صفوف انتظار طويلة من المركبات، ومحطات وقود خالية من البنزين. مشاهد تبدو متكررة في العديد من الدول الإفريقية التي تعاني نقص الوقود، ولكن المفارقة هي أن تكون هذه الدولة هي “نيجيريا” أكبر منتج للنفط في إفريقيا، وسادس أكبر مصدّر له عالميًا، كما تحتل المرتبة العاشرة بين قائمة أكبر الدول التي لديها احتياطي نفطي مؤكد في العالم. حيث شهدت ولايات لاغوس وأوغون وأويو وبعض أجزاء من أبوجا منذ مطلع شهر فبراير ظهور طوابير في محطات الوقود، وأغلقت غالبية المحطات في أبوجا أبوابها لأيام، بعد أن ساءت إمدادات الوقود بسبب قلة المخزون، مما تسبب في ارتفاع مفاجئ لسعر لتر البنزين من 165 نليرا إلى ما يزيد على 300 نايرا، وازدهرت السوق السوداء للوقود، في الوقت الذي ظهرت فيه احتجاجات للتنديد بالوضع من تحالف المنتدى الشمالي، الذي يمثّل 25 منظمة مدنية، وأصحاب المركبات الذين تلفت محركات سياراتهم بسبب البنزين المغشوش، وقد تصاعدت الاحتجاجات واتخذت مسارًا أبعد بدخول الأزمة أسبوعها الثالث، إذ وصلت إلى حد المطالبة بإقالة عدد من المسئولين الحكوميين على خلفية الأزمة، مع التهديد بالتصعيد حال عدم التنفيذ.
ولم تكن هذه الأزمة هي الأولى، حيث بات نقص الوقود أمرًا مألوفًا في نيجيريا في السنوات الأخيرة، فعلى الرغم من كونها المنتج الرئيسي للنفط الخام في إفريقيا، وعضوًا في منظمة أوبك؛ إلا أن نيجيريا تستورد تقريبًا كل البنزين الذي تستهلكه محليًا، وبالتالي فإن أي نقص في الإمدادات ينعكس بدوره على الاقتصاد الذي يعتمد على عوائد النفط في توفير ما يقرب من 90% من النقد الأجنبي للبلاد، ويؤدي إلى إعاقة التجارة والنمو الاقتصادي.
في غضون ذلك، أرجعت حكومة نيجيريا الأزمة الحالية في ندرة الوقود إلى قيام بعض الشركات باستيراد شحنات تصل إلى 170 مليون لتر من الوقود المغشوش الذي يحتوي على نسبة عالية من الميثانول، مما استدعى ضرورة قيام السلطات المختصة بإيقاف توزيع المنتج لإجراء التحقيق المناسب، بالإضافة إلى سحب كميات النفط المغشوش من مخازن محطات الوقود، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى نقص الإمدادات، ومع تفاقم أزمة الوقود المغشوش، واصل اللاعبون الرئيسيون في الأزمة تبادل الاتهامات وإبعاد أنفسهم عن تهمة استيراد البنزين الملوث، ولكن في حقيقة الأمر فإن أزمة الوقود في نيجيريا لها جذور أعمق وأبعاد أكثر من قضية النفط المغشوش، أبرزها:
- تراجع المخزون وتعطل مصافي التكرير الوطنية:
على الرغم من مقدراتها النفطية العالية، تستورد نيجيريا ما بين مليون و1.25 مليون طن متري شهريًا من النفط المكرر لتلبية احتياجاتها الوطنية، التي تقدر بنحو 53 مليون لتر/ يوم، وعادة ما تحتفظ بمخزون من البنزين يكفي لمدة 40 يومًا وحوالي 2 مليار متر، ولكن في خضم الأزمة الحالية أعلنت هيئة تنظيم قطاع البترول النيجيرية انخفاض المخزون إلى ما يكفي 20 يومًا فقط، وهو ما يشكل أزمة حقيقية لدولة تعتمد على الواردات بشكل شبه كامل لتلبية احتياجاتها من البنزين.
ويرجع ذلك إلى عدم قدرة نيجيريا على تكرير الكميات المطلوبة من النفط لسد الاحتياجات المحلية، فلا يوجد في نيجيريا سوى 5 مصافي تكرير (قانونية) فقط، 4 منها مملوكة للدولة وواحدة تابعة لشركة دلتا النيجر للموارد النفطية، وبسبب تقادم المعدات وسوء الصيانة فإن المصافي في حالة توقّف جزئي، كما أن المصاريف التشغيلية الشهرية للمصافي تجاوزت دخلها، وتسببت في خسارة 104.3 مليارات نايرا (253.5 مليون دولار أمريكي) في عام 2021، فيما وصلت إنتاجية المصافي الثلاث (شركة هاركورت للتكرير، وشركة كادونا للتكرير والبتروكيماويات، وشركة واري للتكرير والبتروكيماويات) مجتمعة خلال شهر فبراير 2021 إلى ما يقدر بـ 0% بسبب عمليات إعادة تأهيل المصافي الجارية، التي من المنتظر أن تستغرق المزيد من الوقت.
وفي ظل توقف مصافي التكرير الوطنية وتراجع قدراتها، تواصل نيجيريا تصدير نفطها الخام غير المكرر، ثم تعيد شراءه من الخارج مرة أخرى بعد تكريره بأسعار مرتفعة، مع الأخذ في الاعتبار جميع التكاليف المصاحبة للإنتاج والشحن، حيث تنفق الحكومة النيجيرية نحو 40% من أرباحها الدولارية على استيراد منتجات النفط المكرر، وهو ما يمثّل ضغطًا على إيرادات الدولة، ويجعل اقتصادها عرضة بشكل كبير لتقلب أسعار النفط عالميا.
بالإضافة لذلك، تفتقر نيجيريا حاليًا، إلى الموارد اللازمة لبناء مصفاة نفط جديدة، مع غياب الاستثمارات الأجنبية، حيث تصل التكلفة التقديرية لبناء مصفاة واحدة جديدة إلى حوالي 12 مليار دولار أمريكي، وتعول الحكومة النيجيرية على مصفاة “دانغوتي” التي يجري إنشاؤها حاليًا في لاغوس، في تغيير قواعد اللعبة، والتحرر من استيراد منتجات النفط المكرر، فمن المنتظر أن تصل القدرة الإنتاجية لأكبر مصفاة نفط إفريقية، والتي يمتلكها أغنى رجل في إفريقيا “أليكو دانغوتي” وتستحوذ الحكومة النيجيرية على 20% منها، إلى 650 ألف برميل يوميًا، ومن المنتظر أن يتم بدء العمل في المصفاة أوائل عام 2023.
على صعيد آخر، يتجه عدد من سكان المناطق الغنية بالنفط إلى إنشاء مصافٍ غير قانونية لتكرير البترول وبيعه لحسابهم الشخصي، حيث ارتفع عدد العاملين في صناعة التكرير عبر المصافي غير القانونية في منطقة دلتا النيجر إلى قرابة 500 ألف شخص، وتحاول الحكومة النيجيرية جاهدة السيطرة على الأوضاع وضبط عمليات التكرير غير القانونية التي تنتشر على نطاق واسع، حيث عطلت البحرية النيجيرية خلال عامي 2020 و2021 ما يقدر بـ577 مصفاة غير قانونية عبر منطقة دلتا النيجر.
- سرقة وتهريب النفط:
تعاني نيجيريا منذ عقود من عمليات سرقة النفط المكرر؛ حيث تخسر الحكومة النيجيرية منذ الثمانينيات عشرات الملايين من الدولارات سنويًا، وتفاقمت الأزمة مع الوقت حتى وصلت خسائر نيجيريا من سرقة النفط خلال الفترة من 2010 حتى 2019 إلى ما يزيد على 40 مليار دولار، بينما سجلت هذه الخسائر أعلى معدل لها في عام 2021 بنحو 4.7 مليارات دولار، حيث فقدت ما يصل إلى 200 ألف برميل من النفط الخام يوميًا والتي تقدر قيمتها بحوالي 13 مليون دولار بسبب أعمال السرقة والتخريب، وهو ما يعادل 10% من احتياطي النقد الأجنبي في نيجيريا. وتشير التقارير إلى احتمال وصول الخسائر إلى نحو 6 مليارات دولار خلال عام 2022.
في سياق متصل، ساهم عدد من العوامل في تفاقم مشكلة سرقة النفط في نيجيريا خلال العقود الماضية، منها: تقادم البنية التحتية، وارتفاع معدل البطالة، بالإضافة إلى تواطؤ بعض أفراد الأجهزة الأمنية مع عصابات السرقة، وانعدام الأمن في بعض الممرات المائية للبلاد، وهي العوامل التي دفعت شركات عالمية مثل “شل” و”إكسون موبيل” و”شيفرون” و”توتال إنرجي” إلى سحب استثماراتها في العديد من الأصول البرية في نيجيريا لاستمرار سرقة النفط، واتّجاههم إلى الاستثمار في أسواق أكثر موثوقية.
علاوة على ذلك، وبينما نتحدث عن أزمة نقص وقود في أكبر مدن نيجيريا، لا تزال الحكومة النيجيرية عاجزة عن وقف عمليات تهريب البنزين عبر حدودها، بالرغم من استثمارها ما يزيد على 20 مليار نايرا في تقنيات القضاء على التهريب، وبذلها الكثير من الجهد في هذا السياق، ومحاولة ضبط الحدود من خلال تسيير دوريات جوية تراقب المناطق الحدودية من أجل منع عمليات التهريب إلى الدول المجاورة.
ولكن كل هذه الجهود تواجه صعوبة في إيقاف أنشطة مهربي البنزين في ظل تفاوت سعره بين نيجيريا والدول المجاورة لها بما يزيد على 100 نايرا للتر الواحد، بسبب الدعم المقدم من الحكومة النيجيرية للوقود، حيث تقدر شركة البترول الوطنية النيجيرية أن 42 مليونًا من 102 مليون لتر (41.18٪) من البنزين المدعوم للاستهلاك اليومي للنيجيريين يتم تهريبها إلى خارج البلاد. ومع ذلك، لم تنجح حكومة بخاري في رفع دعم الوقود رغم محاولات إلغاء الدعم أربع مرات منذ عام 2015، وكان آخرها في فبراير 2022 وهي المحاولة التي باءت بالفشل كسابقاتها، مما يُنذر ببقاء الأزمة وتفاقمها ما لم تتخذ نيجيريا التدابير اللازمة لوقف هذه المهازل، وعكس خسارتها في المعركة ضد لصوص ومهربي النفط.
- الصراعات والإرهاب في دلتا النيجر:
تعاني البنية التحتية لحقول النفط في نيجيريا، وخاصة في دلتا النيجر، من مشكلات فنية وتقنية متعددة مما يُضعف إنتاجيتها، فضلًا عن التهديدات التي تشكلها الجماعات المتمردة في منطقة دلتا النيجر، حيث تعاني المنطقة من نزاع منذ التسعينيات بين القوّات الحكومية وحرّاس شركات النفط من جهة، ومجموعات مسلّحة ذات طابع عرقي من جهة أخرى، نتيجة للتوترات التي نشأت بسبب شعور بعض الجماعات التي تعيش في المنطقة باستغلال شركات النفط الأجنبية، بمساعدة الحكومة النيجيرية، لمقدرات المنطقة مع الوعود بمنافع اقتصادية لم تحقق أبدًا، بل على العكس تردت أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والبيئية أيضًا في ظل التسريبات المتكررة للنفط.
وتهاجم هذه المجموعات المسلحة المنشآت النفطية بين حين وآخر، تدمر البنية التحتية لقطاع النفط وتمارس القرصنة وتختطف رهائن. وشهد شهر ديسمبر 2020 وحده 43 هجومًا استهدف خطوط النفط في دلتا النيجر، وعلى الرغم من محاولة الرئيس النيجيري “بخاري” تهدئة الأوضاع وتحقيق بعض مطالب الجماعات المتمردة على مدار السنوات الماضية؛ إلّا أن مجموعة تسمّي نفسها تنظيم “منتقمو دلتا النيجر” أعلنت مسئوليتها عن كثير من الهجمات مبررة ذلك بأن شركات النفط تسيء لمصالح السكان المحليين، وأدت عمليات التخريب المتكررة في المنطقة إلى هروب العديد من الشركات الأجنبية وعزوف المستثمرين عنها، مما أدى إلى تراجع قدرات إنتاج النفط الخام في نيجيريا من 2.2 مليون برميل يوميًا إلى ما دون 1.5 مليون برميل، كما أدى تجدد الهجمات على المنشآت النفطية إلى تفاقم الوضع، مع توقعات غير مبشرة لإنتاج النفط، نتيجة استمرار المشكلات الفنية والتشغيلية، إلى جانب المخاوف الأمنية المتزايدة.
- الفساد وسوء الإدارة:
أعادت قضية الوقود المغشوش التي تعاني منها نيجيريا حاليًا، أزمة الفساد وسوء الإدارة للطفو على السطح مرة أخرى، حيث تبادلت بعض الجهات الاتهامات حول مسئولية استيراد الوقود المغشوش، بما في ذلك اتهامات بتورط مسئولين بمؤسسة النفط الوطنية في الصفقة، واتهم حزب الشعب الديمقراطي المعارض (PDP) حزب المؤتمر التقدمي (APC) بتوفير غطاء لقادته المتورطين في استيراد الوقود المغشوش إلى البلاد، نظرًا لكونه وقودًا رخيصًا للغاية، للاحتيال على النيجيريين وجمع مليارات النايرات بشكل غير قانوني لاستخدامها فيما بعد في تمويل الدعاية الانتخابية وتزوير انتخابات لعام 2023.
كما أعد تحالف المنتدى الشمالي، الذي يضم 25 منظمة مدنية، قائمة بأسماء المسئولين المتسبّبين في أزمة الوقود في نيجيريا، وطالب الحكومة النيجيرية بإقالتهم من مناصبهم، ومن بينهم المدير التنفيذي لشركة النفط الوطنية “ميلي كولو كياري”، والرئيس التنفيذي لهيئة تنظيم النفط “فاروق أحمد”، لاتهامهم بالتواطؤ مع مستوردين مجهولي الهوية وغير مرخّص لهم بالعمل، لاستيراد شحنات وقود غير مطابقة للمواصفات، فضلًا عن التسبب في خسارة الدولة ما يقدر بنحو 200 مليار نايرا، تكلفة إزاحة الوقود المغشوش وتنقيته، وأمهلهم 72 ساعة للاستجابة لهذا المطلب، مهددًا بتبنّي “أعمال جماهيرية” حال عدم تنفيذ المطالب في غضون المهلة المحددة.
وتجدر الاشارة إلى أنه في 1 ديسمبر 2016، وافقت نيجيريا وبنين وتوغو وغانا وكوت ديفوار في أبوجا على حظر استيراد الوقود الملوث من أوروبا، لكن نيجيريا لم تنفذ ذلك، ولم تدرج في بروتوكول فحص الجودة المستخدم في موانئ نيجيريا اختبار نسبة الميثانول في الوقود المستورد، وهو ما ضاعف الشكوك حول تواطؤ مسئولين حكوميين في الأزمة.
ومع ذلك، فهذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها المؤسسة الحكومية مثل تلك الاتهامات، ففي عام 2011 وجَّهت فرقة العمل الخاصة بإيرادات النفط اتهامًا لمؤسسة النفط الوطنية لعدم قدرتها على كشف حساب مليار دولار دفعته لها شركات النفط، وبالإضافة لذلك فإن سوء إدارة مصافي النفط العامة الأربع في البلاد على مر السنين من قبل الحكومات المتعاقبة، وإهدار مليارات الدولارات في أعمال صيانة غير مجدية، كان السبب وراء تدنّي القدرة التكريرية للمصافي، وشروع حكومة أكبر منتج للنفط الخام في إفريقيا في استيراد كميات كبيرة من المنتجات النفطية المكررة، مما أدى إلى زيادات متواصلة في أسعار المنتجات النفطية المكررة، فضلًا عن دور الوسطاء، وصفقات الترخيص المبهمة والمشبوهة، بالإضافة إلى الفساد في منظومة دعم الوقود، الذي لم تستطع حكومة بخاري التعامل معه، خوفًا من الاحتجاجات الناتجة عن ارتفاع الأسعار، واختارت ترحيله للحكومة التي ستأتي بها الانتخابات القادمة في عام 2023.