإقليمي والدولي: يُرجح ألا تسارع القوى الخارجية إلى إظهار مواقف من التغيير الحكومي في الساعات الأولى كما اعتادت فيما يتعلق بتطورات المشهد الليبي، ولكن البعثة الأممية ستكون حريصةً على إظهار تمسكها بخارطة جنيف، وهو ما قد يُعمق من الصدام المتنامي بين الأطراف الليبية المُشكلة للخارطة البرلمانية، النواب والدولة وحكومة الاستقرار، وبين البعثة الأممية. ولكن فيما بعد، ستتماهى تلك المواقف المتراوحة بين التأييد والتحفظ والرفض، لتدعم من يفرض نفوذه على المشهد تلافيًا لسيناريو انقسام السلطة أو فقدان التأثير بالمشهد الليبي المُقبل.
وخُلاصة القول، يُمثل اعتماد حكومة “الاستقرار” برئاسة “فتحي باشاغا” تدشينًا للمرحلة الانتقالية السادسة في ليبيا وهي أخطر جولات الأزمة، فإما تقود ليبيا إلى المربع صفر مرة أخرى، وهو ما يعني اشتعال مواجهة ميدانية ضارية في ظل متغيرات نوعية خطيرة كالمرتزقة، أو تفضي إلى انتخابات تؤسس لما بعد حقبة مجلسي النواب والدولة، والتي ستتضح ملامحها في ضوء المخرجات والسياقات التي ستُصاغ فيها القاعدة الدستورية والقوانين الانتخابية المُنتظرة.